الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثانيها: أن العام لا يدل على مراد المخاطب بإسماعه وحده؛ كخطاب العربي بالزنجية.
وثالثها: أن دلالة العام مشروطة بعدم المخصص، فلو جاز سماع العام دون سماع المخصص، لما جاز الاستدلال بشيء من العمومات إلا بعد الطواف في الدنيا، و
سؤال
كل علماء الوقت: أنه هل وجد له مخصص؟ وذلك يفضي إلى سقوط العمومات.
والجواب عن الأول: أن الإغراء غير حاصل؛ لما قدمنا من أنه يفيد ظن العموم، لا القطع به، وبه خرج الجواب عن الثاني.
وعن الثالث: أن كون اللفظ حقيقة في الاستغراق، مجازًا في غيره- يفيد ظن الاستغراق، والظن حجة في العمليات، والله أعلم.
المسألة الثانية
يجوز من الله- تعالى- إسماع المكلف العام من غير إسماعه المخصص
(سؤال)
ما الفرق بين هذه المسألة، وبين المسألة الأخرى، يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب؟ لأن في كلا الصورتين سمع المكلف العام بدون المخصص؟
جوابه: أن تلك المسألة: لم ينزل وحي في البيان أصلًا وقت الخطاب، وهاهنا نزل البيان، وفهمه بعض المكلفين، وبقى النزاع هل يجوز أن يسمع البعض دون البعض الآخر العموم، ولا يسمع ذلك البيان؟ ولذلك استدل بأن بعض الصحابة لم يسمع كثيرًا من النصوص، مع أنها في صدور الحفاظ، ولهذا وافق في المسألة أبو هاشم وغيره من المعتزلة، مع أنهم يمنعون تأخير
البيان عن وقت الخطاب، وما ذلك إلا أن البيان قد حصل في الجملة، وسمعه المكلفون من حيث الجملة، وجوزه المانعون في المخصوص بدليل العقل؛ لأن الدليل العقلي حصل في الفطرة، وإنما التقصير من جهة السامع؛ فإنه وإن كان قصر في الاطلاع عليه، لكنه ليس في فطرته، بل أمر خارج بعيد عنه يحتاج إلى نقل إليه، فهذا هو الفرق.
قوله: (العام لا يدل على مراد المخاطب بإسماعه وحده):
قلنا: لا سنلم؛ لأن مراده الخصوص، ومتى فهم الكلية، التي هي العموم، فهي الجزئية التي هي الخصوص، ففهم المراد حاصل، غير أن فهم ما ليس بمراد غير حاصل، والفرق بين عدم فهم المراد، وفهم غير المراد- ظاهر، بل لو غلط، وأجرى العموم على عمومه، حصل المراد قطعًا، غير أنه قد تحصل مفسدة من الامتثال في غير المراد، وقد لا تحصل، فدعوى أن العام المخصوص، إذا لم يظهر مخصصه، لا يفهم المراد- غير متجه.
قوله: (دلالة العام مشروطة بعدم المخصص):
قلنا: لا نسلم أن عدم المخصص شرط، بل المخصص من قبيل الموانع، وعدم المانع ليس شرطًا، وقد تقدم بسطه، وغلط كثير فيه.
قوله: (يلزم ألا يصح الاستدلال بالعمومات إلا بعد التطويف في الدنيا، وسؤال جميع العلماء عن المخصص):
قلنا: قد تقدم في الخصوص أنه لا يجوز التمسك بالعام إلا بعد الفحص عن المخصص على قدر الوسع والطاقة مع حصول الأهلية، وهل من شرطه الوصول إلى القطع، أو الاعتقاد، أو الظن الغالب خلاف مذكور هناك، وأن خلاف ذلك خلاف الإجماع، فهذا اللازم نحن نلتزمه؛ فإنه حق، ولا يلزم من ذلك سقوط العمومات، بل متى عجز عن وجدان المخصص، عمل
بالعموم، فيعمل بكل عموم؛ لأنه إن وجد، خصص وعمل، وإلا عمل به معممًا.
قوله: (يفيد ظن العمومات لا القطع بها).
تقريره: أن الظن إذا كان حاصلًا، لا يكون إغراء بالجهل؛ لأن الاحتمال لما كان قائمًا، فجزمه بإرادة العموم تقصير منه لا من المتكلم.
(المسألة)
قال سيف الدين في (الإحكام): المجوزون لتأخير البيان عن وقت الخطاب بالعام، اختلفوا في جواز التدريج في البيان؛ بأن نتبين تخصيصًا بعد تخصيص، فقيل: يمتنع؛ لأن تخصيص البعض بالإخراج أولًا يوهم وجوب استعمال اللفظ في الباقي، وامتناع التخصيص بعد ذلك، وهو تجهيل المكلف، وجوزه المحققون؛ لأن آية السرقة ثبتت في موطن كثيرة ببيان النصاب تارة، وبغيره أخرى في الحرز، وعدم الشبهة، وكذلك غير السرقة، ووافقه الغزالي في نقل هذه المسألة.
* * *
الكلام في الأفعال، وفيه مسائل
قال الرازي: المسألة الأولى: اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على قولين:
أحدهما: قول من ذهب إلى أنه لا يجوز أن يقع منهم ذنب، صغيرًا كان، أو كبيرًا، لا عمدًا، ولا سهوًا، ولا من جهة التأويل، وهو قول الشيعة.
والآخر: قول من ذهب إلى جوازه عليهم، ثم اختلفوا فيما يجوز من ذلك، وما لا يجوز:
والاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة:
أحدها: ما يقع في باب الاعتقاد، وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يقع منهم الكفر، وقالت الفضيلية من الخوارج: إنه قد وقعت منهم ذنوب، وكل ذنب عندهم كفر وشرك.
وأجازت الشيعة إظهار الكفر؛ على سبيل التقية، فأما الاعتقاد الخطأ الذي لا يبلغ الكفر؛ مثل أن يعتقد مثلًا أن الأعراض باقية ولا يكون كذلك، فمنهم من أباه؛ لكونه منفرًا، ومنهم من جوزه.
وثانيها: باب التبليغ، واتفقوا على أنه لا يجوز عليهم التغيير، وإلا لزال الوثوق بقولهم.
وقال قوم: يجوز ذلك من جهة السهو.
وثالثها: ما يتعلق بالفتوى، واتفقوا أيضًا على أنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه، وجوزوه قوم على سبيل السهو.
ورابعها: ما يتعلق بأفعالهم، واختلفت الأمة فيه على أربعة أقوال:
أحدها: قول من جوز عليهم الكبائر عمدًا، وهؤلاء منهم من قال بوقوع هذا الجائز، وهم الحشوية.
وقال القاضي أبو بكر: هذا وإن جاز عقلًا، ولكن السمع منع من وقوعه.
وثانيها: أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ولا صغيرة عمدًا، لكن يجوز أن يأتوا بها، على جهة التأويل، وهو قول الجبائي.
وثالثها: أنه لا يجوز ذلك، لا عمدًا، ولا من جهة التأويل، لكن على سبيل السهو، وهم مؤاخذون بما يقع منهم؛ على هذه الجهة، وإن كان موضوعًا عن أمتهم؛ لأن معرفتهم أقوى، فيقدرون على التحفظ عما لا يتأتى لغيرهم.
ورابعها: أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة، وأنه قد وقعت منهم صغائر على جهة العمد، والخطأ، والتأويل، إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف، وهو قول أكثر المعتزلة.
والذي نقول به أنه لم يقع منهم ذنب، على سبيل القصد، لا صغيرًا ولا كبيرًا، أما السهو فقد يقع منهم، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال، وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوًا، وقد سيقت هذه المسألة في علم الكلام. ومن أراد الاستقصاء، فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء، والله أعلم.
الكلام في الأفعال
قال القرافي: قوله: (اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء عليهم السلام:
قلنا: أخذ الشيء بالرد والقبول فرع عن كونه معقولًا، أما عصمة الأنبياء عليهم السلام، فإن قلتم: إن معناها أنهم لا يصدر منهم المعصية، يشكل بكثير من الصبيان الذين بلغوا أو ماتوا قريب بلوغهم من غير أن يعصوا، فقد صدق معنى العصمة الذي ذكرتموه في حقهم، مع أنهم ليسوا معصومين.
وكذلك الصحابة- رضوان الله عليهم- وكثير لم يصدر منهم الكفر، ولا الكبائر، وليسوا معصومين، فلا يكفي في العصمة أن معناها عدم صدور المعصية، بل لابد من تحرير هذا المقام، وهو أنا نقول: قاعدة النقائض مستحيلة على الله- تعالى- والمعاصي مستحيلة على الملائكة والأنبياء- عليهم السلام وعلى الأمة المحمدية- أعني مجموعها- وأفراد الأمة كل واحد منهم قد استحال منه صدور المعاصي التي لم يقدم عليها، فاشترك الجميع في امتناع صدور النقائض عنهم.
ويقول أهل العرف: من العصمة ألا يحد، وكل واحد من هذه المواطن له ضابط:
أما تقديس الله- تعالى- وامتناع النقائض عليه: فاجتمع فيه أمور:
أحدها: أنه لذاته- تعالى- يوجب ذلك له غير معلل بشيء.
وثانيها: أنه لما كان كذلك، علم الله- تعالى- ذلك؛ فوجب ذلك لأجل العلم، ولما علمه أخبر عنه، فصار واجب الخبر.
وأما عصمة الملائكة والأنبياء- عليهم السلام ومجموع الأمة: فالاستحالة في حقهم، والعصمة من باب واحد، وهو أن معناها إخبار الله
- تعالى- النفساني واللساني عن جعلهم كذلك، واجتمع مع ذلك علم الله- تعالى- بذلك وإرادته له، فتكون العصمة.
واستحالة المعصية عليهم نشأت عن أمور أربعة:
العلم، والخبر النفساني، واللساني، والإرادة وفي حق الله تعالى- عن أربعة أمور أيضًا، غير أن الإرادة يستحيل دخولها فيما يتعلق بالمستحيل على الله تعالى؛ لأنه مستحيل لذاته، والإرادة لا تدخل إلا في الممكنات، ودخلت الإرادة في عصمة الملائكة والأنبياء، ومجموع الأمة؛ لأنه من باب الممكنات عقلًا، وليس ذلك لذواتهم؛ كما في حق الله تعالى، مع أن الإمام في (البرهان) قال: طبقات الخلق على استحالة الكبائر. ونحوها عقلًا، وعليه جماهير أئمتنا.
وقال القاضي: سمعًا لا عقلًا.
قال: والمختار عندي ما قاله القاضي، وهذه الأمور لم تتناولها المعجزة، والتناول يصدق فيما يبلغه عن الله تعالى.
ولو جمع دعوى جميع ذلك، وأقام المعجزة عليه، تناولته، الأكثرون على جواز الصغائر، وعدم وقوعها منهم.
قلت: وإجماع الأكثر على الاستحالة العقلية، إن كان المراد به أنها مستحيلة عقلًا لغيرها، فيرتفع الخلاف؛ فإنا لم نسمع بواجب الاستحالة للغير، وإن أرادوا أنها مستحيلة عليهم لذواتهم؛ كاستحالة انقلاب الأعيان، واجتماع النقيضين بالذات، فهو يفيد أن الأجسام مستوية عقلًا، وكل ما جاز على أحد المثلين، جاز على الآخر.
وهذه قاعدة مشهورة؛ منع الاستحالة العقلية بهذا التفسير، وإنما تقع الاستحالة بعد ذلك الغير من سمع، أو علم، أو قضاء، وقدروا التحسين العقلي، والأكثرون ليسوا عليه، فلم يبق إلا غيره، لذلك قال المازري في (شرح البرهان): الأنبياء كالبشر يجوز عليهم ما يجوز على البشر، إلا ما دلت المعجزة على نفيه، وقالوا: نعم، إن هذا لا يجوز علينا، فيمتنع حينئذ.
وأما عصمة الصحابة، وآحاد الأمة الذين لم يصدر مهم عاص خاصة، وقولهم: من العصمة ألا يحد فهو متعلق ثلاثة أمور فقط: العلم، والإرادة، والخبر النفساني؛ لأنه من لوازم العلم، وهو معنى قول العلماء: كل عالم مخبر عن معلومه، وليس في حقهم خبر لساني، أي: لم ينزل نص من الله- تعالى- أن فلانًا لا يصدر منه كذا من المعاصي، فهذا التقييد الذي هو الكلام اللساني امتازت به الملائكة والأنبياء- عليهم السلام ومجموع الأمة.
وأما أصل الامتناع، فمشترك، بل ما من أحد إلا وقد عصمه الله- تعالى- من معصيته، وليس أحد من خلق الله- تعالى- جمع بين جميع المعاصي؛ بحيث لا تبقى معصية مقصودة، إلا وقد وقع فيها فتحصل، له في عصمة الأمور الثلاثة المتقدم ذكرها، فيمتاز الامتناع في حق الله- تعالى- بأنه لذاته وتعذر الإرادة فيه.
وتمتاز عصمة الأنبياء والملائكة- عليهم السلام ومجموع الأمة بالخبر اللساني، ويبقى الخبر النفساني، والعلم، والإرادة مشتركًا بين المواطن كلها في الاستحالة على الله- تعالى- وعلى غيره.
فهذا تلخيص هذه العصم والاستحالات، وما اشتركت فيه، وما امتازت به، فمتى قلنا: الأنبياء معصومون، نريد الخبر اللساني بالنصوص السمعية، ومتى قلنا: إن فلانًا عصم من ذكا؛ نريد به معنى آخر، وهي الأمور الثلاثة المتقدم ذكرها.