المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وجوه الإعجاز في الصوم - نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان - جـ ٢

[سيد حسين العفاني]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الرابع عشرفقه الصوم ورمضان

- ‌الصيام لغة:

- ‌الصيام شرعاً:

- ‌الصوم الواجب:

- ‌فرض الصوم على أحوال

- ‌على من يجب الصيام

- ‌أركان الصوم

- ‌الركن الأول: الزمان

- ‌إحصاء عدة شعبان:

- ‌رؤية الهلال هي المعتبرة فقط دون الحساب:

- ‌الشهادة على رؤية الهلال:

- ‌مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم:

- ‌إذا رأى القمر نهاراً

- ‌صيام الأسير والمطمور

- ‌زمن الإمساك

- ‌ أول زمن الإمساك:

- ‌الركن الثاني: وهو الإمساك

- ‌ ما يُفطر من غير المأكول والمشروب:

- ‌القبلة للصائم

- ‌مذاهب العلماء في القبلة للصائم:

- ‌القيءُ للصائم

- ‌الحجامة للصائم

- ‌مذاهب العلماء في حجامة الصائم:

- ‌الجماع في نهار رمضان

- ‌ مذاهب العلماء فيمن كرر جماع زوجته في يوم من رمضان:

- ‌ مذاهب العلماء فيمن وطء في يومين أو أيام من رمضان:

- ‌ مذاهب العلماء في المباشرة فيما دون الفرج - القُبل والدبُر

- ‌ مذاهب العلماء فيمن أفطر بغير الجماع في نهار رمضان

- ‌الركن الثالث: النية

- ‌تقديم النيّة في الصوم

- ‌تأخير النية في الصوم

- ‌النية لكل يوم

- ‌حكم من ظهر له وجوب الصيام نهاراً

- ‌الليل كلة وقت للنية

- ‌المدى الذي يصحّ أن يحدث فيه النيّة من النَّهار:

- ‌شروط من أجاز صوم النفل بنيّةٍ من النهار:

- ‌المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار:

- ‌صفة النيّة في الصوم

- ‌مباحث تتعلق بالنية في الصوم:

- ‌1- استصحاب حكم النية:

- ‌(2) رفض النية:

- ‌(أ) رفض النية بعد تمام العبادة:

- ‌(ب) رفض نية الصوم في أثنائه:

- ‌(3) قلب نية الصوم وتغييرها:

- ‌أقسام النية التي قلبت

- ‌(1) نقل فرض إلى فرض:

- ‌(2) نقل نفل إلى فرض:

- ‌(3) نقل نفل إلى نفل:

- ‌(4) عدم التشريك في النية:

- ‌(5) قصد الصوم دفعة واحدة:

- ‌النيابة في النيات في الصوم

- ‌موقف الذين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقًا:

- ‌تحرير محل النزاع

- ‌الرأي الراجح:

- ‌إهداء ثواب العبادة للأموات

- ‌النية: ركن أم شرط في الصوم

- ‌الصوم في السفر

- ‌المسألة الأولى [إن صام المريض أو المسافر هل يجزيه

- ‌المسألة الثانية [هل الصوم في السفر أفضل أم الفطر]

- ‌المسألة الثالثة[هل الفطر الجائز للمسافر هو في سفر محدود أم غير محدود

- ‌المسألة الرابعة [متى يفطر المسافر ومتى يمسك

- ‌سُنَّة ميتة فتمسك بها:

- ‌المسألة الخامسة[هل يجوز للصائم أن ينشئ سفرًا ثم لا يصوم فيه]

- ‌يريد الله بكم اليسر

- ‌صيام المريض

- ‌الحامل والمرضع ماذا عليها إذا أفطرت

- ‌بحث للألباني في "الحامل والمرضع

- ‌ القضاء

- ‌المسألة الأولى [هل يقضى الصوم متتابعًا أم لا

- ‌متى يقضى

- ‌ماذا على من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر

- ‌إذا مات وعليه صوم هل يصوم عنه وليه أم لا

- ‌الكفارة

- ‌هل هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار أو على التخيير

- ‌حكمة الأنواع الضعيفة في الكفارة

- ‌اختلافهم في وجوب الكفارة على المرأة إذا طاوعته على الجماع

- ‌مسألة [مقدار الكفارة بالإطعام]

- ‌مسألة [هل تسقط الكفارة بالإعسار

- ‌خلافهم في الكفارة

- ‌الفدية

- ‌صوم النذر

- ‌مسائل

- ‌صوم الكفارات

- ‌مسألة [اختلافهم في اشتراط تتابع الأيام

- ‌الباب الخامس عشرالاعتكاف

- ‌أركان الاعتكاف أربعة:

- ‌[مكان الاعتكاف]

- ‌الرد على فضيلة الشيخ الألباني

- ‌[وقت الاعتكاف]

- ‌العمل الذي يخص الاعتكاف

- ‌الخروج إلى الجمعة

- ‌الصوم في الاعتكاف

- ‌مذاهب العلماء في أقل الاعتكاف

- ‌ما يباح للمعتكف

- ‌الجماع في الاعتكاف

- ‌من جامع ناسيا في اعتكافه

- ‌هل تجب الكفارة على من جامع

- ‌هل يجوز للمعتكف أن يتزوج

- ‌الطيب للمعتكف

- ‌المعتكفه إذا حاضت

- ‌البيع والشراء للمعتكف

- ‌مسألة

- ‌مرض المعتكف

- ‌إذا أخرجه السلطان

- ‌قضاء الاعتكاف

- ‌الأولى للمعتكف أن يبيت في المسجد

- ‌الباب السادس عشروداع رمضان

- ‌في وداع رمضان

- ‌فضل الجوع:

- ‌سجع على قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا)

- ‌الباب السابع عشرحيوانات تصوم

- ‌معجزة الدب الأبيض:

- ‌طائر البطريق ومدرسة الحضانة:

- ‌ صوم بعض الحيوانات آثناء فترة النزو الجنسي:

- ‌ الصوم بعد الولادة

- ‌ الصوم حين يكون حس الجوع غائبًا:

- ‌ الصوم في حالات الغضب:

- ‌ السبات الشتوي عند النباتات:

- ‌الباب التاسع عشرالصوم علاج رباني

- ‌الصوم والأمراض الجلدية:

- ‌ الصوم ومستوى جديد من الصحة:

- ‌الصوم الطبي:

- ‌الفرق بين الصيام الإسلامي والتجويع [الصوم الطبي]

- ‌وظائف الأعضاء في الصيام الإسلامي

- ‌وظائف الأعضاء في التجويع المطلق:

- ‌أوجه الاتفاق والاختلاف بين الصيام الإسلامي والتجويع:

- ‌نظريات علمية في بعض فوائد الصيام الإسلامي وآدابه

- ‌الصيام والتخلص من السموم

- ‌هل الأفضل في الصيام الحركة أم السكون

- ‌الصيام والتخلص من الشحوم

- ‌الصيام وتجدد الخلايا

- ‌لماذا الإفطار على التمر

- ‌أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصائم بالهدوء والبعد عن الشجار وتفسير ذلك طبيًا:

- ‌من فوائد عدم شرب الماء في الصيام

- ‌الصيام وجهاز المناعة

- ‌الصيام ومكونات الدم

- ‌الصيام وهرمونات المرأة

- ‌الصيام ومرضى الجهاز البولي

- ‌الصيام وعمل الغدة الدرقية

- ‌الصيام وهرمونات الشدة

- ‌الصيام وخلايا الدم

- ‌الصيام وتجلط الدم

- ‌الصيام ومرضى السكري

- ‌تأثير الصيام على الحمل والرضاعة

- ‌تأثير الصيام الإسلامي على وزن الجسم

- ‌الصيام والإخصاب عند الرجل

- ‌تأثير الصيام المتواصل على مرضى التهاب المفاصل الشبيه بالرثية

- ‌تأثير الصيام على قرحة المعدة

- ‌تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية

- ‌صيام رمضان وأثره على بعض أمراض الأوعية الدموية الطرفية

- ‌تأثير الصيام على الوارد الكهربائية والتناضح في البول والدم

- ‌وجوه الإعجاز في الصوم

- ‌دفاع العقاد عن الصيام ردًا على المستشرقين

- ‌الباب التاسعزكاة الفطر

- ‌حكمها:

- ‌فيمَنْ تجب عليه، وعمن تجب

- ‌اليسار شرط لوجوب الفطرة:

- ‌ وقت خروجها:

- ‌ دفع الزكاة إلى كافر أو ذمي:

- ‌أصناف زكاة الفطر:

- ‌ مقدارها

- ‌عمن يؤديها الرجل

- ‌جهة إخراجها:

- ‌هل تجزيء القيمة في الزكاة

- ‌ كيف يقدر الصاع

- ‌الباب العشرونالعيد لمن طاعاته تزيد

- ‌سنن العيد

- ‌ الخروج إلى المصلى:

- ‌ التكبير في العيدين:

- ‌ صيغ التكبير:

- ‌ حكم صلاة العيدين:

- ‌وقت صلاة عيد الفطر:

- ‌ التخيير بحضور الخطبة:

- ‌ التوسعة على العيال

الفصل: ‌وجوه الإعجاز في الصوم

‌وجوه الإعجاز في الصوم

الوجه الأول من الإعجاز الوقاية من العلل والأمراض

أخبر الله سبحانه وتعالى أنه فرض علينا الصيام وعلى كل أهل الملل قبلنا، لتكتسب به التقوى الإيمانية، والتي تحجزنا عن المعاصي والآثام، ولنتوقى به كثيرًا من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقال صلى الله عليه وسلم: "الصيام جُنة" أي: وقاية وستر.

وقد ثبت من خلال هذا البحث بعض الفوائد الوقائية للصيام ضد كثير من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، منها على سبيل المثال لا الحصر:

1-

يقوي الصيام جهاز المناعة، فيقي الجسم من أمراض كثيرة، حيث يتحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسئولة عن المناعة النوعية زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم وتنشط الردود المناعية نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة.

2-

الوقاية من مرض السمنة وأخطارها، حيث إنه من المعتقد أن السمنة كما قد تتتج عن خلل في تمثيل الغذاء، فقد تتسبب عن ضغوط بيئية أو نفسية أو اجتماعية، وقد تتضافر هذه العوامل جميعًا في حدوثها، وقد يؤدي الاضطراب النفسي إلى خلل في التمثيل الغذائي، وكل هذه العوامل التي يمكن أن تنجم عنها السمنة، يمكن الوقاية منها بالصوم: من خلال الاستقرار النفسي والعقلي الذي يجني بالصوم نتيجة للجو الإيماني الذي يحيط. بالصائم، وكثرة العبادة في الذكر، وقراءة القرآن، والإنفاق في سبيل الله، والبعد عن الانفعال والتوتر، وضبط النوازع والرغبات، وتوجيه الطاقات النفسية الجسمية توجيهًا إيجابيًا نافعًا.

هذا فضلاً عن تأثير الصيام المثالي في استهلاك الدهون المختزنة، ووقاية الجسم من أخطار أمراض السمنة: كالأمراض القلبية الوعائية، مثل قصور

ص: 305

القلب، والسكتة القلبية، وانسداد الشرايين المحيطة بالقلب، وكمرض تصلب الشرايين.

3-

يقي الصيام الجسم من تكون حصيات الكلى، إذ يرفع معدل الصوديوم في الدم، فيمنع تبلور أملاح الكالسيوم، كما أن زيادة مادة البولينا في البول، تساعد في عدم ترسب أملاح البول، التي تكون حصيات المسالك البولية.

4-

يقي ا-لصيام الجسم من أخطار ا-لسموم المتراكمة في -خلاياه، وبين أنسجته من جراء تناول الأطعمة خصوصًا المحفوظة والمصنعة منها، تناول الأدوية واستنشاق الهواء الملوث بهذه السموم.

5-

يخفف الصيام ويهدئ ثورة الغريزة الجنسية خصوصًا عند الشباب، وبذلك يقي الجسم من الاضطرابات النفسية والجسمية، والانحرافات السلوكية، انظر بحث تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية، حيث يمكن الاستفادة من هذا البحث في بيان وجه الإعجاز في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" إذا التزم الشباب الصيام وأكثر منه، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "فعليه بالصوم"، أي: فليكثر من الصوم، كما ذكر السلف، والإكثار من الصوم مع الاعتدال في الطعام والشراب، وبذل الجهد يقترب من الصيام الكلي، ويجني الشباب فائدته في تثبيط غرائزه المتأججة بيسر، ما لا يتعرض إلى أخطار هذا النوع من الصيام، والذي ذكرناه تحت أخطار التجويع.

وهذا البحث يجلي بوضوح الإعجاز في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنه له وجاء" من وجهين:

الأول: الإشارة إلى أن الخصيتين هما مكان إنتاج عوامل الإثارة الجنسية، حيث أن معنى الوجاء أن ترض أنثيا الفحل (خصيتيه) رضًا شديداً، يذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي.

وقد ثبت أن في الخصيتين خلايا متخصصة في إنتاج هرمون التيستوستيرون (Testosterone) ، وهو "الهرمون المحرك والمثير للرغبة الجنسية، وأن قطع الخصيتين (الخصي) يذهب هذه الرغبة ويخمدها تمامًا.

ص: 306

الثاني: أن الإكثار من الصوم مثبط للرغبة الجنسية وكابح لها، وقد ثبت في هذا البحث هبوط مستوى هرمون الذكورة (التيستوستيرون) هبوطا كبيرًا أثناء الصيام المتواصل، بل وبعد رعادة التغذية بثلاثة أيام، ثم ارتفع ارتفاعًا كبيرًا بعد ذلك، وهذا يؤكد أن الصيام له القدرة على كبح الرغبة الجنسية مع تحسينها بعد ذلك، وهذا يؤكد فائدة الصوم في زيادة الخصوبة عند الرجل بعد الإفطار، فهل كان يستطيع أن يتحدث بهذه العبارة الموجزة والتي تحوي كل هذه الدقة العلمية، إلا نبي يوحى إليه من خالق الإنسان العليم بدقائق تكوينه!.

6-

يعتبر الصيام وقاية من الأمراض العقلية والنفسية، فقد ثبت تأثيره على مرض انفصام الشخصية، فقد أشار الدكتور يوري نيكولايوف، من المعهد النفسي بموسكو، إلى أن الأمراض العقلية يمكن السيطرة عليها بمفعول الصيام والحمية، وقد تبين عند مراجعة 1000 مريض عقلي التزموا الصيام (1) ، أن التحسن كان ملحوظًا لدى 65% منهم، وقد وقع فحص نصف هؤلاء المرضى بعد 6 سنوات، واتضح أنهم لا يزالون يتمتعون بصحة طيبة، كما أن الدكتور آلان كوت قد ألزم 35 مريضاً ببرنامج صيام، تخلص 24 منهم من مرضهم.

الوجه الثاني من الإعجاز منافع وفوائد الصيام

بعد أن أخبرنا الله سبحانه وتعالى، وأخبرنا رسول صلى الله عليه وسلم أن الصيام يحقق لنا وقاية من العلل الجسمية والنفسية، ويشكل حاجزًا وسترًا لنا من عقاب الله، أخبرنا -جل في علاه- أن في الصيام خيرًا ليس للأصحاء المقيمين فقط، بل أيضًا للمرضى والمسافرين، والذين يستطيعون الصوم بمشقة، ككبار السن ومن في حكمهم، قال تعالى:(أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) .

ذكر الفخر الرازي: أن للعلماء ثلاثة وجوه في قوله تعالى: (وأن

(1) الصيام الطبي.

ص: 307

تصوموا خير لكم)

أحدها: أن يكون هذا خطابًا مع الذين يطيقونه فقط، ويكون التقدير: وأن تصوموا أيها المطيقون، وتحملتم المشقة فهو خير لكم من الفدية، وقد اختار هذا القاسمي في محاسن التأويل.

الثاني: أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم، أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه، وهذا أولى؛ لأن اللفظ عام ولا يلزم من اتصاله بقوله (وعلى الذين يطيقونه) أن يكون مختصًا بهم؛ لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل فوجب الحكم بذلك.

الثالث: أن يكون معطوفًا على أول الآية فالتقدير: كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا خير لكم، والخير اسم تفضيل على غير قياس، وهو الحسن لذاته، ولما يحقق من لذة أو نفع أو سعادة، فالصيام حسن لذاته، ولما يحصل للمؤمن من المنافع واللذة الروحية والسعادة في الدنيا والآخرة.

ومعنى (إن كنتم تعلمون) أي: فضيلة الصوم وفوائده.

ومما سبق يتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قرر أن للصوم منافع وفوائد هي متحققة حتمًا على كل من افترضه عليه، من الأصحاء المقيمين، والذين يصومون بلا مشقة زائدة، وأن هذه الفوائد والمنافع تعم أهل الرخص إن صاموا، ما لم يتحقق الضرر، ولا منافاة -فيما نعلم- بين تقرير الله هذا، وبين قوله تعالى:(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) بعد قوله: (فمن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) فاليسر هنا هو رفع الإلزام، وتشريع الرخصة، والعسر خلافه، قال القاسمي في محاسن التأويل: يريد الله بكم اليسر أي: تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر، وبقصر الصوم على شهر (ولا يريد بكم العسر) في جعله عزيمة على الكل، وزيادته على شهر.

إن المولى عز وجل قد بين أن ترك حرية الاختيار بين الصيام والفطر، للمرضى، والمسافرين، والمطيقين، مع حثهم على الصيام لفوائده وفضائله -والتي لا يعلمونها في الغالب- أن هذا هو التشريع الذي أراده لهم، وهو تشريع سهل ميسور، وأن في إبقاء فرضية الصيام على المرضى، والمسافرين،

ص: 308

والمطيقين عنت ومشقة وعسر، لم يشرعه الله، فليس هناك تعارض بين تقرير خيرية الصيام لهؤلاء وقوله سبحانه (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فما قال أحد بأن العسر هو الصيام بل يكون الخلاف دائمًا بين علماء المسلمين في الخيار والأفضلية بين ما هو الأيسر أو الأفضل، الصيام أم الفطر؟ فمن قائل: الفطر، ومن قائل: الصيام، ومن قائل: بأنه أيسرهما على المرء، لقوله تعالى:(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)

إذن فقد يكون الصيام هو الأيسر لبعض هؤلاء من الفطر.

لقد ذكر علماء المسلمين أن من الأمراض ما ينقصه الصوم أو يكون علاجًا له أو مساعدًا على زواله، لذلك قرر أكثر الفقهاء أن رخصة الإفطار في المرض ليست على الإطلاق، فقالوا: إن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة، وكلام ابن الجوزي كان أكثر تحديدًا، إذ قال: "وليس المرض والسفر على الإطلاق، فإن المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم.

إن قضية الضرر والمشقة التي يمكن أن يعاني منها المريض، أو المسافر، أو كبير السن، ومن في حكمه، نتيجة للصيام - قضية نسبية، تختلف من فرد لآخر، ومن بيئة لأخرى، وتتأثر بالحالة النفسية والمزاجية للأشخاص، والعرف الاجتماعي العام، وظنون الأطباء، والعاملين في الحقل الصحي.

ونستطيع أن نقول: إنه ليس هناك ما يثبت أن للصيام الإسلامي ضررًا محققًا على معظم الأمراض، أو على وظائف الأعضاء في الشيخوخة، أو أثناء الحمل، أو الرضاعة، أو أثناء السفر، حتى يظل الصيام خير لمعظم المرضى، والمسافرين والمطيقين للصيام، محققًا لهم من الفوائد والمنافع الشيء الكثير الذي لا يعلمونه.

ولو قرض وتحقق الضرر في بعض الحالات، أو بعض الظروف، فيكون هذا هو العسر الذي يعود فيه التشريع تلقائيًا إلى اليسر، والذي هو هنا وجوب الفطر لا الرخصة.

ولقد عرف الحرالي اليسر بأنه: عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم

ص: 309

والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم.

إن العسر هو ما يصيب النفس من جهد شديد لا تتحمله عادة، فيجهدها ويثبط عملها، أو كل ما يصيب الجسم بضرر محقق أو ضعف يؤدي إلى ضرر، أو يفوت مصلحة راجحة. إن هذا العسر قد أبدلنا الله عنه بتشريع اليسر، وهو كل عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، وهو هنا الرخصة، وحرية الاختيار بين الصيام والإفطار، لمطلق من يسمى مريضًا، أو على سفر، أو شيخا كبيرًا في العادة وتظل قاعدة (وأن تصوموا خير لكم) ، برغم مشقة المرض أو السفر، أو ازدياد مشقة الحرمان من الغذاء للشيخ الكبير، ومن في حكمه تحت هؤلاء على الصيام ليجنوا منه الفوائد الجسدية والنفسية، وليكون العلم بأسرار الصيام وفوائده، معينًا لهؤلاء وميسرًا لهم تحمل هذه المشقات الاختيارية والممكنة، والناس متفاوتون في هذا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.

أما إذا حصل الضرر أو ترجح وقوعه، عاد التشريع إلى تحريم الصيام ووجوب الفطر، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في السفر ويفطر، ويقول لرجل سأله عن الصيام في السفر:"إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".

وها هو ذا صلى الله عليه وسلم يوجب الفطر على الناس في سفر الحرب، حينما رآهم يتساقطون من شدة الحر، ويفطر أمامهم، ويأمر الناس جميعًا بالفطر، ويقول لمن صام منهم:"أولئك العصاة" أولئك العصاة"، وهو هو ذا أيضًا صلى الله عليه وسلم سافر مع أصحابه إلى مكة صائمين، فنزلوا منزلاً، فقال رسول صلى الله عليه وسلم لهم! "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم" فكانت رخصة، فمنهم من صام، ومنهم من أفطر، بعد أن كانوا جميعًا صائمين، ثم نزلوا منزلاً آخر فقال: "إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت عزمة، فأفطروا، ثم قال راوي الحديث: لقد رأيتنا نصوم مع رسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر.

فالصيام للمرض والمسافرين والمطيقين هو الأولى والأنفع، ما لم تضعف النفس عن لمحمل المشقة، أو يصيبها أو يصيب الجسد ضرر محقق أو متوقع، في الأولى تكون الرخصة، وفي الثنية تكون العزمة، ويستعين الإفطار، بهذا قال بعض أهل التفسير وجمهور الفقهاء كلما ذكرنا.

ص: 310

ونخلص مما تقدم أن الله سبحانه أثبت للصيام منافع وفوائد جسمية، نفسية، علاوة على المنافع الأخروية، لمن ثبتت لهم رخصة الإفطار من المرضى، والمسافرين، وكبار السن، ومن في حكمهم، وأن هذه المنافع والفوائد للأصحاء أولى وأثبت، لعموم اللفظ في قوله تعالى (وأن تصوموا خير لكم) والذي يرجع إلى كل من سبق ذكرهم من أصحاب الأعذار.

وقد تجلت هذه الفوائد واستقر خبرها في زماننا هذا، لمن أوجب الله عليهم الصيام، ولمن أطاقوه من أهل الرخص، الذين يستطيعون تناول وجبتي الفطور والسحور كالأصحاء.

ولا يفوتنا إثبات أنه لا يوجد بحث علمي أجري على الصائمين الأصحاء، في الظروف الطبيعية إلا وأفاد أحد أمرين:

(أ) إما عدم تأثير الصيام على وظائف الأعضاء ومكونات الجسم بأي قدر يشكل خطورة على الجسم.

(ب) أو أنه يظهر فائدة جلية في بعض هذه الوظائف، أو تحسين بعض مكونات الجسم.

ولا يوجد بحث علمي -فيما أعلم- في تأثير الصيام الإسلامي على المرضى، أثبت خطرًا محققًا على مريض استطاع الصيام في الظروف الاعتيادية للإنسان، وقد كثفت البحث عن هذا، واطلعت على ملخصات لعدة قوائم للأبحاث، من مراكز عالمية في هذا الموضوع، بالإضافة إلى ما توفر لنا من الأبحاث المنشورة في المجلات، والمراجع الطبية، وأعمال الندوات والمؤتمرات العلمية، وكانت كل الأبحاث التي وقعت تحت يدي إما لا تثبت ضررًا للمرضى، أو أنها تثبت فائدة لهم.

وهذه أمثلة على بعض الأمراض الخطوة:

1-

كان وما زال الأطباء يعتقدون أن الصيام يؤثر على مرضى المسالك البولية، وخصوصًا الذين يعانون من تكون الحصيات أو الذين يعانون من فشل كلوي، فينصحون مرضاهم بالفطر، وتناول كميات كبيرة من السوائل.

ص: 311

وقد ثبت خلاف ذلك، إذ ربما كان الصيام سببًا في عدم تكون بعض الحصيات، وإذابة بعض الأملاح، ولم يؤثر الصيام مطلقًا حتى على من يعانون من أخطر أراض الجهاز البولي، وهو مرض الفشل الكلوي مع الغسيل المتكرر.

2-

كان يعتقد أن الفقدان النسبي لسوائل الجسم، وانخفاض عدد ضربات القلب، وزيادة الإجهاد أثناء الصوم، يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على التحكم في منع تجلط الدم، وهو من أخطر الأمراض، وقد ثبت أن الصيام الإسلامي لا يؤثر على ذلك في المرضى الذين يتناولون الجرعات المحددة من العلاج.

3-

ثبت أن الصيام لا يشكل خطرًا على معظم مرضي السكري، إن لم يكن يفيد الكثيرين منهم.

4-

يعالج الصيام عددًا من الأمراض الخطيرة أهمها:

أ- الأمراض الناتجة عن السمنة: كمرض تصلب الشرايين، وضغط الدم، وبعض أمراض القلب.

ب- يعالج بعض أمراض الدورة الدموية الطرفية مثل: مرض الرينود (Raynaud's Disease) ، ومرض برجر.

ج- يعالج كثيرًا من الأمراض التي تنشأ من تراكم السموم، والفضلات الضارة في الجسم.

د- يعالج الصيام المتواصل مرض التهاب المفاصل المزمن (الروماتويد)

هـ- يعدل الصيام الإسلامي ارتفاع حموضة المعدة، وبالتالي يساعد في التئام قرحة المعدة مع العلاج المناسب.

و لا يسبب الصيام أي خطر على المرضعات، أو الحوامل، ولا يغير من التركيب الكيميائي، أو التبدلات الاستقلابية في الجسم عند المرضعات، خلال الشهور الأولى والمتوسطة من الحمل.

أما الفوائد التي يجنيها الصائمون عمومًا، فهي أكثر من أن تحصى، وقد ذكرنا طرفًا منها عند الحديث عن الأثر الوقائي للصيام، في أول هذا الباب،

ص: 312

وسنشير هنا إلى بعض الحقائق العلمية العامة، وبعض الأبحاث الخاصة، التي تؤكد فوائد الصوم ومنافعه للإنسان، والتي ثبتت من خلال هذا البحث.

1-

يمكن الصيام آليات الهضم والامتصاص في الجهاز الهضمي وملحقاته، من أداء وظائفها على أتم وأكمل وجه، وذلك بعدم إدخال الطعام والشراب على الوجبة الغذائية، أثناء هضمها وامتصاصها.

كما يتيح الصيام راحة فسيولوجية للجهاز الهضمي وملحقاته، وذلك بمنع تناول الطعام والشراب لفترة تتراوح من 9-11 ساعة بعد امتصاص الغذاء، فتستريح الغدد اللعابية، والمعدة، ويستريح الكبد أيضاً من إفراز جزء كبير من عصارته الصفراوية، بما فيها من أملاح وأحماض وأصباغ صفراوية هاضمة للدهون، ويستريح الجهاز الهضمي من إفراز هرموناته وإنزيماته من المعدة والأمعاء، كما تستريح آليات الامتصاص في الأمعاء طوال هذه الفترة من الصيام.

وتتمكن الانقباضات الخاصة (Mingrationg Motor Complex) بتنظيف الأمعاء، لعملها المستمر دون توقف.

2-

يمكّن الصيام الغدد ذات العلاقة بعمليات الاستقلاب، في فترة ما بعد الامتصاص، من أداء وظائفها، في تنظيم وإفراز هرموناتها الحيوية على أتم حال، وذلك بتنشيط آليات التثبيط والتنبيه لها يوميًا، ولفترة دورية ثابتة، ومتغيرة طوال العام، وبالتالي يحصل توازن بين الهرمونات المتضادة في العمل، مثل هرموني: النمو والإنسولين، كهرمونات بناء من ناحية، وهرموني: الجلوكاجون والكورتيزول، كهرمونات هدم من ناحية أخرى، والذي يتوقف على توازنها الدقيق، تركيز الأحماض الأمينية في الدم، وتوازن الاستقلاب.

3-

ينشط الصيام آليات الاستقلاب، أو التمثيل الغذائي للجلوكوز، والدهون، والبروتينات في الخلايا، لتقوم بوظائفها على أكمل وجه، فآلية احتراق الجلوكوز في دائرة حمض الستريك لإنتاج الطاقة، وآلية تخزينه إلى جليوكوجين، وآلية تحويل الجليوكوجين إلى جلوكوز مرة أخرى، وآلية تخزين

ص: 313

الدهون، وآلية تجمع الأحماض الأمينية لتكوين بروتين الخلايا، والأنسجة، والبلازما، والهيموجلوبين، وتكوين الهرمونات والإنزيمات المختلفة، وآلية تثبيط هذه العملية الحيوية، وآلية تكوين أحماض أمينية، مثل الألانين من البيروفيت وغيره، وآلية تصنيع جلوكوز جديد في الكبد من هذه الأحماض الأمينية، والآليات الدقيقة التي تربط بين هذه الآليات في العمليات الكيميائية المعقدة، وما يصاحبها من إنزيمات، وهرمونات، وأملاح معدنية، وخلاف ذلك، والتوازن الحاصل لمكونات الخلايا والأنسجة والجسم عمومًا، كل ذلك يتم على أكمل وأتم وجه في الصيام كما سبق وأن شرحناه.

أما إذا اقتصر الجسم على البناء فقط، وكان همه التخزين للغذاء في داخله، فإن آليات البناء تغلب آليات الهدم، فيعتري الأخيرة -لعدم استعمالها بكامل طاقتها-، وهن تدريجي، تظهر ملامحه عند تعرض الجسم لشدة مفاجئة، بانقطاع الطعام عنه في الصحة، أو المرض، فقد لا يستطيع هذا الإنسان مواصلة حياته، أو مقاومة مرضه.

4-

يحسن الصيام خصوبة المرأة والرجل على السواء.

5-

يستفيد الإنسان من العطش أثناء الصيام استفادة كبيرة، حيث يساعد في إمداد الجسم بالطاقة، وتحسين القدرة على التعلم، وتقوية الذاكرة.

6-

تتهدم الخلايا المريضة والضعيفة في الجسم عندما يتغلب الهدم على البناء أثناء الصيام، وتتجدد الخلايا أثناء مرحلة البناء.

7-

إن أداء الصيام الإسلامي طاعة لله وخشوعًا له، ورجاء فيما عنده سبحانه من الأجر والمثوبة، لعلم ذو فائدة جمة لنفس الإنسان وجسمه، حيث يبث في النفس السكينة والطمأنينة، وينعكس هذا بدوره على آليات الاستقلاب، فيجعلها تتم في أوفق وأيسر وأنفع السبل، مما يعود بالنفع والفائدة على الجسم.

إن الصيام كاقتناع فكري وممارسة عملية، يقوي لدى الإنسان كثيرًا من جوانبه النفسية، فيقوى لديه الصبر، والجلد، وقوة الإرادة، وضبط النوازع والرغبات، ويضفي على نفسه السكينة والرضا والفرح.. وقد أخبر بذلك

ص: 314

النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"(1) . متفق عليه، وما يدخله السرور على الصائم بوعد الله له بأنه يدخل الجنة من باب الريان، وأن من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا، وأن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه.. إلى آخر ما أشارت إليه أحاديث الباب، وتلك الأحاديث المبشرة المشجعة وا-لمفرحة لنفس الصائم، وهذه لذة وسعادة لا يحققها في النفس إلا الصيام.

الوجه الثالث من الإعجاز يسر الصيام الإسلامي وسهولته

1-

تشير الدراسات العلمية المحققة في وظائف أعضاء الجسم أثناء مراحل التجويع على يسر الصيام الإسلامي وسهولته.

لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن حقيقة علمية أخرى وهي أن الصيام الذي فرضه علينا وحدد لنا مدته الزمنية طلوع الفجر إلى غروب الشمس، في قوله تعالى:(وكلُوا واشْرَبوا حتّى يتبيّن لكُم الْخيْطُ الأبْيضُ منَ الخيطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجرِ ثمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَيلِ)[البقرة: 1187] ، أخبرنا بأن هذا الصيام سهل ويسير، لا مشقة فيه ولا ضرر، قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر

) قال الفخر الرازي في تفسير الآية: "إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل على المريض، ولا على المسافر".

فالصيام الإسلامي صيام سهل ميسور للأصحاء المقيمين، لا مشقة للنفس فيه، ولا ضرر يلحق الجسم من جرائه، على وجه القطع واليقين.

وتتمثل مظاهر يسر الصيام في النقاط التالية:

1-

الصيام المفروض أيام قليلة معدودة وهو شهر في السنة، ولم

(1)"صحيح مسلم" ج2 (كتاب الصيام رقم الحديث 163، ص807) .

ص: 315

يفرض الله صيام الدهر. كله ولا صيام أكثر، ولو شاء سبحانه لفرضه، ولكن رحمته وسعت جميع الأمم، وسهلت عليهم أمر هذا التكاليف.

2-

الصيام الإسلامي مفروض وملزم للأصحاء المقيمين (1)، وشعور الفرد بإلزامية الصيام على الجميع: السابقين منهم والحاضرين، ميسر له ومخفف عنه توهم المشقة النفسية، الناتجة عن الحرمان المؤقت من الطعام والشراب، وتغيير الإلف والعادة، كما أن ترجّى الحصول على منافع وفوائد الصيام، يهون هذه المشقة النفسية المتوهمة ويزيلها.

3-

تشريع رخصة الفطر للمرضى، والمسافرين، والمطيقين، برغم الفوائد والمنافع التي يجنونها من الصيام إن صاموا، تخفيفًا وتيسيرًا لهم من مشقات المرض والسفر، ومشقة الحمل والرضاعة، وقلة الصبر على الحرمان من الغذاء لكبار السن، وتحريم الصيام عليهم إن تحقق لهم ضرر، أو فاتت مصلحة حيوية عامة أو خاصة بصيامهم.

4-

إلزام ذوي الأعذار الموقوتة، كالمرضى والمسافرين، بإعادة الصيام في وقت آخر من العام حتى لا يحرموا من فوائده ومنافعه، وإسقاط هذا الإلزام لذوي الأعذار الدائمة ككبار السن -باتفاق-، ولذوي الأعذار شبه الدائمة: كالحوامل والمرضعات، وذوي الأمراض المزمنة التي لا يرجي برؤها في الغالب، تيسيرًا ورأفة ورحمة بهم.

5-

يتجلى يسر الصيام الإسلامي في إمداد الجسم بجميع احتياجاته الغذائية، وعدم حرمانه من كل ما هو لازم ومفيد له، فالإنسان في هذا الصيام، يمتنع عن الطعام والشراب فترة زمنية محدودة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وله حرية المطعم والمشرب من جميع الأغذية والأشربة المباحة ليلاً، ويعتبر الصيام الإسلامي بهذا تغيير لمواعيد تناول الطعام والشراب فحسب، فلم يفرض الله سبحانه الانقطاع الكلي عن الطعام لمدد طويلة، أو حتى لمدة يوم وليلة، تيسيرًا وتخفيفًا على أمة خاتم الأنبياء، عليه الصلاة

(1) هذا على العموم وإلا فهناك شروط أخرى كالإسلام والبلوغ، وتراجع كتب الفقه في ذلك.

ص: 316

والسلام، وقد تجلى هذا اليسر بعد تقدم وسائل المعرفة والتقنية في هذا العصر، وبعدما عرف الإنسان دقيق تركيبه، ومكونات جمسه، وشاهد الخلايا البشرية بالمجاهر العملاقة، وعرف مكوناتها ووظائفها، وقدرًا كبيرًا من أسرارها، وتوصل بعلومه إلى معرفة مكونات جميع الأغذية والأشربة، وكيف يستفيد منها الجسم والكائن الحي، كما عرف الأخطار الناجمة من كثرة الإسراف في تناولها وغير ذلك مما أثبتناه في هذا البحث.

وهذه هي الأدلة العلمية القاطعة والبراهين الواضحة، على يسر الصيام الإسلامي وسهولته.

ففي خلال المرحلة الأولى من الامتناع عن الطعام (مرحلة ما بعد الامتصاص) : تنشط جميع آليات الاستقلاب، فتتسارع عملية تحلل الجليوكوجين إلى جلوكوز، وتنشط آلية استقلاب الدهون، فتتحلل إلى أحماض دهنية وجليسرول، ثم تتأكسد الأحماض الدهنية، في دائرة حمض الستريك لإنتاج الطاقة، ويدخل الجيسرول في دائرة تصنيع جلوكوز جديد، كما تنشط أيضًا آلية استقلاب فتستهلك الأحماض الأمينية في عملية تصنيع الجلوكوز الجديد أيضاً وينتج الكبد (200جم) في اليوم منه، وذلك لحفظ معدل تركيز الجلوكوز في الدم، في مستوى ثابت لإمداد الأنسجة التي تعتمد على التغذية به، من الطاقة اللازمة لها، وتنشط عملية تحلل الجليوكوجين إلى جلوكوز بمعدل أكبر في الساعات الأولى من هذا الصيام، وأما عملية تحلل الدهون وأكسدتها، مع عملية تحول الأحماض الأمينية إلى جلوكوز، فتحدثان بمعدلات أكبر في نهاية هذه الفترة (1) .

وأهم أحداث هذه المرحلة -والتي يقع فيها الصيام الإسلامي- هي:

1-

الجلوكوز هو الوقود الوحيد للمخ.

2-

لا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجسامًا كيتونية زائدة بالدم.

3-

لا يستهلك البروتين في إنتاج الطاقة، بالقدر الذي يحدث خللاً في

(1) وظائف الأعضاء في التجويع المطلق.

ص: 317

التوازن النتروجيني في الجسم.

وهذه الحقائق تجعل الصيام الإسلامي متفردًا في يسره وسهولته، حتى إن بعض العلماء لم يعد فترة ما بعد الامتصاص، أو الفترة المبكرة من توقف الغذاء، من مراحل التجويع.

أما في المرحلة الثانية (التجويع المتوسط) : فتنبه أكثر عملية تصنيع الجلوكوز الجديد، وتحدث عملية الأكسدة للدهون بصورة أكبر من المرحلة الأولى، وتنتج الأجسام الكيتونية لإمداد عدد من الأنسجة بالطاقة اللازمة، فمثلاً يستهلك المخ من الطاقة من -هذه الأجسام- حوالي من 10-20% من احتياجاته، والجلوكوز المنتج في هذه المرحلة، ضعفا المنتج منه في المرحلة السابقة أو ثلاثة أضعافه، وبرغم توفر وقود من الجليسرول، واللاكتات، لعملية تصنيع الجلوكوز الجديد، إلا أنه في هذه الفترة يرتفع معدل تحلل البروتين، وينتج توازن نتروجيني سلبي، يفرز فيه النتروجين على هيئة بولينا، كما يأخذ الكبد كميات متزايدة من الأحماض الدهنية الحرة، ويتأكسد جزء كبير منها، وهذا يؤدي إلى تولد مزيد من الأجسام الكيتونية.

وأهم ما يحدث في هذه المرحلة هو:

1-

ارتفاع معدل استقلاب البروتين وحدوث توازن نتروجيني سلبي.

2-

تزداد عملية تصنيع جلوكوز جديد بأكسدة المزيد من الدهون.

3-

تكوين الأجسام الكيتونية، واعتماد المخ على جزء منها للحصول على الطاقة.

وفي المرحلة الثالثة: (التجويع طويل الأجل) يحدث الآتي:

1-

انخفاض معدل تحلل البروتين وإخراج النتروجين.

2-

زيادة الاعتماد على ثلاثي الجليسرول (الدهون) لإنتاج الطاقة.

3-

تنشيط عملية تصنيع جلوكوز جديد، وإنتاج حوالي 75% من الجلوكوز في الكبد بهذه العملية، من أحماض غير أمينية مثل اللاكتات، والبيروفات والجليسرول، وينتج الكبد بهذه العملية 50جم في اليوم، بدلا من

ص: 318

200جم يوميًّا في المرحلة الأولى، كما تشارك الكلى في تصنيع الجلوكوز، حيث تنتج الكلية 40 كم/يوميًا.

4-

ينخفض الطلب على الجلوكوز خلال هذه المرحلة، ويعتمد المخ على الأجسام الكيتونية، بنسبة 70-80% للحصول منها على الطاقة نتيجة لازدياد تحلل الدهون.

من خلال عرض الحقائق السابقة، ندرك أن مدة الصيام الإسلامي والتي تتراوح من 12-16 ساعة في المتوسط، يقع جزء منها في فترة الامتصاص، ويقع معظمها في فترة ما بعد الامتصاص، ويتوفر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص والاستقلاب بتوازن، فتنشط آلية تحلل الجليوكوجين، وأكسدة الدهون، وتحللها وتحلل البروتين، وتكوين الجلوكوز الجديد منه، ولا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي من وظيفة وظائفه، فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجسامًا كيتونية تضر الجسم، ولا يحدث توازن نتروجيني سلبي لتوازن استقلاب البروتين، ويعتمد المخ البشري، وخلايا الدم الحمراء والجهاز العصبي، على الجلوكوز وحده للحصول منه على الطاقة.

بينما التجويع أو الصيام الطبي، القصير والطويل منه، لا يقف عند تنشيط هذه الآليات، بل يشتد حتى يحدث خللاً في بعض وظائف الجسم.

الفرق بين الصيام الإسلامي والتجويع:

أ- التوازن بين البناء والهدم في الصيام الإسلامي، حيث يتحسن البناء عن معدل الهدم، بخلاف التجويع، حيث يزداد معدل الهدم عن معدل البناء، والذي يكون على حساب تدمير خلايا العضلات.

ب- لا توجد أجسام كيتونية في الصيام الإسلامي، حيث تتأكسد الأحماض الدهنية باعتدال، لكنها توجد في التجويع، حيث يكون التأكسد لهذه الأحماض بكثافة عالية.

ج- يتحسن إنتاج الطاقة في دائرة حمض الستريك أثناء الصيام الإسلامي، أفضل من غير الصائمين، وأفضل بكثير منه في التجويع.

ص: 319

د- التوازن في إنتاج جلوكوز الدم وتحول الجليوكوجين إليه، وبالعكس أثناء الصيام الإسلامي عنه في التجويع، وكل هذا يؤكد تفوق الصيام الإسلامي على الصيام الطبي، مع تحقيقه لكل فوائده، حيث يشتركا معًا في تنشيط عمليات الهدم، وتخليص الجسم من الأنسجة المريضة، والفضلات السامة.

إن الفترة الزمنية التي وقتها الله سبحانه وتعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هي فترة زمنية كافية، لتنشيط كافة العمليات الحيوية داخل الجسم البشري، وإن في الزيادة عليها جهد ومشقة وحرج، ولا يجني منها ثمرة حقيقية، لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم، وهو: التجويع المطلق الذي لا يتناول فيه المرء طعامًا وشرابًا لأكثر من يوم؛ لأنه لن يحقق فائدة زائدة، بل سيحطم الأنسجة لحفظ توازن الطاقة في الجسم، وقد يتشمع الكبد، وتضطرب وظائفه، وترتفع الأجسام الكيتونية، فتحدث حموضة الدم الخطرة.

عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى" رواه البخاري.

إن هذا الحديث يؤكد أهمية الطعام والشراب في الصيام، وأن في مواصلة الانقطاع عنهما ضرر وحرج، وأن ما يراه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من انقطاعه عنهما، إنما هو أمر خاص به، لأنه صلى الله عليه وسلم يطعم ويسقى بطريق آخر، غير معتاد للبشر، كما أخبر بذلك.

* يعتبر الصيام الإسلامي تمثيلاً غذائيًّا فريدًا؛ إذ يشتمل على مرحلتي البناء والهدم، فبعد وجبتي الإفطار والسحور، يبدأ البناء للمركبات الهامة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة، والتي استهلكت في إنتاج الطاقة، وبعد فترة امتصاص وجبة السحور، يبدأ الهدم، فيتحلل المخزون الغذائي من الجليوكوجين والدهون، ليمد الجسم بالطاقة اللازمة، أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام.

تتراوح فترة الهدم أثناء الصيام الإسلامي من 8-13 ساعة، وهذه الفترة تقع على وجه القطع في الفترة التي سماها العلماء فترة ما بعد الامتصاص،

ص: 320

والتي تتراوح من 6-12 ساعة وقد تمتد إلى 40 ساعة، حسب تقسيم المدارس المختلفة لمراحل التجويع، أو الصوم المطلق (Starvation) ويعتبر العلماء هذه الفترة فترة أمان كامل، ولا يحصل منها أي ضرر على الإطلاق للجسم، بل على العكس يستفيد الجسم منها فوائد عديدة، قد ذكرنا طرفا منها.

لذلك كان تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم وحثه على ضرورة تناول وجبة السحور، لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة 4 ساعات، محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام، وبهذا أيضاً يمكن تقليص فترة ما بعد الامتصاص إلى أقل زمن ممكن، كما أن حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعجيل الفطر، وتأخير السحور، يقلص فترة الصيام أيضًا إلى أقل حد ممكن؛ حتى لا يتجاوز فترة ما بعد الامتصاص ما أمكن، وبالتالي فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكل ضغطا نفسيًا ضارًا على الجسم البشري، بحال من الأحوال.

روى زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم كان بينهما؟ قال خمسون آية (متفق عليه)(1) .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا".

(متفق عليه)(2) .

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في رمضان فقال: "هلم إلى الغداء المبارك"(3) .

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الغداء

(1) راجع فتح الباري (4/138) حديث رقم (1921م) ، ومسلم (2/771) حديث رقم (47) .

(2)

راجع فتح الباري (2/99) حديث رقم (617) ، ومسلم (2/768) حديث رقم (36-38) .

(3)

أبو داود (2/757) ، حديث (2344) ، والنسائي (4/145) ، وابن حبان (5/194) حديث رقم (56) .

ص: 321

المبارك" يعني: السحور (1) .

عن عبد الله بن حارث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فقال: "إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوه" رواه النسائي بإسناد حسن (2) .

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه، وهو صحيح (3) .

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" رواه مسلم (4) .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة". متفق عليه (5) .

روى سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه (6) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وهو صحيح (7) .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) ابن حبان (5/193) حديث رقم (3455) .

(2)

راجع النسائي (4/145) .

(3)

راجع ابن حبان (5/194) حديث رقم (3458) .

(4)

مسلم (2/770-771) حديث رقم (46) .

(5)

البخاري (2/36) حديث (1923) ، ومسلم (2/770) حديث رقم (45) .

(6)

مسلم (ج2 ص771) حديث رقم (48) ، والبخاري مع الفتح (4/189) .

(7)

سنن أبي داود (2/363) حديث (2353) ، وابن ماجه في الصوم، في باب تعجيل الإفطار، حديث رقم (1698) ، وابن خزيمة (3/275) حديث رقم (2060) .

ص: 322

قط صلى صلاة المغرب حتى يفطر، ولو على شربة ماء" أبو يعلى في مسنده وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وهو حديث حسن (1) .

* وجود مخزون من الطاقة في الجسم البشري، يكفي الإنسان حينما يمتنع عن تناول الطعام امتناعًا تامًا، لمدة شهر إلى ثلاثة شهور، لا يتناول فيها أي طعام قط، ولقد هيأ الله سبحانه هذا المخزون الهائل في جسم الإنسان ليمده بأسباب الحياة في وقت الحاجة، كما في الصيام، والمرض وفي أوقات الشدة، والحرمان من الغذاء، فالجلوكوز المختزن في صورة جليوكوجين في الكبد، والعضلات، يمد الجسم بالطاقة اللازمة له خلال الفترة الأولى من الامتناع عن الطعام، بينما تقدم الدهون المختزنة في الأنسجة الشحمية، والبروتينات المختزنة في العضلات، الطاقة اللازمة للجسم، في الفترات المتوسطة والطويلة من التوقف عن تناول الطعام (التجويع المطلق) .

وبناء على هذه الحقيقة يمكننا أن نؤكد أن الذي يتوقف أثناء الصيام، هو عمليات الهضم والامتصاص، وليست عمليات التغذية، فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية، وتحصل على جميع احتياجاتها اللازمة لها، من هذا المخزون بعد تحلله، والذي يعتبر هضمًا داخل الخلية، فيتحول الجليوكوجين إلى سكر الجلوكوز، والدم والبروتينات إلى أحماض دهنية وأحماض أمينية، بفعل شبكة معقدة من الإنزيمات، والتفاعلات الكيمائية الحيوية الدقيقة، والتي يقف الإنسان أمامها مشدوها معترفًا بجلال الله وعلمه، وعظيم قدرته وإحكام صنعه.

ويمارس الإنسان بعد 4 أيام من انقطاعه عن الطعام في المصحات الطبية - التي تعالج بالصوم الطبي، أو الانقطاع الكلي عن الطعام- حياته العادية، من السير والقراءة والكتابة، بل ويمارس التمارين الرياضية والسباحة، ولكن تحت إشراف طبي دقيق، ولا يشعر الإنسان بالتعب والإعياء إلا في الأيام الأربعة الأولى من انقطاعه عن الطعام، ولا يحس بالجوع المعتاد إلا في خلال هذه

(1) ابن خزيمة (3/276) حديث رقم (2063) ، وابن حبان (5/207) حديث رقم (3494) ، وأبو يعلى في مسنده (4/50) حديث رقم (3780) .

ص: 323

الأيام، ثم يختفي بعد ذلك، وقد شرح الدكتور (بريزتنس) ذلك بقوله: "إن الشعور بالتعب والإرهاق الذي يترافق مع الجوع هو حالة فيزيائية صرف، وبناء على تجارب عديدة أجريت في المخابر، فإن الصوم بحد ذاته لا يؤدي إلى هذه الأعراض، ولا إلى الآلام والضعف وخصوصًا في الأيام الأولى منه، وإنما ذلك يرجع إلى أسباب عديدة، ليس الصوم واحداً منها، وإن غياب هذه الأعراض مع استمرار الصوم، يبرهن على أن الصوم ليس له علاقة بذلك، وأهم هذه الأسباب: التوقف المفاجئ عن تناول المنبهات التي اعتاد المرء تناولها، والعادات السيئة في الطعام، وعلى رأسها الإسراف فيه، وقد وجد أن الأشخاص البدينين والذين يعيشون في حالة من الرخاء، هم الذين يشكون من هذه الأعراض أكثر من غيرهم، وفرق بين هذا، وبين الجوع الحقيقي الذي هو ظاهرة فسيولوجية، ونداءات للحصول على الغذاء الضروري للجسم، والذي لا يحدث إلا بعد نفاد جزء كبير من مخزون الغذاء في الجسم.

ولكن مع كل هذه الإمكانية الهائلة التي هيأها الله سبحانه للجسم الإنساني، في مقدرته على حفظ حياته، عند انقطاعه التام عن تناول الطعام، مع كل هذا، فقد فرض علينا سبحانه وتعالى صيامًا لا ننقطع فيه عن الطعام إلا فترة زمنية لا تتعدى -في الغالب- نصف يوم، فكم هي سهلة ميسورة! يمكن أن يمارس فيها الصائم أشق الأعمال وأشدها، من غير ضرر يلحق به، أو حتى شدة يتعرض لها، فالطاقة المحركة متوفرة وبكثرة، وبناء الخلايا وتجديد التالف منها لن يتأثر مطلقًا، فالمركبات الثلاثة الهامة: البروتينات، والكربوهيدرات، والدهون، يمكن أن يتحول كل منها للآخر داخل الخلايا، وتبنى منها جمع مركبات الخلية، وعليه فلن يتأثر أي عمل حيوي داخل الجسم، بل تستفيد كل أجهزة الجسم بالصيام، فينشط لمزيد من العمل والحركة، كما أن تناول الطعام في الفطور والسحور، يجدد مخزون الطاقة التي استهلكت في العمل، ويمد الجسم باحتياجاته من الأحماض الأمينية، والدهنية الأساسية، والتي لا يستطيع الجسم تصنيعها بداخله، ويمده أيضًا باحتياجاته اليومية من الفيتامينات والمعادن، والتي لابد له من الحصول عليها في الغذاء، وبذلك يستطيع الإنسان أن يصوم السنة

ص: 324

كلها صيامًا إسلاميًا، يتناول فيه وجبتي السحور والفطور، من غير ضرر يهدد حياته، ولكن رحمة الله بالإنسان أبت إلا تخفيف ذلك عليه بإلزامه شهرًا واحداً في السنة، وتركته حرًا مختارًا فيما بعد ذلك، في السنن والنوافل التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أو حافظ عليها، كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكصيام ستة أيام من شوال، ويوم عاشوراء، وعرفة، ومنع الإنسان من قهر نفسه وتعذيبها بإلزامها صوم السنة كلها، وقد اعترض النبي صلى الله عليه وسلم على أحد الصحابة الذي ألزم نفسه بصيام السنة كلها، حتى نحل جسمه وتغيرت ملامحه، فقال له: لم "عذبت نفسك"! وأمره بالاعتدال فأي تخفيف أيسر من هذا التخفيف! وصدق الله العظيم القائل: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 28]، وأي يسر أعظم من هذا اليسر! قال تعالى:(يريد الله بكم اليسر ولا وريد بكم العسر)

وهكذا يتجلى الإعجاز العلمي في الصيام الإسلامي بظهور الحقائق العلمية في هذا الزمان والتي ما كان في مقدور بشر منذ أربعة عشر قرنًا أن يخبر عنها وأن يجزم بها، هذا وقد نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيئة لا تعرف هذا الصيام ولا تمارسه.

وبعد أن استبانت الحقائق عن الجسم البشري والتمثيل الغذائي فيه، وأخطار كثرة الأكل، نادى العلماء بالاعتدال في الطعام، والشراب، وضرورة الصيام للإنسان وقاية وعلاجًا، وتحقيقًا لمنافع وفوائد شتى، لخصها الدكتور (آلان كوت)(1) في الفصل الأول من كتابه "الصوم الطبي" إجابة عن سؤال، لماذا نصوم؟ قال: لتخفيف الوزن بأسرع وأسهل طريقة، ولنعطي أجهزة الجسم فترة راحة مناسبة، ولتنظيف أجسامنا وتطهيرها بخراج الخبث والسموم منها، ولنترك لأجسامنا فرصة كي ترمم نفسها بنفسها، ولنعالج به عددًا من الأمراض الشائعة، ولنتخلص به من التوتر النفسي، ولنصقل به الحواس ونوقظ المواهب، ولنكتسب به القدرة على ضبط النفس والسمو الروحي، فتتحسن بذلك أجسامنا وعقولنا، وتتباطء عملية السير نحو الشيخوخة، ثم سرد في فصول كتابه

(1) انظر كتاب الصوم الطبي، النظام الغذائي الأمثل.

ص: 325

تفصيلاً لهذا، ودعى الأطباء لاعتماد الصوم في العلاج والوقاية من الأمراض.

وهذا (هـ. م شيلتون) في كتابه (التداوي بالصوم)(1) ، يؤكد أن الصوم يعطي راحة تامة للأعضاء الحيوية الهامة، ويوقف امتصاص الأغذية التي تتحلل داخل الأمعاء، ويفرغ القناة الهضمية، ويخلصها من الجراثيم والتخمرات، ويعطي لأجهزة الإفراغ الفرصة كي تستعيد نشاطها، ويصلح ويجدد الكيمياء الفيزيولوجية والإفرازات الطبيعية، ويسهل امتصاص الترسبات والتراكمات والبوارز الشاذة، ويحسن الوظائف العامة في الجسم، ويعيد الشباب للخلايا والأنسجة، ويجدد العضوية بإزالة الأنسجة الميتة والضعيفة، وإحلال أنسجة جديدة شابة وفتية بدلاً منها. ثم يفرد فصلين في كتابه يتحدث فيهما عن علاج الأمراض الحادة والمزمنة بالصوم.

وها هي الحقائق العلمية المبثوثة في الكتب والأبحاث الطبية تؤكد منافع الصيام الإسلامي وفوائده:

* فهو وسيلة وقائية من الأمراض والعلل، الناتجة من كثرة الأكل ودوامه بلا توقف على مدار العام.

* وهو وسيلة علاجية لبعض الأمراض الحادة والمزمنة.

* وهو منشط لسائر العمليات الحيوية داخل الجسم ورافع لمعدل أدائها، ومجدد لمكونات الخلايا الأساسية، ومخزون الطاقة فيها، لتكون أكثر قوة وقدرة في مواجهة الشدائد، عندما يقل الطعام أو يحرم منه تحت أي ظرف طارئ.

* وهو كابح للرغبات الجنسية المتأججة، ومثبط لها وخصوصًا عند الشباب.

* وهو صيام سهل ميسور يستطيعه كل الناس في أي مكان، وتحت أي ظرف

(1) هـ. م شيلتون "التداوي بالصوم". الفصل (34، 35) ص (154-177) .

ص: 326

ظرف مناخي على الأرض، ولا يحدث أثناءه أو بسببه أي خلل أو اضطراب، في أي من العمليات الحيوية، أو المركبات الضرورية للجسم؛ ذلك لأن الجسم البشري يمتلك من الطاقة المختزنة فيه ما تجعله على مواصلة الانقطاع التام عن الأكل لفترة زمنية تتراوح من شهر إلى ثلاثة شهور متصلة.

فالتغذية لا تتوقف أبدًا عن خلايا الجسم، بل الذي يتوقف فقط -بعد فترة امتصاص الغذاء-، هو عمليات الهضم والامتصاص.

* وهو صيام لا يسبب مشقة للجسم أو شدة عليه، وإنما المشقة المتوهمة هي مخالفة الإلف والعادة في تناول الطعام، والجوع الذي يشعر به الصائم، وهو أحد مظاهر هذه المشقة، إنما هو جوع وهمي أو اعتيادي، وسببه عادة تناول الطعام في أوقات معينة وتعود تناول المنبهات، ولا يعبر هذا الإحساس دائمًا عن حاجة الخلايا الملحة للغذاء.

* وهو صيام يشتمل على عمليتي البناء والهدم في آن واحد فيوفر الجلوكوز كوقود وحيد لخلايا الدماغ، وكوقود أساسي لبقية الأنسجة الأخرى، ويحفظ الجسم من أخطار تنشيط عمليات الهدم بمفردها، من الأكسدة الشديدة والسريعة للدهون وتحلل بروتينات الخلايا وتحطم مكوناتها، وتراكم الأجسام الكيتونية في الدم، وحدوث التوازن النتروجيني السلبي في الجسم، كما يحدث في الصيام الطبي أو التجويع طويل الأجل وقصيره، كما لا يحرم الجسم من إمداده بالمواد الضرورية له في الغذاء كالأحماض الأمينية والدهنية الأساسية والمعادن، وبعض الفيتامينات، والتي لا يستطيع تصنيعها داخل خلاياه، لذلك فهو صيام آمن بكل المقاييس العلمية، ويحقق كل منافع وفوائد الصيام الطبي، بل ويتفوق عليه خصوصًا إن توفرت فيه شروط الصيام المثالي الذي أمر به الشارع الحكيم.

فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم أن في الصيام وقاية للإنسان من أضرار نفسية وجسدية؟ ومن أخبره أن فيه منافع وفوائد يجنيها الأصحاء؟ بل ومن يستطيع الصيام من المرضى وأصحاب الأعذار!! ومن أخبره صلى الله عليه وسلم بأن الصيام سهل ميسور، لا يضر بالجسم ولا يجهد النفس؟ ومن أطلعه على أن كثرة الصوم تثبط

ص: 327

الرغبة الجنسية، وتخفف من حدتها وثورتها خصوصًا عند الشباب!! فيصير الشاب كالخصي آمنًا من الاضطرابات الغريزية والنفسية ومحصنًا ضد الانحرافات السلوكية!!

إن الله -جل في علاه- هو الذي أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم وأطلعه على هذه الحقائق فهو سبحانه خالق الإنسان العليم بدقيق تركيبه، والخبير بما يصحه ويصلحه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) .

إن أسرار الصيام ستتجلى بظهور الحقائق العلمية يوماً بعد يوم، ويرى العلماء بأعينهم ويدركوا بأدواتهم صدق الوحي الذي بهذا التشريع اليسير النافع، كما أخبر الله عنهم قوله تعالى:(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[سبأ: 6] .

لقد تجلت في هذا الزمان حقيقة الصيام، وأنه معجزة علمية وضرورة إنسانية، وستتجلى هذه ا-لحقيقة أكثر وأكثر، كلما ازداد الإنسان علمًا بسنن الخلق، وسيعلم المعاندون والمستكبرون أن هذا القرآن وحي الله العليم بأسرار خلقه، قال تعالى:(قلْ أنزلَه الَذي يَعْلَم السِّرَّ فِي السَّمَوَات وَالأرْضِ)[الفرقان: 6]، وقال تعالى:(لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون)[النساء: 166] ، وسيروا بيقين آيات الله في أنفسهم ومن حولهم، شاهدة بذلك، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى:(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق * أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)

فالحمد لله الذي عرّفنا بعض أسرار الصيام، معرفة يقينية تعيننا على مغالبة شهواتنا، وتزيل عنا كثير، من أوهام نفوسنا، وتدفعنا إلى المضي في طريق ربنا مستمسكين بها عاضين عليها بالنواجذ.

***

ص: 328