الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالوه لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق، وفي حال إمكان التوفيق بين النصوص فلا يعدل عنه، وقد أمكن هنا كما سيأتي بيانه قريبًا.
موقف الذين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقًا:
عرضنا موقف المانعين من النيابة تجاه النصوص الدالة على جواز النيابة، فما موقف غيرهم من العلماء؟
جماهير العلماء -كما ذكرنا في مقدمة هذا الفصل- احتجّوا على جواز النيابة في الحج بالأحاديث الأربعة الأولى (1) . فقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها للخثعمية، وللخثعمي، ولأبي رزين العقيلي، بالحج عن آبائهم.
وأقر ذلك الملبي عن شبرمة بالحج عنه، وإنما اعترض عليه في أمر آخر،.
وهو أن عليه أن يحج عن نفسه أولاً، ثم ليحج بعد ذلك عن شبرمة، ومما يستأنس به أنّه صلى الله عليه وسلم أذن للولي أن ينوي عن الصغير في الحج (2) .
والشافعي ومن معه أجازوا أن يحجّ المرء نيابة عن غيره، ولكنّه منع النيابة في الصوم مطلقًا، وعندما قيل له: لم فرّقت بين الصوم والحج؟ قال: "قد فرّق الله بينهما، فإن قيل: أنَّى قلت: فرض الله الحج على من وجد إليه سبيلاً، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي عمن يحج، ولم يجعل الله ورسوله من الحجّ بدلاً غير الحج".
وفرض تعالى الصوم، فقال:(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)[البقرة: 184]، فقيل: يطيقونه: كانوا يطيقونه، ثم عجَزوا عنه، فعليهم في كل يوم طعام مسكين" (3) .
(1) من أدلة المجيزين مطلقًا.
(2)
رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن امرأة رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيًا
قائلة: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر"، انظر:"شرح النووي على مسلم"(9/99) .
(3)
اختلاف الحديث، انظر: هامش كتاب "الأم"(2/89) .
وبهذا فرق بين الصلاة، والحج فقال:"وأمر بالصلاة، وسنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تقضي الحائض، ولا يقضي عنها ما تركت من الصلاة، وقال عوام المفتين: ولا المغلوب على عقله، ولم يجعلوا في ترك الصلاة كفارة، ولم يذكر في ذلك كتاب ولا سُنة عن صلاة كفارة من صدقة، ولا أن يقوم به أحد عن أحد، وكان عمل كل امريء لنفسه، وكان الصوم والصلاة عمل المرء لنفسه لا يعمله غيره، وكان يعمل الحج عن الرجل اتباعًا للسنة وبخلافه الصوم والصّلاة"(1) . ثم ذكر فرقًا آخر بين الحجّ والصوم والصلاة، وهو أنَّ الحجّ "فيه نفقة من المال، وليس ذلك في الصوم والصّلاة"(2) .
ومع هذا الفرق الذي ذكره الشافعي إلا أنَّ النصوص الدالَّة على جواز النيابة في الصوم لا تزال قائمة تلزمه بأن يقول بمقتضاها، لكنَّه لا يرى صحتها، وقد بيَّن ضعفها في أكثر من موضع في كتبه، قال الشافعي: "فإن قيل: أفروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه أمر أحدًا أن يصوم عن أحد؟ قيل: نعم.
روى ابن عباس رضي الله عنهما وعن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن قيل: لِمَ لم تأخذ به؟
قيل: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نذر نذرًا"، ولم يسمّه مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس.
فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس رضي الله عنهما بغير ما في حديثه أشبه ألا يكون محفوظا. فإن قيل: أتعرف الذي جاء بهذا الحديث يغلط عن
(1) اختلاف الحديث، انظر هامش كتاب "الأم"(2/849) .
(2)
المصدر السابق. والشافعي رحمه الله يجيب هُنا عن الذين قاسوا الصوم والصلاة على الحج بحجة أن ذلك كله دين الله ثابت في الذمة فشمله قوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحقّ
بالقضاء"، وقد وضّح هذه المسألة الغزالي في "شفاء الغليل" (ص 45) ، فبّين أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه الحج بدين عرف من جهة الشرع تطرق النيابة إلى أدائه، وعرف أيضاً أنَّ الحج تتطرق النية إلى أدائه، وعرف أن الصلاة والصوم لا مدخل للنيابة في تبرئة الذمة عنهما، ثم قال: "فالأدلة المعرفة للجمع والفرق في النيابة تخصص العلة بالحج، وتقطع عنه الصوم والصلاة".
ابن عباس؟ قيل: نعم، وروى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال لابن الزبير: إنَّ الزبير حل من متعة الحج، فروي هذا عن ابن عباس أنَّها متعة النساء، وهذا غلط فاحش" (1) .
وقد ساق البيهقي كلام الشافعي، ثمَّ قال (2) :"يعني به -أي الحديث الذي ضعّفه- حديث الشافعي عن مالك عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس: "أنَّ سعد بن عبادة (3) استفتى
…
" الحديث؛ قال البيهقي: وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية مالك وغيره عن الزهري، إلا أن في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما "أنَّ امرأة سألت يعني عن صوم أمها، وكذلك رواية الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل (4) عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما" (5) .
وقد تكلم البيهقي عن هذه الأحاديث الدالة على جواز صوم الولي عن الميت في "معرفة السنن والآثار"، وبيَّن قوة هذه الأحاديث، واختتم كلامه قائلاً:"وقد أودعها صاحبا "الصحيحين" كتابيهما، ولو وقف الشافعي على جميع طرقها ونظائرها لم يخالفها إن شاء الله تعالى"(6) .
وقال النووي بعد نقله كلام البيهقي، وبعد جزمه بصحّة الأحاديث الدالة
(1) اختلاف الحديث، انظر: هامش كتاب "الأم"(2/89) .
(2)
"المجموع"(6/426) .
(3)
هو سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي، صحابي جليل، سيد الخزرج، شهد بيعة العقبة الثانية، وكان أحد النقباء الاثنى عشر، توفي عام (14هـ) .
راجع: "تقريب التهذيب"(3/475) ، "خلاصة تهذيب الكمال"(1/369) ، "الكاشف"(1/9352) .
(4)
سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي تابعي ثقة، سمع زيد بن أرقم، وابن عمر توفي سنة (121هـ) .
راجع: "تقريب التهذيب"(1/318) ، "خلاصة تهذيب الكمال"(1/405) ، "الكاشف"(1/386) .
(5)
"المجموع"(6/426) .
(6)
"المصدر السابق".
على جواز النيابة في الصوم، قال:"ويتعين أن يكون هذا -جواز النيابة في الصوم- مذهب الشافعي؛ لأنه قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، واتركوا قولي المخالف له".
ثم قال -معتذرًا للشافعي في تضعيفه للحديث-: "وقد صحت في المسألة أحاديث، والشافعي إنَّما وقف على حديث ابن عباس رضي الله عنهما من بعض طرقه، ولو وقف على جميع طرقه، وعلى حديث يزيد، وحديث عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُخالف ذلك"(1) .
أما الإمام أحمد ومن ذهب مذهبه من الذين قالوا بجواز النيابة في صوم النذر خاصة فحجّتهم:
أولاً: أنَّ السائلة في "الحديث الخامس"(2) . حديث ابن عباس قد صرَّحت أنَّ أمَّها نذرت أن تصوم شهرًا، ثم توفيت قبل أن تفي بنذرها (3) .
ثانياً: حملوا حديث عائشة -رضى الله عنها-: "الحدث الرابع": "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"(4) . على صوم النذر؛ لأنه قد ورد النهي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما من النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أن يصلي أحد عن أحد، أو يصوم أحد عن أحد (5)، وقالوا: وفقنا بين هذين النصّين بحمل النهي على النيابة في صوم الفرض، وحملنا الإذن في النيابة على صوم النذر.
ثالثًا: قالوا هذا الذي صرنا إليه هو الذي أفتى به رواة هذه الأحاديث، فعائشة رضي الله عنها التي روت:"من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، وابن عباس رضي الله عنهما الذي روى إفتاء الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة بأن تصوم عن أمها، لم يفهما من هذه النصوص جواز النيابة في صوم الفرض، فقد
(1)"المجموع"(6/426) .
(2)
من أدلة المجيزين مطلقًا.
(3)
سبق تخريجه من قبل.
(4)
سبق تخريجه من قبل.
(5)
سبق تخريجه من قبل.
أخرج الطحاوي عن عَمْرة أن أمّها ماتت وعليها من رمضان، فقالت لعائشة: رضي الله عنها أقضيه عنها؟ قالت: "بل تصدقي عنها مكان كلّ يوم نصف صاع على كل مسكين"(1) .
وابن عباس رضي الله عنهما أفتى: "إذا مرض الرجل ثم مات ولم يصم، أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضي عنه"(2) .
قالوا: فرواة الأحاديث لم يفهموا منها جواز النيابة في صوم الفرض، وقد تقرّر عند علماء الشريعة، أن راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، لا سيما إذا كان ما فهم هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها، كما هو الشأن هنا، خاصة إذا كان الراوي من كبار فقهاء الصحابة مثل أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما، وحبر هذه الأمة ابن عباس رضي الله عنهما.
رابعًا: قالوا وفي هذا الذي صرنا إليه رفع للإشكال الذي سببّه حديث عائشة، فما صرنا إليه فيه إعمال للقاعدة القاضية بأن الفرائض لا تقبل النيابة، وإعمال للنصوص المجيزة للصوم عن الولي.
خامسًا: وقد قوى ابن القيم مذهب الحنابلة، وقال:"وهو مقتضى الدليل والقياس" ثم أخذ يبين وجه ذلك: "لأن النَّذر ليس واجبا بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّيْن الذي استدانه، ولهذا شبَّهه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدّيْن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والمسؤول عنه فيه: أنَّه كان صوم نذر".
وتابع استدلاله قائلاً: "والدَّين تدخله النيابة، وأمَّا الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء فهو أحد أركان الإسلام، فلا تدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين، فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحق العبودية التي خلق لها، وأمر بها، وهذا أمر لا يؤديه عنه غيره، كما لا يسلم
(1) أخرجه الطحاوي، وابن حزم في "المحلى"(7/4) ، واللفظ له بإسناد صحيح كما قال ابن التركماني.
(2)
أخرجه أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وله طريق آخر عند ابن حزم في "المحلى"(7/7) .