الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس: كتب الأمالي:
الفصل الأول: نشأة الأمالي
ذهب بعض العلماء في مناهج تآليفهم إلى إملاء الموضوعات التي يريدون طرحها على أسماع تلاميذهم، فمثلًا كتاب "مجالس ثعلب" أطلق عليه أيضًا "أمالي ثعلب"، وليس في ذلك كبير مبالغة. فالكتاب مجموعة من الأمالي التي تضم ألوانًا من الأدب، والتاريخ، واللغة، وإن كان للغة فيه النصيب الأوفى.
ونحن لا نرى كبير فرق بين عنوان "الأمالي" أو عنوان "المجالس" فلقد كان الطلاب في واقع الأمر يجلسون متحلقين حول أستاذهم، وأمامهم المحابر وبأيديهم الدفاتر يحسنون الاستماع، ويقيدون ما يجري على لسان أستاذهم الذي يكون في العادة من كبار العلماء الثقات، فإذا جمعت هذه الأمالي لكي تصدر في شكل كتاب كانت إما أن تعرض على الأستاذ نفسه، أو يقوم على مراجعتها بعض النابهين من تلامذته الذين يقومون بدورهم بروايتها منسوبة إليه.
وكتب الأمالي في ميدان الدراسات العربية والإسلامية من الكثرة بمكان، وتشمل بعض الموضوعات المتخصصة كالتفسير حينًا والحديث حينًا آخر والنحو حينًا ثالثًا وهكذا.
غير أن الذي يعنينا من كتب الأمالي في هذا المقام هي "الأمالي" في نطاق الأدب، ونحن نستطيع بشيء من التيسير على أنفسنا أن نعد كتاب "مجالس ثعلب"، أول كتاب أنشئ في هذا الميدان، وقد عاش ثعلب حسبما مر بنا في ترجمته بين سنتي 200هـ، 291هـ، ويليه في الميدان نفسه أمالي اليزيدي: أبي عبد الله محمد بن العباس المتوفى سنة 310هـ، ويليه أمالي الزجاج أبي إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل المتوفى سنة 311هـ، وكان معاصرًا لليزيدي وتلميذًا ومريدًا للمبرد. وتلى هذه الأمالي الثلاث أمالي جحظة البرمكي المتوفى
سنة 324هـ، واسمه الحقيقي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى البرمكي، الوزير الخطير، وإنما لقب بجحظة لنتوء كان في عينيه فأطلق عليه عبد الله بن المعتز، جحظة لهذا السبب فاشتهر به، ونسي المتأدبون حقيقية اسمه، وقد كان جحظة أديبًا ظريفًا موسيقيًّا شاعرًا راوية، وكثيرًا ما روى عنه أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني".
وتلى أمالي جحظة من حيث الزمان أمالي أبي بكر بن الأنباري المتوفى سنة 328هـ وأحد أعلام الأنباريين الذين عرفوا بعلوم الأدب واللغة والنحو والرواية، ويعاصر جحظة البرمكي عالم كبير وأديب لغوي، وشاعر، هو أبو بكر بن دريد المتوفى سنة 321هـ في الثامنة والتسعين من عمره، وقد أجمع المؤرخون على أنه أملى كتابه الكبير "الجمهرة" الذي يعد من أنفس كتب العربية كما يعتبر واحدًا من الأمالي المرموقة. على أن أحاديث ابن دريد ذات الشهرة الواسعة أيضًا والتي نهج فيها المنهج الأدبي لكي يصل من خلالها إلى أهدافه اللغوية من تلقين، وشرح وتدريس وتعليق تعتبر بدورها أمالي أخرى؛ لأن الأدبي الكبير قد أملاها على تلاميذه بالطريقة نفسها التي أملى بها "الجمهرة" بل لقد ذهب كثير من المترجمين إلى تسميتها فعلًا بالأمالي.
إن هذه الأحاديث -أعني أحاديث ابن دريد بل أماليه لم تصل إلينا منفردة في كتاب، وإنما جاءت متفرقة في ثنايا أشهر كتاب بين كتب الأمالي هو "أمالي القالي".
وإذا كان أبو بكر بن دريد، قد طابت له الحياة في المشرق حالًا ومرتحلًا بين البصرة حيث ولد، وعمان حيث أهله وقومه، ونيسابور حيث اتصل بآل ميكال ومدحهم بالمقصورة الشهيرة فأكرموه وقلدوه ديوان فارس، وبغداد حيث اتصل بالمقتدر العباسي فأكرمه وأجرى عليه مرتبًا شهريًّا حتى نهاية حياته، فإن أبا علي إسماعيل بن القاسم المتوفى سنة 356هـ لم تطب له الحياة في بغداد بعد إقامة خمسة وعشرين عامًا فيها، فهاجر إلى المغرب فالأندلس حيث استقبل فيها استقبالًا كريمًا أو رسميًّا على مجرى التعبير المعاصر، ولقي تكريمًا عظيمًا من ملك عظيم، هو عبد الرحمن الناصر. فلما مات الناصر وتولى بعده ابنه الحكم المستنصر زاد في تكريمه وجعله مستشارًا له لشئون الثقافة، ووضع له تحت يده الأموال الوفيرة التي كانت تشترى بها نفائس كتب المشرق كي تضمها وتزدان بها مكتبة قرطبة التي كانت تعتبر على أيام المستنصر من أكبر مكتبات العالم، بل لعلها من حيث الترتيب والتنظيم، والتجليد، والتذهيب والفهرسة، والصيانة تعتبر حتى الآن من أعظم المكتبات في التاريخ.
ويلي أمالي القالي من حيث الأهمية والزمنية كتاب عظيم لأديب مفكر عظيم، هو "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي المتوفى سنة 400هـ الذي ألقاه في سلسلة محاضرات في ندوة أبي عبد الله العارض بن سعدان، وزير بني بويه في بغداد.
وتأتي بعد ذلك أمالي الشريف المرتضى نقيب الطالبين في بغداد، صاحب مجالس الأدب ومنتدى الثقافة الذي عاش بين سنتي 355-436هـ.
وتمر فترة غير قصيرة من الزمن حتى يأتي عالم جليل يملي "أمالي" أخرى جيدة فياضة بأنماط العلم مترعة بأسباب الأدب، هو هبة الله بن الشجري الذي عاش بين عامي 450-544هـ.
وأمالي ابن الشجري تختتم الأمالي المشهورة، ولكن ذلك لا يعني أنه لم تسبقها أمالٍ أو تعقبها أمالٍ أخرى، فإن الشيوخ والمحدثين والعلماء والمؤدبين كانت لهم مجالس أملوا فيها أماليهم، وهي من الكثرة بمكان بحيث يصعب إحصاؤها ويجهد استقصاؤها.
وأكثر "الأمالي" عددًا هي ما كان في علم الحديث، ولكن ذلك لم يمنع عددًا كبيرًا من رجال الأدب واللغة، على مر عصور ازدهار الثقافة العربية من أن يجلسوا إلى تلاميذهم ويسمعوهم ما في صدورهم من علم وما في عقولهم من معرفة، وما تجود به خواطرهم من آداب.