الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
الحماسة الشجرية
إن صاحب الحماسة الشجرية، هو نفسه أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة المعروف بابن الشجري صاحب "الأمالي" التي مر حديثها في باب الأمالي الذي توفي عام 524هـ بعد أن عمر عمرًا غير قصير وأنتج بين ما أنتج من آثار أدبية، هذه الحماسة التي تحمل اسمه مثلما حملته الأمالي أيضًا.
وينبغي لنا ألا نخلط بين حماسة ابن الشجري ومختارات أشعار العرب لابن الشجري فهما كتابان مستقل كلاهما عن الآخر، ذلك أن ديوان مختارات ابن الشجري لا يزال مخطوطًا، ويختلف في منهجه وطريقة اختياره اختلافًا جوهريًّا عن الحماسة. إنه خمسون قصيدة وبضع مقطوعات كلها لشعراء جاهليين باستثناء الحطيئة فإنه مخضرم، وهو يكاد يكون مجموعة دواوين صغيرة لبعض الشعراء الذين ذكرنا صفتهم، إنه يضم بين ما يضم من القصائد سبعًا لزهير، واثنتى عشرة لعبيد بن الأبرص وثلاث عشرة للحطيئة.
أما حماسة ابن الشجري فإنها امتداد طبيعي لسلسلة كتب الحماسة التي بدأ أبو تمام بتصنيفها ثم حذا حذوه تلميذه البحتري. وإنه لمن الطبيعي أن يتأثر ابن الشجري بمنهج كل من سابقيه أبي تمام والبحتري، ثم يزيد على منهجيهما ما أملته طبيعة مسيرة الزمن وتطور فن الشعر.
ذلك أن حماسة ابن الشجري أقرب من حيث التبويب إلى حماسة أبي تمام منها إلى
البحتري، وهي من حيث التفصيل أقرب إلى حماسة البحتري منها إلى أبي تمام، هذا فضلًا عن تغيرات في المنهج وتفصيلات في العرض وملاحظ في مجموعها سوف نسوق حديثها بعد قليل.
إنها من حيث العدد تبلغ تسعمائة وأربعًا وأربعين حماسية، ومن حيث التبويب تشمل الأبواب الآتية: باب الشدة والشجاعة، وباب اللوم والعتاب، وباب المراثي، وباب المديح، وباب الهجاء، وباب الأدب، وباب النسيب، وباب الصفات والتشبيهات، وباب الملح.
هذا ونود أن نستعرض حماسة ابن الشجري من خلال نظرة فاحصة لما اتسمت به من مواقف تتصل بالشعر والشعراء أملتها طبيعة الزمن، ولما وضح فيها من تغيرات في الموضوعات أملاها المنهج الذي اختاره المصنف لنفسه.
فأما من حيث الشعر والشعراء فإننا نلاحظ ما يلي:
أولًا: أولى ابن الشجري اهتمامًا كبيرًا للشعراء المحدثين، وبعض الأمويين فعمد إلى الإكثار من الاختيار لشعرهم بحيث يجعل منهم نجومًا لحماسته، وهم: أبو نواس، أبو تمام، البحتري، ابن الرومي، ابن المعتز، الشريف المرتضى. ومن الأمويين أكثر من الاختيار لكل من جرير والفرزدق، والأخطل.
ثانيًا: واصل ابن الشجري متابعة مسيرة الشعر حتى عصره، أي القرن السادس ولكن في تعثر شديد، فكان ضنينًا بالاختيار من شعر شعراء القرون الرابع، والخامس، والسادس، ففي الوقت الذي وفى فيه شعراء القرنين الثاني، والثالث حقهم من الاختيار لهم بدًّا وكأنه يخيل بشعراء القرن الرابع، فإذا ما اختار حماسيات لبعضهم فإنه يختار في بخل وحذر، اللهم إلا الشريف الرضي فإنه اختار له ثلاث عشرة مقطوعة أو حماسية، بل إنه مما يدعو إلى التعجب أن يتجاهل ابن الشجري أبا الطيب المتنبي شاعر العربية الكبير، فلا يأتي له إلا بمقطوعتين كل منهما بيتان قصد بهما تشبيهًا بلاغيًّا وليس هدفًا موضوعيًّا1. ويكاد يفعل الأمر نفسه مع أبي فراس الحمداني، لقد اختار له أربع قطع: واحدة في الغزل وأخرى في الرثاء واثنين في العتاب. أما الحماسة والفروسية، فإنه تجاهلهما تمامًا وكأن أبا فراس لا علاقة له بالحماسة ولا بالحرب ولا بالفروسية، وكأنهم لم يقل شيئًا من هذا القبيل في شعره، ولعمر الحق إذا لم يكن كل من أبي الطيب المتنبي، وأبي فراس الحمداني شعراء حرب
1 الحماسيتان رقم "869، 870 ص 897" من الحماسة الشجرية.
وفروسية وحماسة فمن يكون إذن لها؟
وأما شعراء القرن الخامس، فلا نكاد نرى له من الاختيارات إلا ما اختاره للشريف المرتضى الذي عاش نصف عمره الأدبي في القرن الرابع، ونصفه الآخر في القرن الخامس.
وأما شعراء القرن السادس، فكانوا أوفر حظًّا فقد اختار لاثنين منهمهما القاضي الأرجاني المتوفى سنة 544هـ أي بعد عامين من وفاة ابن الشجري، وزيد بن الحسن الكندي 520 - 613هـ، هذا ويمكن أن نشك في أن أبيات القاضي الأرجاني من اختيارات ابن الشجري فقد وردت في آخر قسم من الديوان تحت عنوان "الأشعار المزيدة على أصل الكتاب".
ثالثًا: لم يضن ابن الشجري على الشاعرات العربيات بنصيب جعله لهن في اختياراته، وإن كانت أكثر اختياراته لهن في الرثاء، فأورد مختارات فيهذا الباب لكل من رفاعة بنت شداد المرية، كبشة بنت الشيطان الكندية، سعدى بنت الشمردل، جنوب الهذلية، ليلى الأخيلية، الخنساء، مية أخت قبيصة بن ضرار، ليلى بنت طريف، وهي نفسها الفارعة بنت طريف الشيبانية: أورد لها ستة أبيات فقط من مرثيتها الفائية الرائعة، بنت ملاعب الأسنة ترثي أباها بأرجوزة ولم يذكر اسم الشاعرة.
وقد جاء بمقطوعة غزلية لرضا الهلالية، ومقطوعتين من الشعر المكشوف لأم الضحاك المحاربية.
إن ابن الشجري لم يزد إلا القليل على ذلك الذي أورده أستاذاه في حماسيتهما في بعض ناحية، وقصر عنهما في ناحية أخرى.
رابعًا: عمد ابن الشجري، وربما لأول مرة بين أصحاب دواوين الحماسة إلى رواية قصة يتمثل بطلها بلون معين من الشعر وهو الغزل، ويجعل من كل مثال يتمثل به مقطوعة مستقلة أو حماسية مستقلة، ولو كانت بيتًا واحدًا لا غير، وهي محاولة -كما ذكرنا- فريدة عند أصحاب كتب الحماسة، وقد يكون من الترويح على أنفسنا وعلى قارئنا أن نوردهذا المنزع الجديد في الحماسيات المتضمنة في قصة أو خبر1:
روى ابن دريد قال: أخبرنا الرياشي عن الأصمعي قال، حدثني منتجع بن نبهان قال أخبرني رجل من بني الصيداء من أهل الصريم قال: كنت أهوى جارية من باهلة فأخافني قومها وأخذوا علي المسالك، فخرجت ذات يوم فإذا حمامات يسجعن في أفنان أيكات متناوحات في سرارة واد فاستفزني الشوق، فركبت وأنا أقول:
1 حماسة ابن الشجري "ص 512 - 515".
دعت فوق أغصانٍ من الأيك غدوة
…
مطوقة ورقاء في إثر آلف
فهاجت عقابيل الهوى إذ ترنمت
…
وشبت ضرام الشوق بين الشراسف
بكت بجفون دمعها غير ذارف
…
فأغرت جفوني بالدموع الذوارف
ثم سرت فأتيت أرضها فأواني الليل إلى حي، فخفت أن يكونوا من قومها فبت بالقفز فلما هدأت الرجل، ورنقت في عيني سنة إذا قائل يقول:
تمتع من شميم عرار نجدٍ
…
فما بعد العشية من عرار
فتفاءلت -علم الله- ثم غلبتني عيناي فإذا آخر يقول:
ولاميَّ بعد اليوم إلا تعلة
…
من الطيف أو تلقى لها منزلًا قفرا
فزادني ذلك قلقًا فمنت فإذا ثالث يقول:
لن يلبث القرناء أن يتفرقوا
…
ليل يكر عليهم ونهار
فقمت وركبت ناقتي متنكبًا الطريق، فلما برق الفجر، إذا راعٍ من الشروق قد سرح غنمًا، وهو يتمثل:
كفى بالليالي مخلقات لجدة
…
وبالموت قطاعًا حبال القرائن
فأظلمت علي الأرض، فتأملته فعرفته فقلت: فلان؟ فقال: فلان. قلت ما وراءك؟ قال: ضاجعت والله رملة الثرى، فما تملكت أن سقطت عن بعيري فما أفقت حتى حميت علي الشمس، فاستيقظت، وقد عقل الغلام ناقتي ومضى فكررت وأنا أقول:
يا راعي الضأن قد أبقيت لي كمدًا
…
يبقى ويقلقني يا راعي الضأن
نعيت نفسي إلى نفسي فكيف إذن
…
أبقى ونفسي في أثناء أكفان؟
وأما من حيث الملامح التي بدت لنا متغيرة عن سالف منهج الحماسات، فيمكن أن نلم بها في القضايا الآتية:
أولًا: إن باب الحماسة -باب الشدة والشجاعة- الذي عودنا أصحابها السابقون وبخاصة أبو تمام أن يكون أطول باب من أبواب هذا اللون من التصنيف، لم يعد أطول الأبواب عند ابن الشجري، فإن عدد حماسياته لم تزد على مائة وإحدى وثمانين في حين عدد الحماسيات جميعًا تسعمائة وأربع وأربعون. وليس ذلك هو ما لفت نظرنا وحده، وإنما هناك ظاهرة أخرى بدت واضحة في طريقة اختيار ابن الشجري لشعراء هذا الباب، فبعد أن كانت الأبيات تنتخب للشعراء الفرسان من جاهليين وإسلاميين دون ما سمة مذهبية لاحظنا أن صفة ابن الشجري الشيعية الهاشمية تنعكس على اختياراته في باب الشدة والشجاعة، فإلى جانب شعر عنترة، وعمرو بن معد يكرب، وشعراء المعلقات نجد شعرًا لكل من العباس، وأبي طالب ابني عبد المطلب1 وإن كان قد خص أبا طالب بخمس حماسيات، وعبد المطلب بحماسية واحدة، هذا فضلًا عن شعر وقعتي الجمل وصفين.
ولكن الرجل والحق يقال لم يغفل ذكر شعر بعض معارضي الشيعة، فقد اختار حماسيات لقطري بن الفجاءة رأس الخوارج، ونفر آخر من الشراة، بل إنه أتى بعدة حماسيات من شعر الصعاليك. ومهما يكن من أمر قصر هذا الباب نسبيًّا فإن به تلوينًا لا بأس به وتنويعًا وتفريعًا لشعر الحماسة، الأمر الذي دفع به إلى أن يجعل عنوان بابه الأول الشجاعة والشدة.
ثانيًا: عمد ابن الشجري إلى تفريع بعض أبواب حماسته تفريعًا فنيًّا فيه الكثير من التشويق، والتنويع بخاصة في بابي النسيب، والصفات والتشبيهات، وهذا الباب الثاني لنا معه حديث بعد قليل، فإذا ما عرضنا لباب الغزل وجدنا ابن الشجري يقسم هذا الباب إلى فصول عدة، جعل الفصل الأول لاختيارات من شعر العشاق المشهورين في نطاق حماسيات يبدون من خلالها شكواهم ولوعتهم ووجدهم وصبابتهم مثل المجنون، وقيس بن ذريح ويزيد بن الطثرية، وعروة بن حزام، وجميل بن معمر، وكثير بن عبد الرحمن، والأحوص، والعرجي، وبعض من أحسنوا القول في الغزل مثل سحيم، وأبي حية النميري، والحسين بن مطير. وفي الفصل نفسه يأتي بقطعتين من غزل النساء لأم الضحاك المحاربية، وقطعة لضاحية الهلالية. ولعل من الغرابة بمكان أن يختار ابن الشجري لأكثر الشعراء العشاق من عذريين وماديين ويغفل أو ينسى عمر بن أبي ربيعة في حين أتى بمقطوعات لتلميذيه الأحوص، والعرجي. إن هذا الفصل من باب الغزل يشتمل على غنائيات كثيرة مما يطرب له السمع، وتلذ الأذن ويهتز الوجدان.
1 الحماسيات "رقم 37، 38، 39، 40، 41،" لأبي طالب والحماسية رقم "42" للعباس.
وفي نطاق باب النسيب يفرد ابن الشجري، فصلًا لطيفًا يضم مقطوعات عدة قيلت في الحنين إلى الأوطان، ثم يتبعها بفصل آخر في الارتياح عند هبوب الريح، وآخر في الاشتياق عند لمعان البروق، وآخر في النزاع عند نوح الحمام، وغيره في الشوق عند حنين الإبل يتبعه بفصل في الطيف، والخيال أكثر مقطوعاته للبحتري، ولشدة إعجاب ابن الشجري بمن عرفوا بالشعراء المحدثين يجعل آخر فصل في باب النسيب هذا الوفير الفصول لمقطتفات أكثرها من شعر هؤلاء المعروفين بهذه الصفة.
إنه باب ممتع على كل حال من أبواب حماسة ابن الشجري.
ثالثًا: إن أكبر باب من أبواب هذه الحماسة، هو باب الصفات والتشبيهات، إنه باب جديد على الحماسات وأما الصفات فقد فهمنا أنه قصد بها الوصف ولا بأس في ذلك، ولكن أن يقرن المصنف الوصف بالتشبيه ويفرد لهما بابًا واحدًا وإن تعددت فصوله، فذلك شيء جديد على فن الحماسات إن جاز لنا أن نسمي هذا اللون من التصنيف فنًّا، لقد ضم هذا الباب ثلاثمائة وثماني وخمسين حماسية -أي مقطوعة أو قصيدة- وهذا يعني أن هذا الباب استغرق ثلث الديوان مضافًا إليه أربعًا وأربعين مقطوعة.
لقد فرضت طبيعة الباب، وتشعب موضوعاته على ابن الشجري أن يقدمه بهذا الطول، وأن يقسمه إلى فصول عدة هي حسب ترتيبها: فصل من صفات النساء، فصل في وصف النار، فصل في وصف التنائف والوحش، والإبل، والركب وأخبية السفر، الصفات، والتشبيهات في الليل والنجوم والمجرة والهلال والصبح، الصفات والتشبيهات في الرياض والمياه والنبات، الصفات والتشبيهات في السحاب والغيث والبرق، صفات آلة الحرب وتشبيهاتها، صفات الكتب والخط وآلته، صفات الشعر، الصفات في الشيب والشباب والخضاب، الصفات والتشبيهات الخمرية، التشبيهات الغزلية، تشبيهات المدح، تشبيهات الهجاء، تشبيهات وصفات في معانٍ مختلفة.
قد يبدو لنا أنه كان من الميسور على المصنف أن يختصر هذا الباب الطويل في ما لو رد الكثير من فصوله إلى أبوابها الأصيلة، ففصل النساء مثلًا يضم مقطوعات من عذوبة الريق، وطيب الحديث، والعين والنظر، والوجه والثغر، وحسن الحديث وطيبه، وهو فصل طويل نوعًا وكان من الممكن أن يدخل في باب النسيب الذي أفرد له المصنف بابًا سبق لنا استعراضه والحديث عنه. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن التشبيهات الغزلية.
وفصل تشبيهات المدح كان من الممكن أن يلحق بباب المديح، والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة إلى فصل تشبيهات الهجاء، وهكذا يكون ابن الشجري قد خرج عن جادة المنهج السليم، الذي انتهجه أبو تمام في حماسته طالما كان تبويبه أقرب ما يكون إلى أبي
تمام دون غيره من أصحاب الحماسات.
ولكن ابن الشجري ربما فكر في أن يجعل هذه الفصول المتنافر منها والمتآلف تحت عنوان أقرب ما يكون إلى علم البيان وهو التشبيهات، ومن ثم التمس لنفسه عذرًا فحشد هذا الشتات المتآلف والمتخالف تحت فصل واحد يجمعه عنوان التشبيهات.
أما بقية التفريعات الأخرى مثل فصل الليل والنجوم، والهلال والصبح، أو الرياض والمياه والنبات، أو السحاب والغيث والبرق، أو آلة الحر، أو الكتب والخط، أو الشعر، أو الشيب أو الخضاب، فإنه مما يمكن أن يجمع تحت باب واحد.
وأما فصل الخمر فأكثره لأبي نواس فقد أتى فيه وحده بتسع عشرة قصيدة أو مقطوعة، وجاء لغيره من بقية شعراء العربية بأربع عشرة قصيدة أو مقطوعة، ومع أن أبا نواس هو أشهر شعراء الخمراء فإن طبيعة منهج الاختيارات يقتضي التنوع، ولو شاء ابن الشجري لتمثل لشعراء مجيدين في هذا الفن من شعراء القرن الرابع الذين أهمل شأنهم، وأخمل ذكرهم وفي مقدمتهم كشاجم والوأواء الدمشقي والسري الرفاء والصنوبري، ولكل منهم في الخمر أبيات فريدة ومعانٍ مبتكرة، بل إن واحدًا منهم هو كشاجم قد ألف كتابًا أسماه "أدب النديم" ذكر فيه الكثير من شعر الخمر، من وصف وتشبيهات وصفات للنديم، والساقي، والاستضافة، والاستهداء إلى غير ذلك مما فضله المتأخرون من الشعراء وبرعوا في إجادة القول فيه.
على أنه من النصفة بمكان أن نذكر لابن الشجري في هذا الباب الأخير أمرين على جانب من الأهمية والخطورة:
الأمر الأول: هو تذوقه الفني للشعر وشفافيته الصافية في حسن الاختيار بحيث قدم في أكثر فصول هذا الباب الطويل نماذج من طرف الشعر وبديعه، وهل هناك ألطف من أبيات ابن الرومي وهو يصف غروب الشمس قائلًا1:
إذا رنقت شمس الأصيل ونفضت
…
على الأفق الغربي ورسا مدعدعا
ولاحظت النوار وهي مريضة
…
وقد وضعت خدًّا إلى الأرض أضرعا
كما لاحظت عواده عين مدنفٍ
…
توجع من أوصابه ما توجعا
1 حماسة ابن الشجري -حماسية رقم "660، ص734".
وظلت عيون النور تخضل بالندى
…
كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا
والأمثلة والنماذج كثيرة متناثرة في فصول هذا الباب، تناثر الجوهر على صدر الحسناء.
والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا الباب، هو اهتمام ابن الشجري وفطنته إلى الشعر المرتبط بأسباب الثقافة، والعلم كوصف الكتب والرسائل التي يتبادلها الأنداد والأصحاب والمتحابون، فهذا أبو محمد المهلبي الوزير يصف كتابًا بهذا الشعر الطريف1:
وفضضته فوجدته
…
ليلًا على صفحات نور
مثل السوالف والجباه الـ
…
ـبيض زينت بالشعور
وكنظم در كالثغو
…
ر وكالعقود على النحور
أنزلنه مني بمنـ
…
ـزلة القلوب من الصدور
أو قول أبي تمام في الغرض نفسه وهو أرق وأحلى من قول سابقه على رقته2:
فضضت ختامه فتبلجت لي
…
غرائبه عن الزهر الجني
وضمن صدره ما لم تضمن
…
صدور الغانيات من الحلي
ولا يسعنا أن نتجاهل أبيات زيد بن الحسن الكندي، وهو يصف الدفاتر هذا الوصف الخلاب الفريد3:
خرس تحدث آخرًا عن أول
…
بعجائب سلفت ولسن أوائلا
سقيت بأطراف اليراع بطونها
…
وظهورها طلًّا أحم ووابلا
تلقاك في حمر الثياب وسودها
…
فتخالهن عرائسًا وثواكلا
1 حماسية ابن الشجري، حماسية رقم "744، ص802".
2 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
3 المصدر السابق الحماسية رقم "742، ص800".
وتريك ما قد فات من دهر مضى
…
حتى تراه بعين فكرك ماثلا
وكان باستطاعة ابن الشجري أن يكثر من الإتيان بعديد النماذج لهذا اللون من شعر الثقافة والمثقفين، مثل وصف القلم لأبي تمام أو وصف الكتاب للعتابي، وغيرهم ممن أحسوا بجلال المعرفة وحلاوة العلم فصاغوا في أدواتهما شعرًا عذبًا جميلًا موافقًا.
رابعًا: أفرد ابن الشجري بابًا "بكامله" للملح لم يزد على أن أتى فيه بثلاث وثلاثين مقطوعة قصيرة أكثرها يمكن ردها إلى باب بعينه من أبواب الشعر -ولا بأس في ذلك- إلا أن منهجًا متكاملًا لا يستقيم بباب عدد حماسياته ثلاث وثلاثون، وباب آخر عدد حماسياته ثلاثمائة ثمان وخمسون أي ما ينوف عن عشرة أضعاف العدد.
وأكثر ملح هذا الباب ليست من الملاحة بمكان بل إن بعض ما جاء به مصنفنا في باب الهجاء ربما كان أكثر طرافة وأوفر ملاحة، على الرغم من سلاطة لسان قائله، مثال ذلك قول شاعر أغفل المصنف اسمه1:
إذا ولدت حليلة باهلي
…
غلامًا زيد في عدد اللئام
ولو أن الخليفة باهلي
…
لقصر عن مساعاة الكرام
أو قول الفرزدق2:
لو أن قدرًا بكت من طول ما حبست
…
على الجفوف بكت قدر ابن عمار
ما مسها دسم مذ فض معدنها
…
ولا رأت بعد نار القين من نار
ومهما يكن من أمر حماسة ابن الشجري فهي واحدة من أنفس الحماسات، التي وصلت إلينا وأثمنها قيمة وأرفعها قدرًا، يجد فيها الآمل بغيته وطالب الثقافة حاجته، والمتأدب زاده وعدته، وهي إحدى الثمار الجنية النفيسة التي تركها هذا العالم الجليل الذي سبق أن تحدثنا عن تحفته الأخرى "الأمالي" حسبما مر بنا ذلك في مكانه من هذا الكتاب.
1 المصدر نفسه الحماسية رقم "367 ص 443".
2 المصدر: حماسيته رقم "384 ص 457".