الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره".
ثم أخذ يبين أنَّ النذر أخف حكمًا من الفرض وبذلك يفارقه: "وسر الفرق: أنَّ النذر التزام المكلَّف لما شغل به ذمته، لا أنَّ الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكمًا مما جعله الشارع حقًا له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه، المعجوز عنه، ولهذا تقبل أن يشغلها المكلَّف بما لا قدرة له عليه، بخلاف واجبات الشرع فإنَّها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز"، إلى أن قال: "
…
فلا يلزم من دخول النيابة في واجب النذر بعد الموت، دخلوها في واجب الشرع" (1) .
أما الذين قالوا بأنّه لا ينوب أحد عن أحد في حج ولا صوم إلا الابن عن أبيه فقد احتجوا بأنَّ السائل في غالب الأحاديث ولد، وحملوا بقيّة الأحاديث على الولد؛ لأنَّ النصوص من أمثال قوله:(وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى) مانعة من النيابة، قالوا: ولا تعارض بين الآية ونيابة الابن؛ لأن الابن من سعي أبيه كما صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه"(2) .
ويشكل على ما قرروه حديث شُبْرمة الملبي في الحج عن أخيه، وحديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه:"من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، فإنَّه أطلقه ولم يقيده بالولد، وفي حديث السائلة عن النذر قيل: المسؤول عن الصوم عنها كانت أختها كما في إحدى الروايات. وفي حديث الصدقة تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم الزكاة عن عمه.
ولذا وصف ابن حجر القائلين بقصر النيابة على الولد بالجمود.
تحرير محل النزاع
بعد أن عرضنا مذاهب العلماء في النيابة وأدلتهم وما ورد عليها من
(1)"تهذيب السنن"(3/282) .
(2)
أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي، وهذا اللفظ للدارمي وأبي داود، ولفظ الرواية الأخرى:"إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" انظر: "مشكاة المصابيح"(2/75) .
مناقشات يجدر بنا أن نحرر محل النزاع فنقول: ليس كلّ العبادات موضع خلاف، ولا كلّ الأشخاص تجوز نيابتهم عن غيرهم، ولذا سأبين العبادات التي اتفق العلماء على أنه لا مجال للنيابة فيها، ثم الذين لا تجوز النيابة عنهم باتفاق.
أولاً: عبادات لا مجال للنيابة فيها:
أ- العبادات القلبية كإيمان القلب وإسلامه، وحبه ورجائه
…
فقد اتفق العلماء على أنّه لا مجال للنيابة فيها، ولم يذكروا خلافًا في ذلك، بل لا يتصور الخلاف.
ب- العبادات الشبيهة بالعاديّات كالوضوء والغسل والتيمم، وما ذكره بعض الفقهاء من وجوب النيّة في غسل الميّت فليس هو من باب النيابة؛ لأنَّ الميت هنا غير مكلف غسل نفسه، وإنما هو فعل أمُر به الأحياء للأموات، فينوي قصد الفعل الذي أمر به، وكذلك ما ذكروه من غسل الزوج زوجته المجنونة إذا طهرت من حيضها ونفاسها، وغسله للزوجة الذمية إذا طهرت في حيضها ونفاسها قهرًا إذا امتنعت فلا يدخل في هذا الباب؛ لأن المجنونة والذميَّة لو اغتسلتا بنفسيهما صحّ مع أنهما ليستا من أهل النيّة.، فالقول بوجوب غسلهما أو اغتسالهما إنّما هو لمجرد التطهر.
وكذلك ما ذكروه من أنّ الشخص قد يوضيء غيره أو ييممه أو يغسله، والمتوضيء والمتيمم والمغتسل من أهل النية، كمن وضّأ مريضاً أو يمم أقطعًا، ليس من باب النيابة؛ لأنَّ هذا الموضيء والمغسل والميمم بمثابة الآلة، فمثله كمثل جهاز من الأجهزة الحديثة يقوم بغسل الإنسان أو توضئته، وكمثل جنب أمطرت السماء فوقف صامدًا تحت المطر ينوي الغسل من الجنابة، فالنية هنا على المتوضيء والمغتسل والمتيمم، لا على من فعل ذلك به، وهذا واضح، وغفل من قال بأن النية على الموضيء.
جـ- نقل الطبري وغيره الإجماع على أنَّ النيابة لا تدخل الصلاة (1) ،
(1)"فتح الباري"(4/69) .
ولا يعتدُّ بمخالفة الظاهرية في تجويزهم النيابة في الصلاة المنذورة خاصة لمخالفته للإجماع، وممّن نصَّ على أن الصلاة المنذورة لا تقضي عن الميت الشافعي في اختلاف علوم الحديث (1) .
ثانياً: الذين لا تجوز النيابة عنهم:
أ- لا تجوز النيابة عن الأحياء القادرين على الفعل؛ فلا يجوز أن ينيب حيّ قادر غيره ليحج عنه أو يصوم عنه، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على عدم جواز النيابة عن القادر في حج واجب (2) .
ب- ولا يجوز أن ينيب الحيُّ غير القادر أحدًا عنه إلا في الحجّ، أما الذي لا يستطيع الصوم فيطعم عن كل يوم مسكينًا، والخلاف في الحيّ غير القادر في الحجّ، إذا كان غير مستطيع بنفسه، ولكنَّه مستطيع بغيره.
جـ- ولا تجوز النيابة عن ميّت لم يفرّط ولم يقصّر، فمذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي والجمهور أنَّ من كان عليه صوم، ولم يتمكن من قضائه حتى مات بسبب سفر أو مرض -أو غيرهما من الأعذار- فهذا لا شيء عليه، ولا يصام عنه، ولا يطعم عنه، قال العبدري: وهو قول كافة العلماء إلا طاووسًا وقتادة، فقالا: يجب أن يطعم عنه لكلّ يوم مسكينًا، لأنَّه عاجز فأشبه الشيخ الهرم" (3) .
د- ولا تجوز النيابة عن شخص كان متعمدًا لترك العبادة، يقول ابن القيم:"من ترك الحجّ عمدًا حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات فإنَّ مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلهما عنه بعد الموت لا يبريء ذمته، ولا يقبل منه، والحق أحق أن يتبع"(4) .
وقال في موضع آخر: "ولا يحج عن أحد إلا إذا كان معذورًا بالتأخير
(1)"اختلاف علوم الحديث" هامش "الأم"(2/89) .
(2)
"فتح الباري"(4/66) .
(3)
"المجموع للنووي"(6/431) .
(4)
"تهذيب السنن"(3/282) .