الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
حماسة البحتري
إن أبا عبادة، الوليد بن عبيد المشهور بالبحتري الشاعر، المبدع الرقيق كان تلميذًا لأبي تمام وإليه ينتمي في القربى والمحتد، فكل منهما طائي، وكل منهما أيضًا مدح الكثير من الطائيين الذين تولوا مراكز مرموقة في الدولة العباسية فضلًا عن مدحهما الخلفاء أنفسهم، وقد كان البحتري مثالًا نبيلًا في الولاء لأستاذه أبي تمام، وحينما نضج شعره ورق وذاع وجرى على الألسنة، وأنشد في المحافل والمنتديات حاول بعض المتأدبين أن يجاملوه بتفضيل شعره على شعر أبي تمام، فكان البحتري -وفاء منه لأستاذه- يقول: والله ما أكلت الخبز إلا به.
وكان البحتري يحتذي مسيرة أبي تمام في فنه وإن اختلف معه في ديباجة الشعر وصوغه، ولكنه وقد رأى أستاذه انتخب تلك الاختيارات الشعرية الرائعة وأسماها "الحماسة" لم يرد أن يتخلف عنه في هذا الصنيع، وأقبل على دواوين الشعراء وصدور الرواة وحرك حافظته النثرية الغنية، واختار العديد من القصائد والمقطوعات وضمنها كتابًا أطلق عليه نفس عنوان كتاب اختيارات أستاذه وسماه أيضًا: الحماسة. والجدير بالذكر أن البحتري ليس غريبًا على التأليف فضلًا عن الاختيار والتصنيف، فقد ذكر له كثير من مترجمي حياته أنه ألف كتابًا عرف باسم "كتاب معاني الشعر"1.
2 معجم الأدباء "6/ 35".
وإذا كانت اختيارات البحتري قد حملت اسم "الحماسة" عنوانًا لها فإن ذلك يعني أنه اقتفى أثر أبي تمام في إطلاق اسم الجزء على الكل، فإن البحتري استهل "حماسته" بالعديد من الأبواب في ذكر شعر الحماسة، فإذا كان أبو تمام قد استهل حماسته بالقصيدة المشهورة:
لو كنت من مازن لم تسبح إبلي
…
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
فإن البحتري يستهل حماسته بأبيات عمرو بن الإطنابة الخزرجي التي يقول فيها1:
أبت لي عفتي وأبى إبائي
…
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على المعسور مالي
…
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
…
مكانك تحمدي أو تستريحي
وأدفع عن مكارم صالحات
…
فأحمي بعد عن عرضٍ صحيح
وهي أبيات ربما فاقت في سمو معانيها، وشدة حماستها معاني أبيات العنبري التي افتتح بها أبو تمام حماسته، إن هذه الأبيات الحماسية التي استهل بها البحتري حماسته كانت السبب فيما يروى عن معاوية بن أبي سفيان في ثباته يوم صفين وعدم فراره، قد روي عنه أنه قال: لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين وهممت بالفرار فما منعني إلا قول ابن الإطنابة:
أبت لي عفتي وأبي إبائي
…
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
إلى آخر الأبيات:
وإذا كان أبو تمام قد جعل "حماسته" في أحد عشر بابًا، فإن البحتري قد جعل "حماسته" في مائة وأربعة وسبعين بابًا، ولكن شتان الفرق بين الباب عند أبي تمام وبينه عند البحتري، فهو عند الأول أطول ويحتوي على موضوعات فرعية أكثر، ولكن الذي لا شك فيه أن حماسة البحتري أكبر من حماسة أبي تمام من حيث عدد المقطوعات والقصائد التي ضمتها دفتا كل منهما، فإذا كانت حماسة أبي تمام تضم ثمانمائة وإحدى وثمانين حماسية ما
1 حماسة البحتري "ص9".
بين قصيدة ومقطوعة، فإن حماسة البحتري تضم ألفًا وأربعمائة وأربعًا وخمسين حماسية ما بين قصيدة ومقطوعة.
ونستطيع أن نوضح منهج حماسة البحتري وملامحها على الوجه التالي:
أولًا: عمد البحتري إلى الإكثار من وضع عناوين لأبواب حماسياته بحيث صارت إلى العدد الكبير الذي ذكرناه قبل قليل ربما ليعين القارئ على الانتفاع بهذه المختارات وييسر له طريق الانتفاع بها، فهو يجعل للشيب والشباب على سبيل المثال سبعة أبواب تبدأ من الباب المائة والستة عشر، وتنتهي عند الباب المائة والثاني والعشرين، وهذه الأبواب السبعة تضم مائة وسبعًا وثلاثين حماسية.
بل إن البحتري -في نطاق منهجه الذي ييسر من خلاله على القارئ- يجعل عناوين أبواب الشيب والشباب على النحو التالي:
الباب رقم 116 يتمثل فيه بما قيل في الشباب والشيب بإحدى وأربعين حماسية، ويجعل الباب رقم 117 فيما قيل عن الاعتذار عن الشيب، والباب رقم 118 فيما قيل في مدح الشباب، والباب 119 فيما قيل في قبح الصبابة بذي الشيب، والباب 120 في مدح الشباب وذم الشيب، وكل باب من هذه التي ذكرنا -باستثناء الباب 116 - يضم ثماني حماسيات، ثم يجعل الباب رقم 121 فيما قيل في مدح الشيب وذم الشباب، ويأتي فيه بست حماسيات، ثم يجعل الباب رقم 122 فيما قيل في الكبر والهرم ويضم سبعًا وثلاثين حماسية.
إن البحتري قصد في منهج وضع اختياراته إلى التفصيل عمدًا، بل إنه جعل من الحماسة نفسها -التي احتلت بابًا واحدًا عند أبي تمام- تمثل عنده خمسة عشر بابًا على الترتيب التالي ابتداء بالأول وانتهاء بالباب الخامس عشر: فيما قيل في حمل النفس على المكروه، فيما قيل في الفتك، فيما قيل في الإصحار للأعداء والمكاشفة لهم وترك التستر منهم، فيما قيل في مجاملة الأعداء وترك كشفهم عما في قلوبهم، فيما قيل في الإطراق حتى تمكن الفرصة، فيما قيل في بقاء الإحنة ونمو الحقد وإن طال الزمن، فيما قيل في الأنفة والامتناع عن الضيم والخسف، فيما قيل في ركوب الموت خشية العار، فيما قيل في الاستسلام على الذل بعد الامتناع، فيما قيل في التحريض على القتل بالثأر وترك قبول الدية، فيما قيل في الامتناع عن الصلح، فيما قيل في التشمير عند الحرب ورفض النساء، فيما قيل في إدراك الثأر والاشتفاء من العدو، فيما قيل في ذم الفرار والتعبير به، فيما قيل في استطابة الموت عند الحرب.
بل إن البحتري يغلو في إطالة عنوان الباب غلوًّا شديدًا يخرجه عن طبيعة كونه عنوانًا،
مثل الباب الأربعين وعنوانه يطول هكذا: فيما قيل في من يدنو من إخوانه إذا استغنى ويتباعد إذا افتقر، ويزيده غناه إكرامًا لمن افتقر. أو مثل الباب المائة والستين وعنوانه بهذا الطول: فيما قيل في إسعاف الكريم بحاجته، وترك احتقاره إن تحامل الدهر عليه رجاء أن تعود العاقبة بما يسره. وقس على ذلك كثير.
ثانيًا: جعل البحتري الأخلاق والتربية -فيما نرجح- هدفًا من أهدافه في جميع اختياراته، وذلك أن حماسته تخلو من الشعر الماجن أو الملح التي تخدش الحياء كتلك التي أورد أبو تمام كثيرًا منها في حماسته. إننا إذا نظرنا إلى أبواب حماسيات البحتري وجدنا بينها الكثير الوفير مما يحفز على فعل المكارم، ويجنب التردي في المزالق، فمن بين أبواب كتابه تلك الموضوعات: ما قيل في إخلاف الوعد، ما قيل في صحة المودة وحفظ الإخاء، ما قيل في إخلاص المودة وإدامتها، ما قيل في رعاية الأمانة وترك الخيانة، ما قيل في ذم عاقبة البغي والظلم، ما قيل في الحرص والشره وذمهما، ما قيل في المطامع وإنها تذل صاحبها، ما قيل في جر صغير الأمر للكبير، ما قيل في الغدر والخيانة وذمهما، ما قيل في الوفاء وحمده، ما قيل في إنجاز الوعد وترك المطل، هذا قليل من كثير من أبواب الأخلاق والشمائل في حماسة البحتري، وكل باب من هذه الأبواب يحتوي على العديد من النماذج الشعرية التي اصطلح بعض الشرح على تسميتها حماسات.
هذا وكثير من الحماسات تزيد على عشرين بيتًا1 وأحيانًا كثيرة تكون الحماسية بيتًا واحدًا، وهو منهج مشابه لأبي تمام في هذا النحو حسبما مر عند حديثنا عن حماسة أبي تمام.
ثالثًا: خص البحتري شعر المرأة العربية بباب طويل هو الباب الأخير من حماسته ولكنه اقتصر على إيراد المراثي من شعرهن، وهي مراث من الشعر الرفيع لشاعرات بعضهن معروفات مشهورات لجمهرة الدارسين المتخصصين مثل ليلى بنت طريف المعروفة بالفارعة، ومثل الخنساء، وليلى الأخيلية، وبعض آخر منهن غير مشهورات مثل عمرة الهذلية، وطيبة الباهلية وسلمى بنت الأحجم، وزينب بنت الطثرية، وأروى بنت الحباب، وقتيلة بنت النضر بن الحارث، وكلهن يرثين أبا أو أخا أو زوجًا باستثناء ليلى الأخيلية فإن رثاءها كان في صاحبها توبة الحميري، وقصتهما مشهورة معروفة.
وإذا كانت قصائد ليلى الأخيلية والفارعة والخنساء معروفة بالجودة والجزالة وقوة السبك، فإن ذلك لا يعني أن الأخريات أقل منهن جودة شعر وبراعة قول. فهذه طيبة الباهلية ترثي زوجها فتقول2:
1 حماسة البحتري "ص276".
2 المصدر "273، 274".
عشنا جميعا كغصني بانة سمتا
…
حنيًا على خير ما تنمي له الشجر
حتى إذا قيل قد عمت فروعهما
…
وطال قنواهما واستنصر الثمر
أخنى على واحدي ريب الزمان ولا
…
يبقي الزمان على شيء ولا يذر
فأذهب حميدًا على ما كان من حدث
…
فقد ذهبت فأنت السمع والبصر
وما رأيتك في قوم أسر بهم
…
إلا وأنت الذي في القوم تشتهر
كنا كأنجم ليل بيننا قمر
…
يجلو الدجى فهوى من بيننا القمر
وهذه سلمى بنت الأحجم ترثي إخوتها فتقول1:
رعوا من المجد أكنافًا إلى أمدٍ
…
حتى إذا كملت أظماؤهم وردوا
ميت بمصر وميت بالعراق وميت
…
بالحجاز منايا بينهم بدد
كانت لهم همم فرقن بينهم
…
إذا القعادد عن أمثالها قعدوا
بذل الجميل وتفريج الجليل وإعـ
…
ـطاء الجزيل إذا لم يعطه أحد
وهذه زينب بنت الطثرية ترثي أخاها يزيد بن الطثرية فتقول2:
أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري
…
مقيمًا وقد غالت يزيد غوائله
فتى قد قد السيف لا متضائل
…
ولا رهل لباته وبآدله
1 حماسة البحتري "ص274".
2 حماسة البحتري "275".
فتىً لا يرى خرق القميص بخصره
…
ولكنما توهي القميص كواهله
فتىً ليس لابن العم كالذئب إن رأى
…
بصاحبه يومًا دمًا فهو آكله
يسرك مظلومًا ويرضيك ظالمًا
…
وكل الذي حملته فهو حامله
إذا القوم أموا بيته فهو عامد
…
لأحسن ما أقواله وهو فاعله
إذا نزل الأضياف كان عذوَّرًا
…
على الحي حتى تستقر مراجله
إذا كان حين الجد يرضاك جده
…
وذو باطل إن شئت أرضاك باطله
مضى وورثناه دريس مفاضة
…
وأبيض هنديًّا طويلًا حمائله
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى
…
وأنت على من مات بعدك شاغله
إن ثمة فرقًا كبيرًا في طريقة الاختيار بين كل من أبي تمام والبحتري، فحين يورد أبو تمام اختيارات من الشعر الذي قيل في ذم المرأة ويجعله في باب مستقل بذاته من أبواب حماسته، ويبعثر شعرها النفيس في الأبواب الأخرى، أو يضمنه باب الرثاء دون الإشارة إليه في عناوين أبواب حماسته ومحتوياتها، يخصص البحتري في حماسته بابًا كاملًا يأتي فيه بنماذج جيدة رائعة لشعر المرأة نفسها وإن قصره على الرثاء. حبذا لو كان توسع في بابه هذا فجعله يشمل أغراضًا أخرى من شعر النساء.
رابعًا: على الرغم من أن البحتري أتى في حماسته بمختارات تكاد تصل إلى ضعف مختارات أبي تمام من حيث العدد، إلا أنه، أي البحتري، وقف باختياراته عند شعراء مخضرمي الدولتين. لقد وقف عند مطيع بن إياس المتوفى سنة 166هـ وأكثر من الاختيار لمعاصر مطيع وصديقه صالح بن عبد القدوس الذي توفي أو قتل قبل صاحبه بست سنين، وجاء له بخمس وأربعين قطعة -وهو عدد كبير- مفرقة على الأبواب المختلفة، وإن اختيار هذا العدد الكبير من المقطوعات لصالح بن عبد القدوس يشكل قرينة واضحة على أن البحتري استهدف من وراء اختياراته الحكمة وغرس الخلق الكريم، فقد كان "صالح" على
الرغم مما اتهم به من زندقة صاحب شعر عذب المعاني، نفيس القيمة، موشى بالحكمة والأخلاق.
نقول: إن البحتري وقف باختياراته عند بعض المخضرمين، وليس كلهم فليس يذكر الحسين بن مطير ولا ابن ميادة ولا مروان بن أبي حفصة، وكل هؤلاء شعراء مجيدون من مخضرمي الدولتين، وهو بالتالي لم يذكر أحدًا من الكبار العباسيين، ولم يختر لهم على الرغم من أن شعر كثير منهم يعتبر كله اختيارات كالعتابي والخريمي ومسلم بن الوليد وأشجع السلمي وأبي العتاهية، وفي النهاية أستاذه وموجهه أبي تمام.
أما حماسة أبي تمام، فلم يغفل صاحبها عن أن يأتي بكثير من الاختيارات النفيسة لعدد غير قليل من الشعراء المعاصرين له، وهذه ميزة كبرى، ميزة السبق الزمني على الرغم من أن أبا تمام مات قبل البحتري بأكثر من نصف قرن من الزمان.
وأخيرًا وبعد هذا العرض وتلك المقارنة السريعة فإن صاحب السبق فضلًا، وللمتبع أيضًا فضل، وإن هذه تكمل تلك بالنسبة للدارس المحصل، غير أن حماسة البحتري -والحق يقال- لم تلق ما هي خليقة به من الاحتفال حتى الآن، ففي الوقت الذي حظيت فيه حماسة أبي تمام بالعدد الوفير من الشراح من أعلام القدامى والمحدثين، فإن حماسة البحتري، وهذه قيمتها، وتلك نفاستها لم تجد حتى الآن من يعطيها جزءًا يسيرًا من الاهتمام التي حظيت به أختها حماسة أبي تمام.