الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القضاء، لأنَّ من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء، كمن بلغ أو أسلم أثناء النَّهار" (1) .
الليل كلة وقت للنية
لا تصحّ النيةُ قبل بداية الليل، فلو نوى قبل دخول الليل بلحظة لم يصح (2)، وفي مذهب الحنابلة (3) إن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النيّة إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل. وقد روى سعيد بن منصور عن أحمد: من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار، ولم ينو من الليل فلا بأس، إلا أن يكون فسخ النيّة بعد ذلك، فظاهر هذا حصول الإجزاء بنيّة من النَّهار، إلا أن القاضي قال: هذا محمول على من استصحب النيّة إلى جزء من الليل، وهذا صحيح ظاهر، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا صيام لمن لم يبيت من الليل".
وكما لا تصح النيّة قبل الغروب لا تصح بعد انقضاء الليل ولو بلحظة، خلافاً لأبي حنيفة كما سبق، وهل تصح مع الفجر؟ قال النووي: الصحيح لا تصحّ، لأن أول وقت الصوم يخفى، فوجب تقديم النيّة عليه، بخلاف سائر العبادات (4) .
والليل كلّه محلّ للنيّة، وقد خطأ علماء الشافعية وغيرهم أبا الطيب بن أسامة من الشافعية فيما ذهب إليه من أن النيّة لا تصح إلا بعد منتصف الليل، قال النووي:"واتفق أصحابُنا على تغليطه"(5) .
وقد قاس أبو الطيّب الصوم على أذان الصبح والدفع من مزدلفة.
قال النووي: وهو قياس عجيب، وأي علّة تجمعهما؟ ولو جمعتهما علّة فالفرق ظاهر، لأنَّ اختصاص الأذان والدفع بالنصف الثاني لا حرج فيه، بخلاف النيّة، فقد يستغرق كثير من الناس النصف الثاني بالنوم، فيؤدي إلى تفويت الصوم، وفي هذا حرج شديد لا أصل له (6) .
(1)"فتح الباري"(4/142) .
(2)
"المجموع"(6/332) .
(3)
"المغني" لابن قدامة (3/93) .
(4)
"المجموع"(6/332) .
(5)
"المجموع"(6/332) .
(6)
المصدر السابق.
ومما يدلّ على خطئه أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل" ليس فيه هذا التحديد الذي حدّه، بل يفهم منه أنَّ من نوى في أي جزء من الليل صحَّ صومه.
ومما يدل على بطلان قياسه أن الأذان والدفع من مزدلفة "يجوزان بعد الفجر بخلاف نية الصوم، ولأنَّ اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه، واشتراط النيّة بمعنى الإيجاب والحتم وفوات الصوم بفواتها، وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز، ولأن منعهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر، والنية بخلافه".
3-
صوم النذر:
يجب تبييت النية من الليل في صوم النذر عند جماهير العلماء؛ لأنَّ النذر كالواجب، وبذلك قطع جمهور فقهاء الشافعية، وقد حكى بعضهم فيه وجهين بناء على أنّه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أو جائزه ومندوبه إن قلنا كواجب لم يصح بنيّة من النهار وإلا فيصح كالنفل.
وجمهور فقهاء الشافعية لم يجروا الخلاف في هذه المسألة في الصوم المنذور كما أجروها في بقية المسائل، وذلك لأنّ الحديث هنا عام في اشتراط تبييت النية للصوم، خص منه النفل بدليل، وبقي النذر على عمومه (1) .
ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن النذر المعينّ يجوز بنيّة من النهار، لأنه كصوم رمضان، لأنَّ الوقت متعين لصومه كما سبق.
أمّا النذرالمطلق فلابدَّ له من نية من الليل، وذلك لأنَّ الوقت غير متعين لصيامه (2) ، وقد سبق أن بيّنا أنَّ هذا الذي اعتمدوه في التفرقة هنا، وفي غير هذا الموضع، لا يصح أن يكون مفرقاً.
4-
صوم النفل:
الإمام مالك - رحمه الله تعالى - لا يجيز صوم النفل إلا بنيّة من الليل كالفرض،
(1)"المجموع"(6/332) .
(2)
"بدائع الصنائع"(2/85) ، "تحفة الفقهاء"(1/534) .
وقال بهذا القول غير مالك عبد الله بن عمر، وزفر من الأحناف، وداود الظاهري، وتابعه ابن حزم، وبه قال المزني (1) من الشافعية، ونقل ابن المنذر عن مالك أنه استثنى من يسرد الصوم، فصحح نيته من النهار (2)، وحجة هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم:"لاصيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل".
وذهب جماهير العلماء إلى أنَّ صوم النفل يصحُّ بنيّة من النهار، وبذلك قال علي ابن أبي طالب (3) ، وابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وطلحة، وابن عباس، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي، وسعيد بن المسيّب (4) ، وسعيد بن جبير، والنخعي، وآخرون (5) . وقال ابن حزم:"قال بهذا جمهور السلف"(6) .
واحتجّ هؤلاء بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: "هل عندكم شيء؟ " قلنا: لا. قال: "فإني إذن صائمٌ" (7) ، وفي رواية قال: "إذن أصوم" (8) .
وروى البيهقي والشافعي بالإسناد الصحيح عن حذيفة أنّه بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس (9) .
(1) هو إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي من أهل مصر، كان زاهداً عالما قوي الحُجة، من كتبه "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير"، نسبته إلى مزينة من مضر. وُلد سنة (175هـ) ، وتوفي سنة (264هـ) .
راجع: "وفيات الأعيان"(1/217) ، "الأعلام"(1/327) .
(2)
"المجموع"(6/339) .
(3)
هو علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، توفي شهيداً سنة (40هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال"(2/250) ، "الكاشف"(2/287) ، "طبقات الحفاظ"(ص 4) .
(4)
هو سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي، من كبار التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ولد سنة (13هـ) ، وتوفي سنة (94هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال"(1/390) ، "طبقات الحفاظ"(ص 17) ، "الكاشف"(1/372) .
(5)
"المجموع"(6/339) ، وانظر "المُغني"(3/196) ، و"المحلى"(6/172) .
(6)
"المحلى"(6/172-173) .
(7)
رواه مسلم "مشكاة المصابيح"(1/643) .
(8)
رواه البيهقي.
(9)
"المجموع"(6/339) .
قالوا: حديث تبييت النية عام، فنخصه بما ذكرناه جمعاً بين الأحاديث.
ومع أنَّ ابن حزم روى حديث عائشة السابق، وروى عن عشرة من الصحابة أنَّهم كانوا يعزمون على صوم النفل في النَّهار إلا أنه لم يقل بجواز صيام النفل بنيّة من النهار.
قال: "لأنّه ليس في الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن نوى الصيام من الليل، ولا أنَّه صلى الله عليه وسلم أصبح مفطراً، ثم نوى الصوم بعد ذلك، ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به، لكن فيه أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يصبح متطوعاً صائما ثم يفطر، وهذا مباح عندنا....، فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا، وكان قد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيته من الليل" لم يجز أن نترك هذا اليقين لظنٍ كاذب، ولو أنَّه صلى الله عليه وسلم أصبح مفطراً ثمَّ نوى الصوم نهارا لبيّنه"(1) .
وتابع الصنعاني من المتأخرين ابنَ حزم فيما ذهب إليه، فبعد أن ساق حديث عائشة الذي احتجّ به الجمهور قال:"فالجواب عنه أنه أعمّ من أن يكون بيَّت الصوم أو لا، فيحمل على التبييت، لأنّ المحتمل يردّ إلى العامّ ونحوه"(2) .
ثم قال: "والأصل عموم حديث التبييت، وعدم الفرق بين الفرض والنفل والقضاء والنذر، ولم يقم ما يرفع هذين الأصلين فتعينّ البقاء عليهما"(3) .
والجواب على ما ذكراه:
أولاً: أنّ ابن حزم تناقض هنا تناقضا بينا، فهو يرى أنَّ من نوى في حال صيامه أنّه تارك للصوم عامداً بذلك ذاكراً لصومه، إلاّ أنَّه لم يأكل، ولم يشرب، ولا وطيء، ولا فعل فعلا ينقض الصوم، فإنَّ صومه قد بطل وأنّه أفطر (4) .
ووجه التناقض أنّه يرى أنَّ من نوى قطع الصوم وتركه فإنَّ صومه يبطل، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل على عائشة طلب طعاما ليأكله، فلما لم يجد شيئاً قال: إنِّي صائم، فإذا كان نوى الصوم من الليل، وكان الصوم لا يجزيء بنيّة إلا من الليل، فعلى
(1)"المحلى"(6/172-173) .
(2)
"سبل السلام"(2/154) .
(3)
المصدر السابق.
(4)
"إحكام الأحكام"(المجلد الثاني 711) .