الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك يجب على الحاكم إتباع البينة والحجاج الشرعية، وإن لم تكن أدلة، وقد تقدم الفرق بين الدليل والحجة؛ فهذا هو الفرق بين المسألتين.
قوله: (حجة الوجوب قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]):
قلنا: قد تقدم أنها نكرة في سياق الإثبات؛ فلا تعم صورة النزاع؛ فلا يحصل المطلوب.
قوله: (الآية وردت على صيغة الإخبار عما مضى):
تقريره: أنها وردت بصيغة (كان) الدالة على المضي.
(فائدة)
قال ابن برهان في كتابه المسمى بـ (الأوسط): يجب التأسي عندنا، إذا عرف وجهه
.
وقال المتكلمون بالوقف، وللحنفية القولان، وحيث قلنا بوجوب التأسي، فبالسمع عندنا؛ خلافًا لمن قال: هو بالعقل، وإذا لم يعرف وجه الفعل، كيف وقع من الأحكام، فعندنا لا يجب؛ للجهل بالصفة.
وقيل: يجب؛ لأن الجهل بالصفة لا يقدح في وجوب مثل الموصوف علينا، وجوابه: أن التأسي فعل مثل الغير على الوجه الذي أتى به، والاحتمالات متعارضة؛ فلا يجب التأسي.
والقائلون بالتأسي فيما لم يعرف وجه اختلفوا:
فقيل: بندب التأسي؛ لأن الندب هو الحالة الغالبة عليه- صلى الله عليه وسلم.
وقيل: بالإباحة؛ أخذًا بالأقل؛ لأنه المتيقن.
وقيل: بالوجوب؛ لأنه أحوط.
قال أبو الخطاب الحنبلي في (التمهيد): إذا لم يعلم وجه الفعل، حمله ابن حنبل على الوجوب.
وعنه: يحمل على الندب، وقال الحنفية، وعنه: الوقف؛ حتى يعلم وجهه؛ لاحتمال اختصاصه به عليه السلام.
مثاله: مسحه- عليه السلام جميع رأسه؛ فهل يجب مسح الجميع أم لا؟ يخرج على الخلاف.
* * *
القسم الثاني
في التفريغ على وجوب التأسي
المسألة الأولى
قال الرازي: لما عرفت: أن التأسي مطابقة فعل المتأسى به؛ على الوجه الذي قال الرازي: لما عرفت: أن التأسي مطابقة فعل المتأسى به؛ على الوجه الذي وقع فعله عليه، وجب معرفة الوجه الذي يقع عليه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ثلاثة: الإباحة، والندب، والوجوب.
أم الإباحة فتعرف بطرق أربعة:
أحدها: أن ينص الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه مباح.
وثانيها: أن يقع امتثالًا لآية دالة على الإباحة.
وثالثها: أن يقع بيانًا لآية دالة على الإباحة.
ورابعها: أنه لما ثبت أنه لا يذنب، ثبت أنه لا حرج عليه في ذلك الفعل، ولا في تركه، وانتفى الوجوب والندب بالبقاء على الأصل؛ فحينئذ يعرف كونه مباحًا.
وأما الندب فيعرف بتلك الثلاثة الأول، مع أربعة أخرى:
أحدها: أن يعلم من قصده صلى الله عليه وسلم أنه قصد القربة بذلك الفعل، فيعلم أنه راجح الوجود، ثم نعرف انتقاء الوجوب بحكم الاستصحاب، فيثبت الندب.
وثانيها: أن ينص على أنه كان مخيرًا بين ما فعل، وبين فعل ما ثبت أنه ندب؛ لأن التخيير لا يقع بين الندب، وبين ما ليس بندب.
وثالثها: أن يقع قضاء لعبادة كانت مندوبة.
ورابعها: أن يداوم على الفعل، ثم يخل به من غير نسخ، فتكون إدامته- عليه الصلاة والسلام دليلًا على كونه طاعة، وإخلاله به من غير نسخ دليلًا على عدم الوجوب.
وأما الوجوب: فيعرف بتلك الثلاثة الأول، مع خمسة أخرى:
أحدها: الدلالة على أنه كان مخيرًا بينه وبين فعل آخر، قد ثبت وجوبه؛ لأن التخيير لا يقع بين الواجب، وبني ما ليس بواجب.
وثانيها: أن يكون قضاء لعبادة، قد ثبت وجوبها.
وثالثها: أن يكون وقوعه مع أمارة، قد تقرر في الشريعة أنها أمارة الوجوب؛ كالصلاة بأذان وإقامة.
ورابعها: أن يكون جزاء لشرط، فوجب، كفعل ما وجب بالنذر.
وخامسها: أن يكون لو لم يكن واجبًا، لم يجز، كالجمع بين ركوعين في صلاة الكسوف.
القسم الثاني
قال القرافي: قوله: (فعله عليه السلام ثلاثة: الإباحة، والندب، والوجوب):
تقريره: أنه- عليه السلام معصوم؛ فيمتنع المحرم عليه، وكمال عقله وحرصه يمنع أكثر المباحات فضلًا عن المكروهات؛ فلم يبق إلا ما ذكره.
فإن قلت: السهو والنسيان الواقع في الصلاة مما جاءت به السنة، وهو
عري عن الأحكام الخمسة، فلا يوصف السهو بحكم البتة، وكذلك النسيان، والخطأ، والإكراه، بل هو كفعل النائم، وحركات الجماد، والرياح، فقد خرج هذا القسم عن تقسيمه.
قلت: مقصوده الفعل الذي نتبعه فيه، والسهو لم يقل أحد: إنا نتبعه في أن نسهو، كما سها، بل نرتب على السهو ما رتبه فقط، وهذا ليس إتباعًا في السهو، بل في العمد المقصود.
قوله: (لا يقع التخيير بين الواجب، وغير الواجب، ولا بين المندوب، وغير المندوب؛ اعتمادًا منه على أن التخيير يقتضي التسوية):
أورد بعضهم على هذه القاعدة تخيير الله- تعالى- نبيه- صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بين القدحين من لبن وخمر، فاختار اللبن، فقال له جبريل- صلوات الله عليهما-:(اخترت الفطرة، ولو اخترت الخمر، لغوت أمتك) فقد وقع التخيير بين المختلفات عند الله- تعالى- وفي نظر الشرع.
وأجبته: بأن الاختلاف هاهنا ليس بين مختلفات في الأحكام، بل باعتبار العواقب.
وتقريره: أن حكم الله- تعالى- في ذينك القدحين كان واحدًا: إما الوجوب، أو الندب، أو الإباحة؛ لأن الواقعة واقعة عين محتملة لهذه الثلاثة أحكام، فالواقع واحد منها غير معين، وقد استوى القدحان فيه.
وأما من حيث الوضع الإلهي وما وضع الله- تعالى- في العالم من الأسرار، فهذا بمعزل عن الأحكام الشرعية، كما نقطع بأن الله- تعالى- خيرنا بين بناء دار في هذه البقعة، ودار في تلك البقعة، فإذا اخترنا أحدهما- والحكم في الجميع الإباحة بالإجماع- أمكن أن يقول صاحب الشرع أو المخبر عنه: أصبتم في اختيار هذه البقة للبناء، ولو اخترتم تلك البقعة، لكان الدار مشئومة، فإن الله- تعالى- قد وضع هذه مباركة، ووضع تلك مشئومة، كما جاز في الحديث:(إنما الشؤم في ثلاثة المرأة، والدار، والفرس).
فالحكم واحد، والعواقب مختلفة؛ إذ ليست من الأحكام الشرعية الخمسة، بل من أحكام القضاء والقدر، وهو قد يختلف فيه الواجبات والمحرمات، فقد يقدم اثنان على طاعة الله- تعالى- بوصف الوجوب، أو الندب، ويكون في القدر فتنة لأحدهما، ورحمة للآخر.
ويقدم اثنان على معصية الله- تعالى- بوصف التحريم، وتكون المعصية هلاكًا لأحدهما، ورحمة في حق الآخر، باعتبار ما يترتب عليهما من الندم، والتوبة، والإنابة، وغير ذلك.
وأحكام العواقب غير الأحكام الشرعية، فتأمل ذلك، فلم يرد نقض على هذه القاعدة.
فإن قلت: قد خير الشرع في خصال الكفارة في اختلافهما في المصالح، والأحكام تتبع المصالح؛ فيلزم اجتماع التخيير، والاختلاف في الأحكام؛ فلا تكون التسوية لازمة للتخيير.
قلت: التخيير وقع في خصال الكفارة باعتبار مناسبة سبب التكفير، ونحن إنما ندعي أن التخيير يقتضي التسوية بين المخير فيه من الوجه الذي وقع التخيير فيه فقط، لا من كل وجه، كما يخير في إزالة ألم الجوع بين اللحم والنبات. وإن اختلفا من جهة توفير القوة، فالوجه الذي وقع التخيير فيه: التسوية لازمة فيه.
ومن جهة توفير القوة: التسوية منفية، وليس فيه تخيير، ونظائره كثيرة.
قوله: (من أدلة الوجوب: أن يكون جزاء الشرط؛ كفعل ما وجب نذره):
قلت: كشفت نسخًا كثيرة، فوجدت هذه العبارة فيها، ولم أجد غيرها، وهي مشكلة؛ من جهة أن النذر لا يجب، بل يجب به، فكان المتجه أن يقول: ما وجب بالنذر، ولا يقول: ما وجب نذره.
قوله: (وخامسها: لو لم يكن واجبًا، لم يجز كالجمع بين الركوعين في صلاة الكسوف):
تقريره: أن الزيادة في الزيادة حرام، والركوع الثاني في غير هذه الصلاة يحرم القصد إليه، ومقتضى ذلك تحريم القصد إليه- هاهنا- تسوية بين صورة النزاع وصورة الإجماع، ويرد عليه أن الصلوات وإن عقل معناها من حيث الجملة؛ غير أنها مشتملة على نوع كثير من التعبد؛ فإن عدد الركعات بعيد، وترتيبها على هذه الأسباب الخاصة دون الصيام والصدقة، وأنواع الطاعات بعيد؛ لا يعقل معناه، وكذلك النوافل والسنن؛ فإن مناسبة سبع
تكبيرات لصلاة العيد دون العشرة وغيرها لا يعقل معناه، والتعبد معناه: أنا لا نعلم معناه، لا أنه عرى عن المعنى عند الله تعالى، إذا تقرر هذا؛ فلعل في صلاة الكسوف ما يقتضي مناسبة ركوعين على وجه الندب، لا على وجه الوجوب؛ كما اقتضت مناسبة العيد عند الله- تعالى- الزيادة في التكبير، وأن العيدين سواء في ذلك، وبالجملة أخذ الوجوب من هذا بعيد، بل احتمل أن يكون مندوبًا على هذه الصورة، ومناسبة سببه تقتضي ذلك حتى يثبت بدليل خارج وجوب هذا الفعل، فالملكية كلهم وغيرهم على عدم الوجوب في صلاة الكسوف.
قوله: (المعارض، إما قوله عليه السلام، أو فعله): الحصر ممنوع؛ لاحتمال القياس، والإجماع، والدليل المركب من النقل والعقل.
* * *