الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقرر وضع تلك الألفاظ، فهو تابع للمواضعة؛ بخلاف الإشارة على زعمه، وأما الكتابة فليست تابعة لوضع غيرها، بل هي موضوعة؛ فلذلك قال فيها:(بالمواضعة) بصيغة (الباء) التي هي للسببية، ولم يجعلها تابعة، ولا متبوعة؛ لأن مقصوده بالتبعية وضع في غير التابع، والوضع هاهنا في نفس الكتابة، لا في غيرها.
فبهذا الطريق، صارت الأقسام عنده ثلاثة.
قوله: (يعلم كون الفعل بيانًا للمجمل بالفعل، إذا فعله عند وقت الحاجة):
قلنا: هذا متجه؛ على القول باستحالة تكليف ما لا يطاق، ويكون الفعل دالاً على أن ذلك بيانًا نفيًا للاستحالة، أما مع تجويزه، فلا يكون الفعل يدل على ذلك.
قوله: (الفعل يدل على الصفة، ولا يدل على وجوبه):
تقريره: أنه عليه السلام لما بين فعل الجمعة والحج، أمكن أن يكون ذلك مندوبًا، وإنما علمنا الوجوب من صيغ الأوامر في الاثنين.
قوله: (الترك ينفي وجوب الفعل):
تقريره: أنه عليه السلام معصوم لا يقع في فعله محرم، ولا ترك واجب، فمتى ارك شيئًا، دل على عدم وجوبه.
(سؤال)
جعله الفعل يدل على صفة الفعل دون حكمه؛ بخلاف الترك، فإنه يبين أن ذلك الفعل غير واجب يرد عليه: أن الفعل بين أن ذلك الفعل غير محرم، ولا مكروه، فإن لاحظنا العصمة، حصلت الدلالة فيهما، وإلا فلا دلالة فيهما؛ فلا فرق بينهما، لاختصاص كل واحد منهما بوجه من وجوه الدلالة والأحكام.
قوله: إذا قام من اثنتين، ومضى على صلاته، علم أن التشهد ليس شرطًا في الصلاة، ودل على عدم وجوبه):
قلنا: هذا يتوقف على بحثين:
الأول: جاز أن يكون شرطًا مع الذكر، كما قاله جماعة من العلماء في طهارة الخبث، والموالاة، والتسمية في الذبيحة.
والثاني: أنه عليه السلام ما كان متعمدًا؛ فلعله عليه السلام استمر عليه؛ للسهو إلى آخر الصلاة، ولم يذكر التشهد، حتى فات موضعه، فسقط شرطيته؛ لانتفاء العمدية، ولا يحصل العصيان بالترك؛ لعدم العمد، ولا يدل الترك على عدم الوجوب حينئذ.
قوله: (إذا سكت عن حكم الواقعة، دل ذلك على أنه ليس فيها حكم شرعي):
قلنا: قد يكون البيان تقدم قبل هذا السؤال، فقد كان عليه السلام يمكث عددًا من السنين، وهو لا يلزم نفسه الكريمة تكرار النهي عن عبادة الأصنام في كل يوم؛ لأنه قد تقدم، وما بقى لذكره كبير فائدة، فجاز أن يكون الترك لهذا المعنى، والسائل لا يتعلق به الحكم، ويكون ذكره له فيه مفسدة؛ لأن حاله بالنسبة إلى تلك الواقعة يقتضي ذلك؛ كما لو سأل المحرم الشاب عن تفاصيل أحوال الاستمتاع بالنساء، ويكون السؤال أمره به حلال؛ فإن المصلحة تقتضي أن صاحب المسألة يحضر، وأن يترك الحديث مع هذا؛ لئلا يهيج عليه داعية النساء؛ فيفسد حجه.
وكذلك لو سأل النساء المخدرات عن تفاصيل أحوال الرجال، وأمكن السكوت عنهم، ولا يدل ذلك على عدم الحكم في تلك الوقائع؛ فلابد مع ترك الجواب من ضميمة قيود؛ حتى يشعر بعدم الحكم.
ولقائل أن يقول: الترك مطلقًا فيه ظهور على عدم الحكم الشرعي، وهذه صورة نادرة لا تقدح في الظن، بل متى سكت المفتي، غلب على الظن عدم الحكم عنده في تلك المسألة.
قوله: (إن ترك الفعل بعد أن فعله، دل على نسخه عنه)
قلنا: هذا بشرط أن يكون أصل الفعل واجبًا، ويترك في الوقت الذي يتعين فعله فيه، لا لمانع؛ وإلا فالمندوب يجوز تركه؛ كما ترك الخروج للمسجد للصلاة في قيام رمضان، وقال:(خشيت أن تفرض عليكم) وإن كان الوقت لم يأت، أو لم يتعين فعل الواجب، لا يدل ذلك على النسخ، وكذلك الاعتذار بترك الفعل، كتأخير الصلاة إلى دخول وقتها لتركه عليه السلام للعذر في الجمع، وهو واجب لم ينسخ، فلا بد من هذه القيود كلها.
قوله: (وإن كان حكم الأمة كحكمه نسخ عنهم)
قلنا: قد تقدمت المناقشة على تعليقه المساواة على كلمة (إن) مع أنها لا يعلق عليها إلا المشكوك، والمساواة معلومة من الدين؛ فلا تعلق على (إن).
قال الغزالي في (المستصفى): الذي يدل على كون الفعل بيانًا سبعة طرق:
وروده عند وقت الحاجة؛ لئلا يتأخر البيان عنها.
الثانية: أن ينقل إلينا فعل غير مفصل؛ كمسحه رأسه وأذنه، ولم ينقل تجديد الماء، ثم ينقل تجديد الماء، فيكون بيانًا مع احتماله للفضيلة.
الثالثة: أن يترك ما يلزمه؛ فيكون نسخًا.
الرابعة: ألا يقطع في سرقة اليمين، فيعلم تخصيص آية السرقة به، ونحو ذلك.
الخامسة: أن يفعل في الصلاة ما لو لم يكن واجبًا، لأفسد الصلاة؛ كالركوعين في صلاة الكسوف.
السادسة: أن يأخذ الجزية والزكاة مفصلة بعد إجمال النصوص فيها.
السابعة: أن يعاقب عقوبة بمال أو غيره، ثم يبين سببها.
* * *
المسألة الثالثة
قال الرازي: الحق أن الفعل قد يكون بيانًا؛ خلافًا لقومٍ.
لنا: أن الخصم إما أن يقول: إنه لا يصح وقوع البيان بالفعل، أو يقول: إنه يصح عقلاً، لكن لا يجوز في الحكمة.
والأول: ضربان: أحدهما: أن يقال: إن الفعل لا يؤثر في وقوع اليقين أصلاً، والآخر: أن يقال: إنه لا يؤثر في ذلك إلا مع غيره، وهو أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا الفعل بيان لهذا الكلام.
والأول باطل؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة والحج أدل عليهما من صفته لهما، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم الحج والصلاة، وقال:(خذوا عني مناسككم)، وقال:(صلوا كما رأيتموني أصلي) وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء بفعلهم.
وأما الثاني وهو ألا يقع البيان بالفعل وحده، إلا عند قيام الدليل على أن ذلك الفعل بيان لذلك المجمل، فهذا مما لا خلاف فيه، إلا أن المبين هو الفعل؛ لأنه هو المتضمن لصفة الفعل، وإنما القول لتعليق الفعل الواقع بيانًا على المجمل.
وأما القسم الثاني: وهو أنه غير جائز في الحكمة، فهو لا يستقيم على أصلنا؛ لأن الله - تعالى - يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
ثم إن سلمنا هذا الأصل، لكنه لا يمتنع أن يعلم الله تعالى من المكلف أن بيان المجمل بهذا الطريق أصلح له.
احتج المخالف: بأن الفعل يطول؛ فيلزم تأخير البيان.
والجواب: أن القول قد يكون أطول؛ لأن وصف أفعال الصلاة وتروكها على الاستقصاء أصول من الإتيان بركعة واحدة، فجوابكم جوابنا، والله أعلم.
* * *
المسألة الثالثة:
الفعل يكون بيانًا
قال القرافي: قوله: (إن منعوا البيان؛ لأنه ينافي الحكمة، فإن أصلنا أن الله - تعالى - يفعل ما يشاء):
قلنا: وقد تقدم أن الفعل دل على صفة الفعل؛ كما في الحج وغيره، فأمكن أن يكون ذلك الفعل؛ لغموضه، ونفاسته، يتعين بيانه بالفعل، ويمتنع بالقول في مقتضى الحكمة؛ صوتًا لنفاسة ذلك الفعل.
ولا يشك عاقل أن بيان عمل الصنعة الدقيقة كنسج الديباج البديع، والمعاجين العربية كالدرياق الفاروقي والكيمياء والسيماء، ونحو ذلك بالفعل أولى منه بالقول، بل يتعين الفعل، وإلا يفسد ذلك الموصوف بالقول حالة المباشرة غالبًا، والعادة دلت على ذلك.
*
…
*
…
*
المسألة الرابعة
في أن القول هل يقدم على الفعل في كونه بيانًا؟
قال الرازي: القول والفعل، إذا وردا فإما أن يكونا متطابقين، أو متنافيين، فإن كانا متطابقين وعلم تقدم أحدهما على الآخر، فالأول بيان والثاني تأكيد؛ لأن الأول قد حصل التعريف به، فلا حاجة إلى الثاني.
وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر، حكم على الجملة بأن الجملة بأن الأول منهما بيان، والثاني تأكيد.
وإن كانا متنافيين، كقوله صلى الله عليه وسلم:(من قرن الحج إلى العمرة، فليطف لهما طوافًا واحدًا) مع ما روى عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قرن فطاف طوافين، وسعى سعيين، فالقول هو المقدم في كونه بيانًا؛ لأنه بيان بنفسه، والفعل لا يدل حتى يعرف ذلك: إنا بالضرورة، أو بالاستدلال بدليل قولي أو عقلي، فإذا لم يعقل ذلك، لم يثبت كون الفعل بيانًا، والله أعلم.
* * *
المسألة الرابعة
هل يقدم القول على الفعل؟
قال القرافي: قوله: (القول بيان بنفسه):
يريد أن الوضع يوجب الدلالة، والفعل لا شيء في تقتضي دلالته؛ حتى يقول: هذا بيان لذلك المجمل ونحوه.
قال سيف الدين: الحق: إن تقدم أحدهما كان بيانًا، والثاني تأكيدًا،
إلا إذا كان دون الأول في الدلالة؛ لاستحالة تأكيد الأضعف للأقوى، وإن جهل التاريخ، وهما مستويان في الدلالة، فأحدهما بيان، والآخر تأكيد، وإن كان أحدهما أرجح؛ فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم؛ لأنا لو فرضناه متأخرًا، امتنع أن يكون مؤكدًا، فيكون ملغي، ومنصب الشرع بعيد عن رصدان ما هو ملغي.
قلت: وهو غير متجه؛ لأن الأضعف يؤكد ويقوي، ويزيد في رتبة الظن الحاصلة قبله، كما لو شهد أربعة، ثم شهد خامس، فإن الظن يتأكد بالضرورة، وإن اختلف القول والفعل.
قال سيف الدين: قال أبو الحسين: المتقدم منهما البيان، وإن كان الفعل؛ فيكون الطواف الثاني في سعيه عليه السلام واجبًا إن تقدم فعله عليه السلام وإن تقدم القول، فالطواف الثاني غير واجب.
قال: والحق: إن تقدم القول، كان الطواف الثاني مندوبًا؛ لأنه لو كان واجبًا، لنسخ الفعل القول، والجمع أولى.
وتقدم الفعل، وإن دل على وجوبه، لكن القول المتأخر يدل على عدم وجوبه، وأن يحمل على أنه واجب عليه وحده، والأول سنة، فإن جهل التاريخ، فالأول فرض تقدم القول؛ حتى يكون الطواف الثاني مندوبًا، ولو فرضنا تقدم الفعل؛ لزم إلغاء القول، أو النسخ والإلغاء.
*
…
*
…
*
المسألة الخامسة
في أن البيان كالمبين
قال الرازي: هذا الباب يشتمل على شيئين: أحدهما: هل البيان كالمبين في القوة؟ والآخر: هل هو كالمبين في الحكم؟
أما الأول: فقال الكرخي: المبين إذا كان لفظًا معلومًا وجب كون بيانه مثله، وإلا لم يقبل.
والحق أنه يجوز أن يكون البيان والمبين معلومين وأن يكونا مظنونين، وأن يكون المبين معلومًا، وبيانه مظنونًا؛ كما جاز تخصيص القرآن بخبر الواحد والقياس.
وأما الآخر: فهو: أنه هل إذا كان المبين واجبًا، كان بيانه واجبًا كذلك؟ قال به قوم:
فإن أرادوا به أن المبين، إذا كان واجبًا، فبيانه بيان لصفة شيء واجب، فصحيح.
وإن أرادوا به أنه يدل على الوجوب، كما يدل المبين، فغير صحيح؛ لأن البيان إنما يتضمن صفة المبين، وليس يتضمن لفظًا يفيد الوجوب؛ ألا ترى أن صورة الصلاة ندبًا وواجبًا، صورة واحدة؟
وإن أرادوا: أنه إذا كان المبين واجبًا كان بيانه واجبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن الفعل المبين واجبًا، لم يكن بيانه واجبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم فباطل؛ لأن بيان المجمل واجب، سواء تضمن فعلاً واجبًا، أو لم يتضمن، وإلا كان تكليفًا بما لا يطاق، والله أعلم.
المسألة الخامسة
البيان كالمبين
قال القرافي: قوله: (بيان المجمل واجب على الرسول عليه السلام كان الفعل الذي تضمنه المجمل واجبًا أم لا، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق):
قلنا: لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق؛ لأن البيان، إذا فرض غير واجب لا بد من مقدمة أخرى، وهي أن الفعل واجب علينا حالة عدم البيان؛ وحينئذ يلزم ذلك، فقد نفرض البيان غير واجب على النبي عليه السلام ويكون الفعل أيضًا غير واجب حالة عدم البيان، كما هو الواقع في الشريعة أنه لا يلزمنا العمل بالمجملات، بل إن وقع بيانها، وجب العمل بها، وإلا فجاز أن يكون الواقع ذلك، ويكون البيان مندوبًا عليه صلى الله عليه وسلم ولا يلزم من ذلك تكليف ما لا يطاق، ولا إجمال للأمر الوارد بطريق الإجمال؛ لأن البيان يقع غالبًا؛ لأن وصف الندب حادث على الفعل، وحاله عليه السلام تقتضي المبادرة إلى المندوبات، وعدم الإخلال بها.
أما إن كان المجمل يتضمن فعلاً غير واجب، فتكليف ما لا يطاق منفي أيضًا لما تقدم؛ ولأن المندوب لو ترك بعد البيان، لم يكن فيه حرج، فأولى قبل البيان، وإنما يلزم تكليف ما لا يطاق فيما يلزم من تركه عقاب.
وأما إن كان مباحًا، فبطريق الأولى، وكلامكم يتضمن هذه الأقسام؛ كقولكم: تضمن فعلاً واجبًا، أو غير واجب، ويندرج أيضًا المحرم والمكروه، فإنهما قد يردان بلفظ مجمل؛ فقد يقول السيد لعبده: حرمت عليك النظر للعين، وهو مشترك بين الباصرة والفوارة وغيرهما، فيتوقف العبد إلى عين البيان، ولا يرد البيان بكونه غير واجب مثلاً على السيد، فلا يقع العبد في المخالفة؛ لأنه قد علم أن ثم في هذه المسميات محرمًا، ولم
يتعين، فيتعين اجتناب الجميع؛ كالمذكاة إذا اختلطت بميتة، أو أخته من الرضاعة بأجنبية؛ فعلمنا أنه لا يلزم من عدم وجوب البيان تكليف ما لا يطاق على الإطلاق.
قال سيف الدين: قيل: البيان يجب أن يكون مساويًا للمبين في الحكم، وقيل: لا.
قال: والمختار التفصيل: إن كان المبين بقى في تعيين أحد محتملاته أدنى دلالة، أو عامًا، أو مطلقًا، فلابد أن يكون أقوى دلالة من العام على صورة التخصيص، ومن المطلق على صورة التقييد، لئلا يلزم من المساواة التوقف، ومن المرجوح الإلغاء؛ فلا بيان حينئذ.
وأما المساواة في الحكم، فلا تجب؛ لأنه لو دل البيان على ما دل عليه المبين، لم يكن كون أحدهما بيانًا للآخر أولى من العكس، وإنما يكون بيانًا، إذا كان أحدهما دالاً على صفة ما دل عليه الآخر، لا على مدلوله؛ فيدل البيان على الصفة، والمبين على الأصل.
قلت: قوله: (يكون المقيد أقوى من دلالة المطلق على المقيد) - غير متجه، فإن المطلق لا دلالة له ألبتة في جميع الصور؛ لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص ضرورة، وإذا انتفت دلالته، بطل اشتراط القوة، وتعين أن يكون أدنى دليل يوجب التقييد؛ لعدم المعارضة.
وقوله: (لا يدل البيان على ما دل عليه المبين، بل على صفته، فلا يستويان في حكم الوجوب) فلا يتجه أيضًا؛ لأنه قد يدل على الصفة والوجوب أيضًا لقوله عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي)
و (خذوا عني مناسككم)، هذا القول مع الفعل بيان، وهو دال على الوجوب كالمبين.
قال الغزالي في (المستصفى): بيان الأحكام كلها واجب.
وقال بعض القدرية: بيان الواجب واجب، وبيان المندوب مندوب، وبيان المباح مباح.
قال: ويلزم على ذلك أن بيان المحرم محرم.
*
…
*
…
*
القسم الثالث
قال الرازي: في وقت البيان، وفيه مسائل
المسألة الأولى: القائلون بأن لا يجوز تكليف ما لا يطاق اتفقوا على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن التكليف به مع عدم الطريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق.
والإشكالات التي ذكرناها في أن تكليف الساهي غير جائز قائمة هاهنا والجواب واحد.
المسألة الثانية: اختلفوا في جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب:
الخطاب المحتاج إلى البيان ضربان:
أحدهما: ما له ظاهر قد استعمل في خلافه.
والثاني: لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة.
والأول أقسام: أحدها: تأخير بيان التخصيص.
وثانيها: تأخير بيان النسخ. وثالثها: تأخير بيان الأسماء الشرعية.
ورابعها: تأخير بيان اسم النكرة، إذا أراد به شيئًا معينًا.
إذا عرفت ذلك، فنقول: مذهبنا: أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة في كل هذه الأقسام، وأما المعتزلة فأكثر من تقدم أبا الحسين رحمه الله اتفقوا على المنع من تأخير البيان في كل هذه الأقسام، إلا في النسخ، فإنهم جوزوا تأخير بيانه.
وأما أبو الحسين: فإنه منع من تأخير البيان فيما له ظاهر قد استعمل في خلافه، وزعم أن البيان الإجمالي كاف فيه، وهو أن يقول عند الخطاب اعلموا أن هذا العموم مخصوص، وأن هذا الحكم سينسخ بعد ذلك.
وأما البيان التفصيلي: فإنه يجوز تأخيره.
وأما الذي لا يكون له ظاهر؛ مثل الألفاظ المتواطئة، والمشتركة فقد جوز فيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
وهذا التفصيل ذكره كثير من فقهاء أصحابنا؛ كأبي بكر القفال، وأبي إسحاق المروزي، وأبي بكر الدقاق.
واعلم أن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين:
أحدهما: أن يستدل في الجملة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
وثانيهما: أن يستدل على جواز ذلك في كل واحدة من الصور المذكورة.
أما المقام الأول: فالدليل عليه قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 17 - 18 - 19] و (ثم) في اللغة للتراخي، وهو المطلوب.
فإن قيل: لا نسلم أن كلمة (ثم) للتراخي فقط بل قد تجيء بمعنى (الواو) كقوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب} [الأنعام: 154]{ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17]{ثم الله شهيد} [يونس: 46] سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أن المراد بالبيان في هذه الآية البيان الذي اختلفنا فيه، وهو بيان المجمل والعموم؛ فلم لا يجوز أن يكون المراد به إظهاره بالتنزيل؟ غاية ما في
الباب أن يقال: هذا مخالفة الظاهر، لكن نقول: يلزم من حفظ هذا الظاهر مخالفة ظاهر آخر وهو أن الضمير الذي في قوله: {ثم إن علينا بيانه} راجع إلى جميع المذكور، وهو القرآن، ومعلوم أن جميعه لا يحتاج إلى البيان، فليس حفظ أحد الظاهرين بأولى من الآخر، وعليكم الترجيح.
سلمنا أن المراد من البيان ذلك، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد به تأخير البيان التفصيلي، وذلك عند أبي الحسين جائز؟
سلمنا أن المراد مطلق البيان لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} هو: أن يجمعه في اللوح المحفوظ، ثم إنه بعد ذلك ينزله على الرسول صلى الله عليه وسلم ويبينه له، وذلك متراخ عن الجمع.
سلمنا أن البيان ما ذكرتموه؛ لكن الآية تدل على وجوب تأخير البيان، وذلك ما لم يقل به أحد، فما دلت عليه الآية لا تقولون به، وما تقولون به، وهو الجواز، لم تدل الآية عليه؛ فبطل الاستدلال.
والجواب: أما أن كلمة (ثم) للتراخي، فذلك متواتر عند أهل اللغة، والآيات التي تلوتموها المراد هناك التأخير في الحكم.
قوله: لم لا يجوز أن يكون المراد من البيان إظهاره بالتنزيل؟
قلنا: لأن قوله: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 18] أمر للنبي صلى الله عليه وسلم باتباع قرآنه، وإنما يكون مأمورًا بذلك بعد نزوله عليه، فإنه قبل ذلك لا يكون عالمًا به، فكيف يمكنه اتباع قرآنه؟
فثبت أن المراد من قوله: {فإذا قرأناه} [القيامة: 17] هو الإنزال، ثم
إنه - تعالى - حكم بتأخير البيان عن ذلك، وذلك يقتضي تأخير البيان عن وقت الإنزال.
وإذا كان كذلك وجب ألا يكون المراد من البيان هو الإنزال؛ لاستحالة كون الشيء سابقًا على نفسه.
سلمنا أنه يمكن ما ذكروه، ولكنه خلاف الظاهر.
قوله: يلزم من مخالفة المحافظة على هذا الظاهر، احتياج القرآن جميعه إلى البيان.
قلنا: لا نسلم؛ فإن لفظ القرآن يتناول كله وبعضه؛ بدليل أنه لو حلف ألا يقرأ القرآن، ولا يمسه، فقرأ آية، أو لمس آية؛ فإنه يحنث في يمينه.
سلمنا أن لفظ القرآن ليس حقيقة في البعض؛ لكن إطلاق اسم الكل على البعض، أسهل من إطلاق لفظ البيان على التنزيل؛ لأن الكل مستلزم للجزء، والبيان غير مستلزم للتنزيل.
قوله: (نحمله على البيان التفصيلي):
قلنا: اللفظ مطلق فتقييده خلاف الظاهر.
قوله: لم لا يجوز أن يكون المراد من الجمع جمعه في اللوح المحفوظ؟
قلنا: لما بينا أنه تعالى آخر البيان عن القراءة التي يجب على النبي عليه الصلاة والسلام متابعتها، وذلك يستدعي تأخير البيان عن وقت الإنزال.
قوله: هذا يقتضي وجوب تأخير البيان.
قلنا: ونحن نقول به.
فإن قلت: الضمير عائد إلى كل القرآن فيجب تأخير بيان الكل وذلك لم يقل به أحد.
قلت: قد تقدم بيان أن الضمير غير عائد إلى الكل، والله أعلم.
أما الذي يدل على كل واحدة من الصور التي ذكرناها فنقول: الدليل على أنه يجوز تأخير البيان في النكرة أن الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة موصوفة غير منكرة، ثم إنه لم يبينها لهم، حتى سألوا سؤالاً بعد سؤال.
إنما قلنا: إنه لم يرد بقرة منكرة؛ لوجهين:
الأول: أن قوله تعالى: {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} [البقرة: 68] و {ما لونها} وقول الله تعالى: {إنها بقرة لا فارض، ولا بكر} [البقرة: 69]{إنها بقرة صفراء} {إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض} [البقرة: 71] ينصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل، وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة منكرة، بل ذبح بقرة معينة.
الثاني: أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني، إما أن يقال: إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أولاً، أو صفات بقرة وجبت عليهم عند ذلك السؤال، وانتسخ ما كان واجبًا عليهم قبل ذلك.
والأول: هو المطلوب، والثاني: يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة أخرًا، وألا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك، ولما أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم.
فإن قيل: لا يجوز التمسك بهذه الآية؛ لأن الوقت الذي أمروا فيه بذبح
البقرة، كانوا محتاجين إلى ذبحها، فلو أخر الله البيان، لكان ذلك تأخيرًا للبيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز، فإذن ما تقتضيه الآية لا تقولون به، وما تقولون به لا تقتضيه الآية.
نزلنا عن هذا المقام، لكن لا نسلم أن المأمور به كان ذبح بقرة موصوفة، بل ذبح بقرة كيف كانت، فلما سألوا تغيرت المصلحة، ووجبت عليهم بقرة أخرى.
وأما الكنايات: فلا نسلم عودها إلى البقرة، ولم لا يجوز أن يقال: إنها كنايات عن القصة، والشأن؟ وهذه طريقة مشهورة عند العرب.
سلمنا أن هذه الكنايات تقتضي كون البقرة المأمور بها موصوفة، لكن هاهنا ما يدل على كونها منكرة، وهو من ثلاثة أوجه:
الأول: أن قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67] أمر بذبح بقرة مطلقة، وذلك يقتضي سقوط التكليف بذبح بقرة أي بقرة كانت، وذلك يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفًا جديدًا.
الثاني: لو كان المراد ذبح بقرة معينة، لما استحقوا التعنيف على طلب البيان، بل كانوا يستحقون المدح عليه، فلما عنفهم الله - تعالى - في قوله:{فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولاً ذبح بقرة منكرة.
الثالث: ما روىَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لو ذبحوا أية بقرة أرادوا، لأجزات عنهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم).
سلمنا أن المأمور به ذبح بقرة معينة موصوفة؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: البيان
التام قد تقدم، لكنهم لم يتبينوا ليلادتهم، فاستكشفوا طلبًا للزيادة، فحكى الله تعالى ذلك؟
سلمنا أن البيان التام لم يتقدم؛ فلم لا يجوز أن يقال: إن موسى عليه السلام كان قد أعلمهم بأن البقرة ليست مطلقة، بل معينة، فطلبوا البيان التفصيلي؟
فالحاصل أن البيان الإجمالي كان مقارنًا، والبيان التفصيلي كان متأخرًا؛ وهو جائز عند أبي الحسين رحمه الله.
والجواب: قوله: الآية تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة.
قلنا: لا نسلم؛ لأن ذلك إنما يلزم لو كان الأمر مقتضيًا للفور، لكنا لا نقول به.
قوله: (الكنايات عائدة إلى القصة والشأن):
قلنا: هذا باطل لوجوه:
أحدها: أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن، لكان الذي يبقى بعد ذلك غير مفيد؛ لأنه لا فائدة في قوله:{بقرة صفراء} [البقرة: 69] بل لابد من إضمار شيء آخر، وذلك خلاف الأصل، أما إذا جعلنا الكنايات عائدة إلى المأمور به أولاً لم يلزم هذه المحذور.
وثانيها: أن الحكم برجوع الكنايات إلى القصة والشأن خلاف الأصل؛ لأن الكناية يجب عودها إلى شيء جرى ذكره، والقصة والشأن لم يجر ذكرهما، فلا يجوز عود الكتابة إليهما؛ لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع، فيبقى فيما عداه على الأصل.
وثالثها: أن الضمير في قوله تعالى: {ما لونها} [البقرة: 69] و {ما هي} [البقرة: 70] لا شك أنه عائد إلى البقرة المأمور بها؛ فوجب أن يكون الضمير في قوله: {إنها بقرة صفراء} [البقرة: 69] عائدًا إلى تلك البقرة، وإلا لم يكن الجواب مطابقًا للسؤال.
قوله: إن قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67] أمر بذبح بقرة مطلقة.
قلنا: هب أن ظاهره يفيد الإطلاق، ونحن نسلمه، لكنا نقول: المراد كان غير الظاهر مع أنه تعالى ما بينه، فما قلتموه لا يضرنا.
قوله: لو كان ذلك لطلب البيان، لما استحقوا التعنيف بقوله:{وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71].
قلنا: إن قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71]، ليس فيه دلالة على أنهم فرطوا في أول القصة، أو أنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان، بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير، وهو أنهم لما وقفوا على تمام البيان، توقفوا عند ذلك، وما كادوا يفعلون.
قوله: نقل عن ابن عباس أنه قال: (شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم):
قلنا: هذا من أخبار الآحاد، ومع تقدير الصحة، فلا يصلح معارضًا لنص الكتاب.
قوله: لم لا يجوز أن يقال: كان البيان حاصلاً، لكنهم لم يتبينوا:
قلنا لوجهين:
الأول: أنهم كانوا يلتمسون البيان، ولو كان البيان حاصلاً، لما التمسوه، بل كانوا يطلبون التفهيم.
الثاني: أن فقد التبيين عند حضور هذا البيان متعذر هاهنا؛ لأن ذلك البيان ليس إل وصف تلك البقرة، والعاقل العارف باللغة، إذا سمع تلك الأوصاف استحال ألا يعرفها.
قوله: (كانوا يطلبون البيان التفصيلي).
قلنا: لو كان كذلك، لذكره الله تعالى إزالة للتهمة.
أما الدليل على جواز تأخير بيان المخصص: فالنقل و [المعقول]:
أما النقل: فهو: أن الله تعالى لما أنزل قوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] قال ابن الزبعري: (قد عبدت الملائكة وعبد المسيح، فهؤلاء حصب جهنم).
فتأخر بيان ذلك؛ حتى أنزل الله تعالى قوله: {إن الذين سبقت لهم منَّا الحسنى} [الأنبياء: 101].
فإن قيل: لا نسلم أن قوله تعالى: {وما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 98] يندرج فيه الملائكة، والمسيح.
وبيانه من وجهين:
الأول: أن كلمة (ما) لما لا يعقل، فلا يدخلها المسيح، والملائكة.
الثاني: أن قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون} [الأنبياء: 98] خطاب مع العرب، وهم ما كانوا يعبدون المسيح والملائكة، بل كانوا يعبدون الأوثان.
سلمنا ذلك، لكن تخصيص العام بدليل العقل جائز، وهاهنا دل العقل على خروج الملائكة والمسيح، فإنه لا يجوز تعذيب المسيح بجرم الغير وهذا الدليل كان حاضرًا في عقولهم.
ثم نقول: المسألة علمية، وهذا خبر واحد، فلا يجوز إثباتها به.
سلمنا صحة الرواية، لكن الرسول عليه السلام إنما سكت انتظارًا لنزول الوحي عليه في تأكيد البيان العقلي، واللفظي.
والجواب: لا نسلم أن صيغة (ما) مختصة بغير العقلاء، والدليل عليه وجوه:
أحدهما: قوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} [الليل: 3]{والسماء وما بناها} [الشمس: 5]{ولا أنتم عابدون ما أعبد} [الكافرون: 3].
وثانيها: اتفاق أهل اللغة على ورود (ما) بمعنى (الذي) وكلمة (الذي) متناولة للعقلاء، فكلمة (ما) أيضًا كذلك.
وثالثها: أن ابن الزبعرى كان من الفصحاء، فلولا أن كلمة (ما) تتناول المسيح والملائكة، وإلا لما أورده نقضًا على الآية.
ورابعها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه ذلك، بل سكت وتوقف إلى نزول الوحي، ولو كان ذلك خطأ في اللغة، لما سكت الرسول صلى الله عليه وسلم عن تخطئته.
وخامسها: أنه يقال: (ما في ملكي، فهو صدقة) و (ما في بطن جاريتي، فهو حر) وهو يتناول الإنسان.
وسادسها: أنها لو كانت مختصة بغير من يعلم، لما كان لقوله تعالى: {من
دون الله} [الأنبياء: 98] فائدة؛ لأنه إنما يحتاج إلى الاحتراز؛ حيث يصلح الاندراج.
قوله: الخطاب كان مع العرب، وهم ما كانوا يعبدون الملائكة والمسيح):
قلنا: الرواية المشهورة: أنه قد كان من العرب من يعبد الملائكة والمسيح، وقد ذكر الواحدي وغيره ذلك في سبب نزول هذه الآية.
ولأن هذه الآية لو كانت خطابًا مع عبدة الأوثان فقط لما جاز توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن تخطئة السائل.
قوله: (كل أحد يعلم أن تعذيب الرجل بجرم الغير لا يجوز).
قلت: نعم، لكن؛ ألا يصح دخول الشبهة في أن أولئك المعبودين كانوا راضين بذلك أم لا؟ وعند ذلك يصح السؤال.
قوله: هذه الرواية من باب الآحاد.
قلنا: لا نسلم، فإن المفسرين اتفقوا على ذكرها في سبب نزول هذه الآية؛ وذلك يدل على الإجماع.
سلمنا أنه من الآحاد؛ لكنا بينا أن التمسك بالأدلة اللفظية، أينما كان، لا يفيد إلا الظن، ورواية الآحاد صالحة لذلك، والله أعلم.
وأما المعقول: فمن وجهين:
أحدهما: وهو أن نقول لأبي علي، وأبي هاشم: لو لم يجز تأخير بيان التخصيص في الأعيان، لما جاز تأخير بيان التخصيص في الأزمان، لكن جاز هذا، فجاز ذلك.
بيان الملازمة أنه لو لم يجز تأخير بيان المخصص في الأعيان، لكان ذلك؛ لأن تأخيره يوهم العموم، وهو جهل، وهذا المعنى قائم في تأخير المخصص في الأزمان، فعدم الجواز هناك يقتضي عدم الجواز هاهنا.
فإن قيل: الفرق من وجهين:
الأول: أن الخطاب المطلق معلوم أن حكمه مرتفع؛ لعلمنا بانقطاع سبب التكليف، وليس كذلك المخصوص.
وثانيهما: أن احتمال النسخ في المستقبل لا يمنع المكلف في الحال من العمل؛ أما أن احتمال التخصيص في الحال يمنعه من العمل فلأنه لا يدري أنه، هل هو مندرج تحت الخطاب أم لا؟
والجواب عن الأول: أن الله - تعالى - لو قال لنا: (صلوا كل يوم جمعة) لاقتضى ظاهره الدوام، فإذا خرج منه ما بعد الموت للدلالة، بقى الباقي على ظاهره؛ فإن جاز أن يكون حكم الخطاب مرتفعًا مع الحياة والتمكن - ولا يدل ألبتة على ذلك، وإن ظاهر الخطاب يتناوله - جاز مثله في العموم.
وعن الثاني: أن الفرق الذي ذكرتموه إنما يظهر لو أخر الله تعالى البيان عن وقت الحاجة؛ أما إذا أخره عن وقت الخطاب، لا عن وقت الحاجة لم يجب على المكلف الاشتغال بالفعل فلا حاجة في ذلك الوقت إلى تمييز المكلف به عن غيره، كما لا حاجة هناك إلى تمييز وقت التكليف عن غيره.
الدليل الثاني: أجمعنا على أنه يجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال مع أن كل واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل؛ فلا يكون مرادًا بالخطاب، وفي ذلك تشكيك فيمن أريد بالخطاب، وهذا هو تخصيص، ولم يتقدم بيانه.
واحتج أبو الحسين رحمه الله على المنع من تأخير بيان ما له ظاهر، إذا استعمل في غيره بوجهين.
الأول: أن العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع، والمخاطب إما ألا يقصد إفهامنا في الحال، أو يقصد ذلك.
والأول باطل؛ لوجوه
أحدها: أنه إن لم يقصد إفهامنا، انتقض كونه مخاطبًا لنا؛ لأن المعقول من قولنا: إنه مخاطب لنا، أنه قد وجه الخطاب نحونا، ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا.
وثانيها: أنه لو لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابًا لنا في الحال، لكان قد أغرانا بأن نعتقد أنه قد قصد إفهامنا في الحال، فيكون قد قصد أن نجهل؛ لأن من خاطب قومًا بلغتهم فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنه قد عنى ما عنوه.
وثالثها: أنه لو يقصد إفهامنا لكان عبثًا؛ لأن الفائدة في الخطاب إفهام المخاطب.
ورابعها: أنه لو جاز ألا يقصد إفهامنا بالخطاب، جازت مخاطبة العربي بالزنجية، وهو لا يحسنها، إذا كان غير واجب إفهام المخاطبين، بل ذلك أولى بالجواز؛ لأن الزنجية ليس لها ظاهر عند العربي يدعوه إلى اعتقاده معناه، ولو جازت مخاطبة العربي بالزنجية، وبين له بعد مدة، جازت مخاطبة النائم، وبين له بعد مدة، وأن يقصد الإنسان بالتصويت والتصفيق شيئًا يبينه بعد مدة
فإن قلت: خطاب الزنج لا يفهم منه العربي شيئًا: فلم يجز أن يخاطبوا به، وليس كذلك خطاب العربي بالمجمل؛ لأن العربي يفهم منه شيئًا ما؛ لأن قول الله تعالى:{وأقيموا الصلاة} [البقرة: 43] قد فهم منه الأمر بشيء، وإن لم يعرف ما هو.
قلت: فإن جاز أن يكون اسم الصلاة واقعًا على الدعاء، ويريد الله به غيره، ولا يبين لنا، جاز أن يكون ظاهر قوله تعالى:{وأقيموا} [البقرة: 43] للأمر، ولا يستعمله في الأمر ولا يبين لنا ذلك، وفي ذلك مساواته لخطاب الزنج؛ لأنا لا نفهم منه شيئًا أصلاً.
وأما القسم الثاني: وهو أنه أراد إفهامنا في الحال، فلا يخلو: إما أن يريد أن يفهم أن مراده ظاهره، أو غير ظاهره:
فإن أراد الأول: فقد أراد منا الجهل.
وإن أراد الثاني: فقد أراد منا ما لا سبيل إليه.
ثم قال أبو الحسين: وهذه الدلالة تتناول العام المستعمل في الخصوص، والمطلق المفيد للتكرار المنسوخ، والأسماء المنقولة إلى الشريعة، والنكرة إذا أريد بها شيء معين؛ لأن الكل مستعمل في خلاف ظاهره.
الثاني: لو جاز أن يريد بالعموم الخصوص، ولا يبين لنا ذلك في الحال، ولا يشعرنا بأنه بخلافه، لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل الذي يقف وجوب البيان عليه؛ لأنه لو قيل لنا: صلوا غدًا، جوزنا أن يكون المراد بقوله: غدًا، بعد غد، وما بعده أبدًا؛ لأن كل ذلك يسمى غدًا مجازًا، ولا يبينه لنا، فلا يقف وجوب البيان على غاية، وفيه تعذر علمنا بالمراد بالخطاب.
فإن قلت: إذا بين في غد صفة العبادة، ثم قال:(افعلوها الآن) علمنا أنه يجب فعلها في ذلك الوقت.
قلت: لا يصح لكم ذلك؛ لأنه يجوز أن يكون عنى بقوله: الآن وقتًا متراخيًا على طريق المجاز، ولا يبينه لنا في الحال؛ كما جاز مثله في سائر الألفاظ.
والجواب عن الأول من حيث المعارضة، ومن حيث الجواب:
أما المعارضة فمن أربعة أوجه:
أحدها: أن العموم خطاب لنا في الحال، مع أنه لا يجوز اعتقاد استغراقه عند سماعه، بل لابد من أن نفتش الأدلة السمعية والعقلية، فننظر، هل فيها ما يخصه، أم لا؟ فإن لم يوجد فيها ما يخصه، قضىَ بعمومه، وفي زمان التوقف: الخطاب بالعموم قائم مقامه، مع أنه لا يجوز اعتقاده ظاهره، فانتقض قولكم.
أجاب أبو الحسين رحمه الله عنه: بأن من لم يجوز أن يسمع المكلف العام دون الخاص، لا يلزمه هذا السؤال، ومن جوز ذلك، فله أن يجيب عن السؤال بأن ما يعلمه المكلف من كثرة الأدلة والسنن، يجوز معه أن يكون فيها ما يدل على أن المراد بالخطاب غير ظاهره، فيصير ذلك كالإشعار بالتخصيص.
والجواب: أما أنه لا يجوز أن يسمع المكلف العام دون الخاص، فهذا المذهب باطل عندك، وتخريج النقض بالمذهب الباطل باطل.
وأما قوله: (علمه بكثرة السنن، كالإشعار بالتخصيص):
قلنا: فإذا جوزت أن يكون تجويزه لقيام المخصص في الحال مانعًا له من اعتقاد الاستغراق في الحال؛ فلم لا يجوز أن يكون تجويزه لحدوث المخصص في ثاني الحال مانعًا له من اعتقاد الاستغراق في الحال؟ فهذا أول المسألة.
وثانيها: أجمعنا على أن يجوز تأخير بيان المخصص بزمان قصير، وأن تعطف جملة من الكلام على جملة أخرى، ثم تبين الجملة الأولى عقيب الثانية، وأن يبين المخصص بالكلام الطويل، وهذه الصور الثلاثة نقض على ما ذكره.
فإن قلت: إنا لا نجوز تأخير البيان إلا مقدار ما لا ينقطع عن السامع توقع شرط يرد على الكلام، وإنما نجوز البيان بالطويل من القول، أو الفعل، إذا لم يتم البيان إلا بهما، وإذا لم يتم إلا كذلك، لم يكن فيه تأخير البيان.
قلت: إن ظاهر لفظ العموم يفيد الاستغراق، فحالما سمع ذلك اللفظ، يتوجه عليه التقسيم الذي ذكره أبو الحسين؛ من أنه إما أن يكون غرض المخاطب به الإفهام، أو لا يكون غرضه الإفهام، والثاني باطل، فتعين الأول.
فإما أن يكون غرضه إفهام ما أشعر به الظاهر، فيكون مريدًا للجهل، أو غيره، فيكون طالبًا ما لا سبيل إليه.
فإن قلت: (تجويز السامع أن يأتي المتكلم بعد ذلك الكلام بشرط، أو استثناء، يمنعه من حمل هذا اللفظ على ظاهره).
قلت: فلم لا يجوز أن يقال في مسألتنا: تجويز السامع أن يأتي المتكلم حال إلزام التكليف بدليل مخصص يمنعه من حمل اللفظ على ظاهره؟ وهذا أول المسألة.
وثالثها: أنا نجوز أن يأمر الله - تعالى - المكلفين بالأفعال، مع أن كل واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل، فلا يكون مرادًا بالخطاب، وفي ذلك شككنا فيمن أريد بالخطاب، وهذا تخصيص، لم يتقدم بيانه ألبتة.
ورابعها: أن غير أبي الحسين من المعتزلة اتفقوا على جواز تأخير بيان النسخ إجمالاً وتفصيلاً، وحينئذ ينتقض دليلهم به؛ لأن اللفظ إذا أفاد الدوام مع أن الدوام غير مراد فإن أراد ظاهره فقد أراد الجهل، وإن أراد غير ظاهره فقد أراد ما لا سبيل إليه.
وما يذكرونه من الفرق فقد ذكرناه، وأجبنا عنه.
وأما من حيث الجواب فمن وجهين:
الأول: أن نقول: ما المراد من قولك: المخاطب إما أن يكون غرضه إفهامنا، أو لا يكون غرضه ذلك؟.
إن عنيت بالإفهام إفادة القطع واليقين، فليس غرضه ذلك، بل غرضه منه الإفهام بمعنى إفادة الاعتقاد الراجح، والظن الغالب، مع تجويز نقيضه، فلم قلت: إنه على هذا التقدير يكون عابثًا، ويكون مغريًا بالجهل؟
وبهذا الجواب: يظهر الفرق بين ما إذا كان الغرض ذلك، وبين خطاب العربي بالزنجية؛ لأن هناك لا يمكن أن يكون الغرض إفادة الاعتقاد الراجح، فإنه لا يفهم منه شيئًا.
وإن عنيت به أن غرضه إفادة الاعتقاد الراجح، كيف كان، أعني القدر المشترك بين الاعتقاد الراجح المانع من النقيض، وبين الاعتقاد الراجح المجوز للنقيض، فهذا مسلم، ولكن هذا القدر لا يمنع من ورود المخصص؛ لأنه لو امتنع، لكان ذلك الاعتقاد مانعًا من النقيض مع أنا فرضناه غير مانع منه.
ثم الذي يدل على أن الغرض من الخطاب إفادة أصل الاعتقاد الراجح،
لا إفادة الاعتقاد الراجح المانع من النقيض: هو أن دلالة الأدلة اللفظية تتوقف على كون النحو، واللغة، والتصريف منقولاً بالتواتر، وعلى عدم الاشتراك، والمجاز، والتخصيص، والنسخ، والإضمار، والنقل، والتقديم، والتأخير، وعدم المعارض العقلي والنقلي، وكل هذه المقدمات ظني، وما يتوقف على الظني أولى أن يكون ظنيًا.
فثبت أن الدلائل اللفظية لا تفيد إلا الاعتقاد الراجح، وهذا القدر لا ينافيه احتمال ورود المخصص بعده.
ومما يحقق ذلك أن الغيم الرطب في الشتاء يفيد ظن نزول المطر، ثم قد لا يوجد في بعض الأوقات، ثم لا يكون هذا العدم قادحًا في ذلك الظن، وإلا لتوقف تحقق ذلك الظن على انتفاء هذا العدم.
فحينئذ يكون ذلك الظن قطعًا، لا ظنًا، هذا خلف، فكذا هاهنا اللفظ العام لا يفيد إلا ظن الاستغراق، وهذا القدر لا يمنع من حدوث المخصص، والله أعلم.
الوجه الثاني في الجواب: أن اللفظ العام إن وجد مع المخصص دل المجموع الحاصل منه، ومن ذلك المخصص على الخاص.
وإن وجد خاليًا عن المخصص، دل هو مع عدم المخصص على الاستغراق، وذلك متردد بين هاتين الحالتين على السواء، فهو بالنسبة إلى هاتين الحالتين؛ كاللفظ المشترك بالنسبة إلى مفهوماته، والمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته فكما أنه يجوز عند أبي الحسين ورود اللفظ المشترك والمتواطئ خاليًا عن البيان؛ لأنه يفيد أن المراد أحد تلك المسميات، فكذا هاهنا اللفظ العام قبل العلم بأنه وجد معه
المخصص، أو عدم، نعلم أن المراد إما العموم أو الخصوص، ونعلم أن هذا اللفظ إن وجد معه المخصص، أفاد الخاص، وإن وجد معه عدم المخصص أفاد العام، فلا فرق بينه وبين المشترك، فكما جاز تأخير البيان، هناك، جاز هاهنا.
فإن قلت: هذا عود إلى القول بأن هذه الصيغة مشتركة بين العموم والخصوص، ونحن الآن في التفريع على أنها للعموم فقط.
قلت: لا نسلم أن هذا عود إلى القول بالاشتراك، وذلك أنا نسلم أنها وحدها موضوعة للاستغراق.
وبهذا الكلام انفصلنا عن القائلين بالاشتراك، لكنا نقول: لا نزاع في حسن ورود المخصص، ولا نزاع في انه عند ورود المخصص لا يفيد إلا الخاص، فإذا شككنا في وجود المخصص وعدمه، لزمنا أن نشك في أنه هل يفيد الاستغراق أم لا؟؛ لأن الشك في الشرط شك في المشروط فأين هذا القول من مذهب القائلين بالاشتراك؟
والجواب عن الثاني: أن اللفظ، وإن كان محتملاً، إلا أنه قد يوجد من القرائن ما يفيد القطع بأن المراد من اللفظ ظاهره، وعلى هذا التقدير، يزول السؤال.
فإن لم يوجد شيء من هذه القرائن، وحضر الوقت الذي دل ظاهر الصيغة على أنه وقت العمل، وجب عليه العمل؛ لأن الظن قائم مقام العلم في اقتضاء وجوب العمل في الحال، ولكنه لا يقوم مقامه فيما لا يتعلق به العمل فظن كون اللفظ دالاً على وجوب العمل في الحال، يكفي في القطع بعدم المخصص، فظهر الفرق، والله أعلم.
القسم الثالث
في وقت البيان
قال القرافي: قلت: وهاهنا مباحث:
(البحث الأول)
أن صحيح مذهبنا جواز تكليف ما لا يطاق، فلا جرم يلزم أن الصحيح جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فضلاً عن وقت الخطاب.
(البحث الثاني)
أن الجهل جهلان: جهل بسيط، وجهل مركب، فالجهل البسيط: أن يجهل، ويعلم أنه يجهل؛ كمن سئل عن شعر رأسه، هل هو جاهل بعدده أم لا؟ يقول: أعلم، وأقطع أني جاهل به. فهذا جهل بسيط.
والجهل المركب: أن يجهل، ويجهل أنه يجهل؛ كاعتقادات الكفار وأرباب الأهواء ونحوها، فإنهم جهلوا الحق في نفس الأمر، وإذا قيل لهم: أنتم جاهلون أم لا؟ يقولون: نحن على علم ويقين في ذلك، فقد جهلوا الحق، وجهلوا جهلهم.
وكذلك من اعتقد أن زيدًا في الدار، وليس هو في الدار، وأنه صالح، وهو غير صالح، أو بالعكس.
وقد جمع المتنبي في ديوانه لشخص واحد ثلاث جهالات فقال [الطويل]:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله .... ويجهل علمي أنه بي جاهل
(البحث الثالث)
أن الجهل المركب أعظم مفسدة؛ لأنه يمنع النظر في الحق والسعي في تحصيله، ويكون الجاهل فيه مفرطًا بالدخول فيه؛ فإنه لو اشتد تحرزه، لم يكن كذلك، ولأنه ليس من لوازم الخلق، فإن من الجائز على المخلوق أن