الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى [إن صام المريض أو المسافر هل يجزيه
؟] إن صام المريض والمسافر هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه إن صام، وقع صيامه وأجزأه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يجزيه، وأن فرضه أيام أخر (1) .
قال ابن عبد البر في "التمهيد"(22/48) : "قالوا: المسافر لا يصوم في سفره؛ لأن الله أراد منه صيام أيام أُخر، وهذا قول يروى عن عبيدة وسويد بن غفلة" ثم رد عليه رحمه الله.
* قال النووي في "المجموع"(6/269-271) : في مذاهب العلماء في جواز الصوم والفطر في السفر "مذهبنا جوازهما وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال العبدري: هو قول العلماء.
وقال الشيعة: لا يصح وعليه القضاء، واختلف أصحاب داود الظاهري فقال بعضهم.: يصح صومه، وقال بعضهم: لا يصح.
وقال ابن المنذر: "كان ابن عمر وسعيد بن جبير يكرهان صوم المسافر" فقال: وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "إن صام قضاه"، قال: وروي عن ابن عباس فقال: "لا يجزئه الصيام" وحكى أصحابنا بطلان صوم المسافر عن أبي هريرة وأهل الظاهر والشيعة.
* قال ابن حجر في "الفتح"(4/216) : "اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة: لا يجزيء الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر" (2) ومقابلة البر الإثم، وإذا كان آثما بصومه لم يجزئه وهذا قول بعض أهل الظاهر، وحكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى: (فمن كان
(1)"بداية المجتهد"(2/165) .
(2)
رواه البخاري ومسلم عن جابر.
مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) قالوا: ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدّة، وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة".
قال ابن رشد: "وهذا الحذف في الكلام هو الذي يعرفه أهل صناعة الكلام بلحن الخطاب".
* ودليل من ذهبوا إلى أن الصوم في السفر لا يصح ما رواه مسلم في "صحيحه" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس البر أن تصوموا في السفر".
* وروي مسلم عن جابر أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراغ الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح ماء فرفعه.
حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل بعد ذلك أن بعض الناس قد صام، فقال:"أولئك العصاة، أولئك العصاة".
* عن أنس رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، فمنا من يقي الشمس بيده، فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" رواه البخاري ومسلم.
* وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره تؤتى معصيته"(1) . وفي حديث آخر: "إن الله تعالى يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"(2) .
* واحتج الجمهور بأحاديث منها:
* عن عائشة رضي الله عنها: "أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ -وكان في الصيام- فقال: "إن شئت فصم، وإن
(1) صحيح: رواه أحمد، وابن خزيمة وَابن حبان والبيهقي في "شعب الإيمان" وصححه ابن خزيمة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1886) .
(2)
صحيح: رواه أحمد والبيهقي في "سننه" عن ابن عمر، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس وعن ابن مسعود وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1885) .
شئت فأفطر" (1) .
* وعن حمزة بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل عليّ جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" رواه مسلم.
* وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم، إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة" رواه البخاري ومسلم.
* وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" رواه الشيخان.
* وعن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما قالا: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر، ولا يعيب بعض على بعض" رواه مسلم.
* عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفًا فأفطر فإن ذلك حسن" رواه مسلم.
* وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارًا ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة"؛ فكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "صام رسول الله في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر، رواه البخاري.
* وعن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لرجل: "انزِلْ فاجْدَح لي"، قال: يا رسول الله الشمس،
(1) رواه البخاري واللفظ له، ومسلم.
قال: "انزلْ فاجدح"(1)، قال: يا رسول الله الشمس قال: "انزل فاجدح لي، فنزل فجدح له فشرب، ثم رمى بيده هنا ثم قال: "إذا رأيتم الليل أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم" فهو ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان صائماً.
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت، وقصّر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت فقال: "أحسنت يا عائشة" (2) .
ورد الجمهور على استدلال المانعين الصوم في السفر بحديث جابر "خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف من المسلمين، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة فسار ومن معه من المسلمين يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا"(3) قال الزهري: وإنما يؤخذ بالآخرة فالآخرة من أمره صلى الله عليه وسلم وهذه الزيادة التي في آخره من قول الزهري، وقعت مدرجة عند مسلم ولفظه:"حتى بلغ الكديد فأفطر" قال: وكان صحابة رسول الله يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره. وجزم البخاري في الجهاد أنها من قول الزهري، وفي رواية عند مسلم:"فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس يشق عليهم الصيام، فدعا بقدح من لبن ثم أمسكه بيده حتى رآه الناس وهو على راحلته ثم شرب فأفطر" فمن أخذ بظاهر الحديث ظن أن الصوم في السفر منسوخ وأنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام ونسب من صام إلى العصيان، ولا حجة في شيء من ذلك لأن مسلمًا أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة في السفر ولفظه:"سافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، فنزلنا منزلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر"
(1) الجدح: تحريك السويق ونحوه بالماء بعود يقال له: المجدح مجنح الرأس.
(2)
رواه الدارقطني وقال: إسناده حسن، "المجموع"(6/270) .
(3)
رواه مسلم.
وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا وهو شاهد لمن قال: إن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي على لقاء العدو.
* وروى الطبري في تهذيبه من طريق خيثمة سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الصوم في السفر فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال فقلت له: فأين هذه الآية (فعدة من أيام أخر) فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعًا وننزل على غير شبع، وأما اليوم فنرتحل شباعًا وننزل على شبع" فأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم.
* ما الجواب عن قول صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر" فسلك المجيزون فيه طرقًا:
* فقال بعضهم قد خرج على سبب فيقصر عليه وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظُلِّلَ واشتد عليه الحر "ليس من البر الصوم في السفر".
وساق الطبري سبب وروده الحديث ولفظه عنده من رواية كعب بن عاصم الاشعري: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لصاحبكم، أي وجع به؟ فقالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ: "ليس من البر أن تصوموا في السفر عليكم برخصة الله التي رخّص لكم"، ثم قال الطبري بعده: فكان قوله صلى الله عليه وسلم ذلك لمن كان في مثل هذه الحال.
قال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله:"ليس من البر الصوم في السفر" على مثل هذه الحالة، ثم قال ابن دقيق العيد: والمانعون في السفر يقولون: إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام