الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النيابة في النيات في الصوم
مقدمة وتمهيد هام:
مرادنا بالنية هنا: أن ينوي شخص ما تأدية عبادة عن غيره في صلاة أو صوم أو حج. وقد اختلف العلماء في ذلك بين مانع مطلقًا، ومجيز مطلقًا، ومجيز في بعض دون بعض.
فقد ذهب إلى المنع مطلقًا علماء المعتزلة (1) ، والإمام مالك (2) وأصحابه.
وذهب إلى الإجازة مطلقًا ابن تيمية في أحد أقواله (3) .
وذهب جماهير العلماء إلى جواز النيابة في الحجّ، وممن قال بذلك: ابن عباس، وعليّ بن أبي طالب، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأهل الظاهر، وغيرهم.
ومن هؤلاء المجيزين للنيابة في الحجّ من منع النيابة في الصوم، منهم الشافعي، والثوري، وقال بذلك: ابن عمر، وعائشة، وأبو حنيفة (4) .
وأجاز أحمد النيابة في صوم النذر خاصة، وهو قول ابن عباس وإسحاق، وأبي عبيد،. والليث بن سعد (5) .
***
(1)"نيل الأوطار"(4/99) ، "أصول الفقه" لأبي زهرة ص 323.
(2)
"الوافقات"(2/174) .
(3)
نسبه إليه محمد رشيد رضا في "التفسير"(8/254) .
(4)
"المجموع" للنووي (6/431) .
(5)
"المجموع"(6/431) ، "تهذيب السنن"(3/281) .
أدلة الذين منعوا مطلقًا
أولاً: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة:
استدلّوا بقوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 36 - 39]
يقول القرطبي: "أخبر تعالى أنّه ليس للإنسان إلا سعي نفسه، فمن قال إنّ له سعي غيره، فقد خالف الآية"(1) .
ويقول ابن كثير: "كلّ نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنَّما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد، وكذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه"(2) .
ويعتبر ما دلت عليه هذه الآية قاعدة من قواعد دين الله في كلّ شريعة أنزلها، فقد أخبر هنا أنَّ هذا كان مقررًا في الكتب الماضية العظيمة، وعند الرسل العظام: عند إبراهيم وموسى.
وعندما نجيل النظر في شريعتنا الغراء نرى نصوصًا كثيرة تدلّ على مثل ما دلت عليه الآية الماضية، فمن ذلك قوله تعالى:(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164] ، فهذه الآية كتلك في معناها.
وجاءت النصوص تقرر أن الهداية والضلال، والمجاهدة والقعود، والتزكية والقدسية، كلّ ذلك خاص بمن حصل منه:(مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الإسراء: 15] .
وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى
(1)"تفسير القرطبي"(4/151) .
(2)
"تفسير ابن كثير"(6/462) .
فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [فاطر: 18]، وقال تعالى:(وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ)[العنكبوت: 6] .
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امريء مَا نَوَى" فإنَّ مفهوم هذه العبارة: أنّه لا يحصل على ما نوى غيره (1)، والجنَّة يدخلها النّاس بأعمالهم:(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 43]، ويصلى الكفرة النار بأعمالهم:(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)[يس: 64] .
وفي يوم القيامة لا يملك أحد لغيره شيئاً: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا)[الإنفطار: 19] . وقد قرر هذه الحقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان عام أعلنه على الملأ وعمّ وخصّ، فقد روى أبو هريره رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين أنزل الله عليه (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء: 214] ، فقال:"يا معشر قريش، -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمّة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا"(2) .
ثانياً: النصوص المصرحة بمنع النيابة في بعض العبادات:
فقد استدلّوا بحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه"(3) .
***
(1) راجع "فتح الباري"(1/14) ، العيني على البخاري (1/27) ، "دليل الفالحين"(1/50) .
(2)
"صحيح البخاري"(ص 11) - كتاب الوصايا.
(3)
أخرجه النسائي في "سننه".
ثالثًا: قالوا: جواز النيابة في العبادات تنافي الغرض من تشريعها:
لأن المقصود من العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره؛ حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته، وما يقرب إليه على حسب طاقته، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده؛ لأنَّ معنى ذلك ألا يكون العبد عبدًا، ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعًا، ولا متوجهًا، إذا ناب عنه غيره في ذلك، وإذا قام غيره في ذلك مقامه فذلك القائم هو الخاضع المتوجه، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية، والاتصاف لا يعدو المتصف به، ولا ينتقل عنه إلى غيره. والنيابة إنّما معناها أن يكون المنوب عنه بمنزلة النائب، حتى يعدّ المنوب عنه متصفًا بما اتصف به النائب، وذلك لا يصحّ في العبادات كما يصحّ في التصرفات (1) .
يقول العز بن عبد السلام موضحًا هذه المسألة: "لا يثاب الإنسان ولا يعاقب إلا على كسبه واكتسابه؛ لأنَّ الغرض بالتكاليف تعظيم الإله بطاعته، واجتناب معصيته، وذلك مختص بفاعليه؛ إذ لا يكون معظّم الحرمات منتهكًا لها بانتهاك غيره، ولا منتهك الحرمات معظمًا لها بتعظيم غيره، فكذلك لا تجوز الاستنابة في المعاصي والمخالفات، ولا في الطاعات البدنيات إلا ما استثني
…
" (2) .
رابعًا: قالوا: لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في الأعمال القلبية كالإيمان وغيره من الصبر والشكر والرضى والتوكل والخوف والرجاء وما أشبه ذلك.
ولو كانت النيابة جائزة، فإنَّ التكاليف ينبغي ألا تكون محتومة على المكلف عينًا لجواز النيابة، فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة، ولصحّ مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العبادات كالأكل
(1)"الموافقات"(2/167-168) .
(2)
"قواعد الأحكام"(1/135) .
والشرب والوقاع واللباس، وما أشبه ذلك، وفي الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر، وكل ذلك باطل بلا خلاف، من جهة أنّ حكم هذه الأحكام مختصة فكذلك سائر العبادات (1) .
خامسًا: احتجّ مالك بعمل أهل المدينة: فعملهم على عدم النيابة، قال
القرطبي: "وهو أقوى ما يحتج به لمالك"(2) .
***
المجيزون مطلقًا
موقفهم من حجج المانعين:
ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى: (وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى) منسوخ، وقد نسب بعض المفسرين القول بذلك إلى ابن عباس (3) ، وعندي في صحة هذه النسبة إلى ابن عباس نظر، لما سنعلمه بعد من أنّه كان يفتي بألا يصام عن الميت في صوم فرض، بل يُطْعم عنه، ولأنَّه راوي الحديث الذي سبق ذكره:"لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد.." الحديث.
كما نسبت كتب التفسير إلى عكرمة مولي ابن عباس أنَّه كان يقول: "كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، أما هذه الأمة فلها ما سعى غيرها، يدلُّ عليه حديث سعد بن عبادة: هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال: "نعم" (4) .
ونسبوا إلى بعض أهل العلم أنَّ هذه الآية: (وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى) ، خاصة بالكافر، أما المؤمن فله ما سعى غيره (5) .
وهذه الأقوال: من القول بأنَّ الآية منسوخة، أو أنَّها خاصة بالأمم من
(1)"الموافقات"(2/168) .
(2)
"تفسير القرطبي"(2/282) .
(3)
انظر "البحر المحيط" لأبي حيان عند تفسيره لهذه الآية.
(4)
المصدر السابق.
(5)
المصدر السابق.
قبلنا، أو خاصة بالكافر غير صحيحة:
أولاً: لأنّ الآية خبر لم يتضمن تكليفًا، وما كان كذلك لا يجري فيه النسخ.
ثانيًا: ولأنَّه قد دلَّ على معناها نصوص كثيرة من الكتاب والسُنة، وقد ذكرنا جملة منها.
ثالثًا: مما يدلّ على بطلان خصوصيتها بالأمم السابقة وجود النصوص الدالة على ما دلت عليه في شريعتنا، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا وجد في شرعنا ما يقره ويؤيده.
رابعًا: القول بخصوصيتها بالكافر خلاف الظاهر، وليس عليه دليل.
أدلة المجيزين للنيابة مطلقًا أوفي حال دون حال:
الذين قالوا بالإجازة خصوا النصوص التي استدلّ بها المانعون بمخصصات كثيرة نذكر منها ما يأتي:
1-
ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان الفضل رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشقِّ الآخر، فقالت: إنَّ فريضة الله أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم". وذلك في حجِّة الوداع"(1) .
2-
حديث أبي رزين العقيلي (2)، أنَّه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحجّ، ولا العمرة، ولا الظعن، قال: "حج عن
(1) رواه البخاري (24) - - كتاب جزاء الصيد، "فتح الباري"(4/67)، ومسلم (انظره: بشرح النووي) (9/69) .
(2)
هو: لقيط بن عامر بن صبرة بن عقيل بن كعب العقيلي أبو رزين صحابي، لم يذكروا تاريخ مولده ووفاته.
راجع: "تهذيب التهذيب"(8/456) ، و"خلاصة تهذيب الكمال"(2/372) ، "الكاشف"(3/13) .
أبيك، واعتمر" (1) .
3-
حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّ أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ كبير، لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ قال: "أنت أكبر ولده؟ " قال: نعم. قال: "أرايت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه، أكان ذلك يجزيء عنه"، قال: نعم، قال: "فاحجج عنه" (2) .
4-
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من شبرمة؟ " قال: أخ لي، أو قريب لي. قال:"حجَّ عن نفسك، ثم عن شبرمة". وفي رواية: "هذه عنك، ثم عن شبرمة"(3) .
ومنها الأحاديث الدالة على صحّة صوم الولي عن ميت عليه صيام من رمضان أو نذر، فمن هذه الأحاديث:
5-
حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"(4) .
6-
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أنَّ امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها (إمَّا أختها أو ابنتها) إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: "أرأيت لو كان عليها دين، كنت تقضينه؟ " قالت: نعم.
قال "فَدَيْنُ الله أحقّ أن يقضى، فاقض عن أمك"(5) .
(1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2)
رواه أحمد والنسائي.
(3)
رواه أبو داود، وابن ماجه، قال البيهقي: إسناده صحيح، وروي موقوفًا، ورجّح ابن القطان رفعه، وقال الطحاوي: الصحيح أنه موقوف، وقال ابن حجر بعد أن ذكر الحديث ومخرجيه والكلام فيه "فيجتمع من هذا صحّة الحديث"، انظر "تلخيص الحبير" لابن حجر (2/223-224) .
(4)
متفق عليه "مشكاة المصابيح"(1/633) .
(5)
رواه السبعة.
7-
حديث ابن عباس أيضاً، أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: "اقضه عنها" (1) .
موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم:
أولاً: تضعيف هذه النصوص:
قالوا يدلّ على ضعفها اضطرابها، ففي بعض الروايات أنَّ الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم رجل، وفي رواية امرأة، وفي رواية أن المسؤول عن الصيام عنه أب، وفي رواية أم، وفي رواية أخت، والمسؤول فيه في رواية حج، وفي أخرى صوم (2) .
وحسبنا في الردّ عليهم أن هذه التي قالوا: إنَّها مضطربة، اتفق على إخراجها البخاري ومسلم.
وقد حقَّق العلماء أن هذا الاضطراب غير قادح؛ لأنه من باب اختلاف الوقائع، بل في بعض الروايات توضيح لذلك، كتلك الرواية التي أخرجها مسلم، وقد سألت المرأة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحجّ عن أمها، والصيام عنها. ثم توجد نصوص من تلك الأحاديث لا اضطراب فيها. وضعفوها أيضاً من جهة مخالفة الرواة لها "عائشة وابن عباس" رضي الله عنهما بفتواهما، وهذا غير قادح؛ لأنَّ الحُجة بما روياه.
ثانياً: جعل الشاطبي عدم أخذ العلماء بهذه الأحاديث أو ببعضها دليلاً على ضعف الأخذ بها في النظر، ومما ضعّفها في نظره أنها تدلّ على جواز النيابة في الحجّ، والحج يشتمل على ركعتي الطواف، وقد أجمع العلماء على عدم جواز النيابة في الصلاة (3) . وهذا الذي ذكره لا يوجب ضعف هذه
(1) متفق عليه.
(2، 3)"الموافقات"(2/74) .
الأحاديث؛ إذ ليس مما يضعّف الحديث عدم أخذ العلماء به كما هو مقرر في علم أصول الحديث، والصلاة في الحج "ركعتا الطواف" إنّما جازتا على وجه التبعية؛ إذ هما تابعتان ولم يقصدهما مؤديهما على أنّهما صلاة مستقلة عن الحج.
ثالثًا: قالوا هي خاصة بالمأذون لهم بالنيابة:
فقد ذكر ابن عبد البر أن حديث الخثعمية التي أذن لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالحج عن أبيها، محمول عند مالك وأصحابه على الخصوصية (1)، واستدلّوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم للسائل:"حج عنه، وليس لأحد بعده"(2) .
ويجاب عن ذلك بأمور:
1-
أنَ الخصوصية لا تثبت بغير دليل، فقد دلَّ صريح لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم باختصاص أبي بُردة بن نيار (3) بجواز التضحية بعناق دون غيره، حيث قال له:"لا تجزيء عن أحد بعدك"(4) وكما خصّ خزيمة (5) دون غيره بكون شهادته بشهادة رجلين (6) .
2-
وكيف تتمّ دعوى الخصوصية، وقد صحّ في بقية الأحاديث
(1)"تفسير القرطبي"(4/152) .
(2)
ضعف ابن حجر هذه الرواية في "فتح الباري"(4/69) .
(3)
اسمه: هانيء، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، خال البراء بن عازب، صحابي توفي عام (41هـ) .
راجع: "تهذيب التهذيب"(12/19) ، "الكاشف"(3/312) .
(4)
رواه البخاري ومسلم وأبو داود "تلخيص الحبير"(4/139) .
(5)
هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري، صحابي جليل، من أشراف الأوس في الجاهلية والإسلام، له في "الصحيحين"(38) حديثًا، قتل بصفين سنة (37هـ) .
راجع: "تهذيب التهذيب"(3/140) ، "خلاصة تذهيب الكمال"(1/289) ، "الكاشف"(1/279) .
(6)
البخاري في "صحيحه" انظر: "فتح الباري"(6/22) .
إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لغيرها في الصوم عن الأب أو الأم أو الحج عنهما؟
كما أذن لأبي رزين العقيلي (1) .
3-
والرواية التي أوردوها دالة على الخصوصية ضعيفة كما حقق ذلك ابن حجر (2) .
رابعًا: ومنهم من تأول هذه الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقًا:
وذلك أنّه قال: سبيل الأنبياء -صلوات الله عليهم-: ألا يمنعوا أحدًا من فعل الخير. يريد أنَّهم سئلوا عن القضاء في الحجّ والصوم، فأنفذوا ما سئلوا فيه، من جهة كونه خيرًا، لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه، هكذا قال الشاطبي، وذكر قريبًا منه ابن العربي، والقرطبي (3) .
وهذا الذي قالوه كلام -بعيد فكيف يُظنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أن- يقرَّ السائلين عن خلاف الحق، مجاراة لرغبة السائل في عمل الخير، بل كيف يقول للسائلين: حجّوا، وصوموا، ويجزيء ذلك عن من فعلوه عنه، وواقع الأمر على خلاف ذلك. هذا ما لا يكون أبدًا، ولا يظنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وغفر الله لهم مقالتهم هذه.
خامسًا: حملوا بعض هذه الأحاديث محملاً بعيدًا، فقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: "صام عنه وليه" محمول على ما تصحّ النيابة فيه، وهو الصدقة مجازًا؛ لأنَّ القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة بما يقوم مقامة عند تعذره، وذلك في الصيام: الإطعام، وفي الحج: النفقة عمّن يحج عنه، أو ما أشبه ذلك (4) .
(1) انظر الأحاديث الدالة على جواز النيابة التي سقناها.
(2)
"فتح الباري"(4/69) .
(3)
"الموافقات"(2/174) ، "تفسير القرطبي"(4/152) ، "أحكام القرآن" لابن العربي (1/287، 288) .
(4)
"الموافقات"(2/175) .
وهذا حمل بعيد، يدلّ على ضعفه إذنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الأخرى بالحجّ والصيام، وبقوله للملبي عن شبرمة:"حجّ عن نفسك أولاً، ثم حجّ عن شبرمة".
السادس: ردّوا هذه الأحاديث بدعوى أنَّها مخالفة لظاهر القرآن:
يقول القرطبي: "رأي مالك أنَّ ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن، فرجح ظاهر القرآن"، وقد رجح القرطبي ظاهر القرآن لأمرين، قال:"ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره، ومن جهة أنَّ القول المذكور قول امرأة ظنَّت ظنًا"، ثم أورد إشكالا على ما ذهب إليه، ولم يستطع الردَّ عليه ردا مجزئًا، فقال:"لا يقال: قد أجابها الرسول صلى الله عليه وسلم عن سؤالها، ولو كان غلطا لبينه لها، لأنَّا نقول: إنَّما أجابها عن قولها: أفاحج عنه؟ قال: "حجي عنه" (1) . فأين الجواب عن الإشكال الذي أورده؟ ولقد صدق ابن حجر وبرَّ حين قال معقبًا على ما ذكره القرطبي: "وتعقّب بأنَّ في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجَّة ظاهرة" (2) .
وما ذكره القرطبي ذكره الشاطبي بأجلى من عبارة القرطبي، قال:"هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي، فلا يعارض الظن القطع، كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة". ثمَّ بين أنَّ هذا الجواب عن الأحاديث هو الجواب القوي المرضيّ، فقال:"وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن"(3) .
وفي الردّ نقول: إنَّ هذا الذي ردّوا به الأحاديث ليس بحسن، فإنَّ ما
(1)"فتح الباري"(4/70) .
(2)
"الموافقات"(2/175) .
(3)
"الموافقات"(2/175) .