الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كقوله عليه السلام: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) أي: بسبب قتلها، فيكون صاحب الشرع قد نص بهذا الحديث على أن المعاهدة موجبة للعصمة، فيصير معني الحديث: لا يقتل ذو العهد بسبب عهده، وسلمنا أنها للظرفية، لكن نفي للتوهم كما قال في الكتاب، فقد يخطر بالبال أن عقد المعاهدة يدو لجميع الذراري كالذمة، فأخبر عليه السلام أن ذلك لا يتعدي زمن المعاهدة.
(سؤال)
قال النقشواني هاهنا يرد [سؤال] على هذا المثال لا يختص بصاحب الكتاب، فإن المثال هو الموجود في جميع الكتب، وذلك أن عطف الخاص على العام له صورتان:
إحداهما: عام عطف على عام، ويعلم بالدليل أن الثاني دخله التخصيص، فهل يلحق ذلك بالأول المعطوف عليه كقولك: لا تضرب رجلًا ولا امرأة، ثم تبين لنا أن المراد بالمرأة غير القاذفة، وشارية الخمر.
والصورة الثانية: يعطف خاص بلفظه على عام بلفظه، فهل يقتضي ذلك تخصيص الأول كقولنا: لا تضرب رجلًا ولا امرأة كهلة، فالمرأة الكهلة أخص من المرأة، فهل يخصص الرجل بالكهل أيضًا؟
والمثال الذي هو من القسم الأول؛ لأن قولنا: ولا ذو عهد في عهده، تبينا بالدليل أن المراد بالكافر هو المقابل، فيبقي القسم الثاني لم يتعرضوا له.
***
المسألة العاشرة
قال الرازي: اختلفوا في أن العموم إذا تعقبه استثناء، أو تقييد بصفة أو حكم وكان ذلك لا يتأتي إلا في بعض ما يتناوله، هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم- ذلك البعض فقط، أم لا؟
مثال الاستثناء قوله تعالى: {لا جناح عليكم، إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن، أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة: 236] ثم قال عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون} [البقرة: 237] فاستثني العفو، وعلقه بكناية راجعة إلى النساء.
ومعلوم أن العفو لا يصح إلا من المالكات لأمورهن دون الصغيرة والمجنونة، فهل يجب أن يقال: الصغيرة والمجنونة غير مرادة بلفظ النساء في أول الكلام؟
مثال التقييد بالصفة: قوله تعالى: {يأيها النبي، إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] ثم قال: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} [الطلاق: 1] يعني الرغبة في مراجعتهن، ومعلوم أن ذلك لا يتأتي في البائنة.
ومثال التقييد بحكم آخر: قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} . ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228] وهذا أيضًا لا يتأتي في البائن.
إذا عرفت هذا، فنقول: ذهب القاضي عبد الجبار إلى أنه لا يجب تخصيص ذلك العموم بتلك الأشياء، ومنهم: من قطع بالتخصيص، ومنهم: من توقف؛ وهو المختار.
والدليل عليه: أن ظاهر العموم المتقدم يقتضي الاستغراق، وظاهر الكناية يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم؛ لأن الكناية يجب رجوعها إلى المذكور المتقدم، والمذكور المتقدم في الآية الأولى هو المطلقات لا بعضهن؛ ألا ترى أن الإنسان، إذا قال:(من دخل الدار من عبيدي، ضربته، إلا أن يتوبوا) انصرف ذلك إلى جميع العبيد، وجري مجري أن يقول:(إلا أن يتوب عبيدي الداخلون في الدار؟).
وإذا ثبت ذلك، فليست رعاية ظاهر العموم، أولى من رعاية ظاهر الكناية؛ فوجب التوقف، والله أعلم.
المسألة العاشرة
تعقب الاستثناء والصفة للعموم
قال القرافي: قوله: (في قوله تعالى: {إلا أن يعفون} .
تقريره: أن الواو الذي هو ضمير في (يعفون)، والأصل مطابقة الضمير لظاهره، فإذا كان الضمير خاصًا يكون العموم السابق الذي هو ظاهره خاصًا.
قوله: (مثال الصفة
…
) ثم فسرها بالرغبة.
تقريره: أن الرغبة مثل الإنسان، ومثله صفته بخلاف قوله تعالى:{وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة: 228]، فكونهم أحق حكم شرعي لا صفة للعبد، والحكم باستحقاق الرجعة، وتوقع الرغبة لا يتأتي إلا في الرجعيات، فهل يكون المراد بالأول الرجعيات؛ لأن الأصل مساواة الظاهر والمضمر، وذلك كله في تقدير الضمائر؛ لأن معني قوله تعالى:{لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} [الطلاق: 1] أي: الرغبة فيهن.
***
القسم الرابع
من كتاب العموم والخصوص
في حمل المطلق على المقيد، وفيه مسائل
قال الرازي: المطلق والمقيد إذا وردا، فإما أن يكون حكم أحدهما مخالفًا لحكم الآخر، أو لا يكون:
والأول: مثل أن يقول الشارع: (آتوا الزكاة، وأعتقوا رقبة مؤمنة) ولا نزاع في أنه لا يحمل المطلق على المقيد هاهنا؛ لأنه لا تعلق بينهما أصلًا.
وأما الثاني: فلا يخلو: إما أن يكون السبب واحدًا، أو لا يكون هناك سببان متماثلان، أو مختلفان: وكل واحد من هذه الثلاثة، فإما أن يكون الخطاب الوارد فيه أمرًا، أو نهيًا، فهذه أقسام ستة: فلنتكلم فيها:
أما إذا كان السبب واحدًا، وجب حمل المطلق على المقيد؛ لأن المطلق جزء من المقيد، والآتي بالكل آت بالجزء؛ لا محالة، فالآتي بالمقيد يكون عاملًا بالدليلين، والآتي بغير ذلك المقيد لا يكون عاملًا بالدليلين؛ بل يكون تاركًا لأحدهما.
والعمل بالدليلين عند إمكان العمل بهما أولى من الإتيان بأحدهما، وإهمال الآخر.
فإن قيل: لا نسلم أن المطلق جزء من المقيد، بيانه: أن الإطلاق والتقييد ضدان، والضدان لا يجتمعان.
سلمنا ذلك؛ لكن المطلق له عند عدم التقييد حكم، وهو تمكن المكلف من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة، والتقييد ينافي هذه المكنة؛ فليس تقييد المطلق أولى من حمل المقيد على الندب؛ وعليكم الترجيح.
والجواب: أما أن المطلق جزء من المقيد؛ فلأنا بينا أن المراد من المطلق نفس الحقيقة، والمقيد عبارة عن الحقيقة مع قيد زائد، ولا شك أن الإطلاق أحد أجزاء الحقيقة المقيدة.
قوله: (الإطلاق والتقييد ضدان):
قلنا: إن عنيت بالإطلاق كون اللفظ دالا على الحقيقة من حيث هي هي، مع حذف جميع القيود السلبية والإيجابية، فلا نسلم أن ذلك ينافي التقييد على ما بيناه.
وإن عنيت بالإطلاق كون اللفظة دالة على الحقيقة الخالية عن جميع القيود فنحن لا نريد بالإطلاق ذلك؛ بل الأول، وفرق بين الحقيقة بشرط لا، وبين الحقيقة بلا شرط؛ فإن عدم الشرط غير شرط العدم.
وأيضًا: فشرط الخلو عن جميع القيود غير معقول؛ لأن هذا الخلو قيد.
قوله: (المطلق: له بشرط عدم التقييد حكم، وهو التمكن من الإتيان بأي فرد شاء، من أفراد تلك الحقيقة).
قلنا: هذا الحكم غير مدلول عليه لفظًا، والتقييد مدلول عليه لفظًا، فهو أولى بالرعاية.
وأما في جانب النهي، فهو أن يقول:(لا تعتق رقبة)، ثم يقول: لا تعتق رقبة كافرة) والأمر فيه قريب مما مر.
القسم الرابع
(في حمل المطلق على المقيد)
قال القرافي: قوله: (إما أن يكون أحدهما مخالفًا للآخر، أو لا يكون):
قلنا: هذا التقسيم غير منضبط، بل المنضبط ما قاله ابن العربي في (المحصول) وهو أن الحكم والسبب إما أن يتفقا، أو يختلفا، أو يختلف أحدهما دون الآخر، فإن اختلفا معًا، فلا حمل لأحدهما على الآخر؛ كتقييد الرقبة بالإيمان، وإطلاق الشاة في الزكاة.
وإن اتفقنا معًا، فهذا هو سبيله؛ لقوله عليه السلام:(في كل أربعين شاة شاة)، فهذا مطلق. وقال عليه السلام:(في الغنم السائمة الزكاة) فهذا مقيد بالسوم، فإن قلنا بالمفهوم، حملنا المطلق على المقيد على الخلاف، والسبب واحد، وهو الملك للمال النامي، والحكم واحد، وهو وجوب الزكاة، واختلاف الحكم فقط لقوله تعالى في الوضوء:{وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]، فقيد غسل اليدين بالمرافق، وفي آية التيمم أطلق فقال تعالى:{فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6]، فهل يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء، فيجب التيمم إلى المرافق أم لا؟ خلاف، والسبب واحد وهو الحدث، والأحكام مختلفة وهي الوضوء والتيمم، واختلاف السبب فقط والحكم واحد، كالظهار والقتل سببان مختلفان والحكم واحد، وهو وجوب الإعتاق.
فهذا تقسيم منضبط بخلاف الذي في (المحصول)، فذكر أولًا الاختلاف في الحكم وحده، ولم يذكر معه الاختلاف في السبب، ومثله بما هو مختلف الحكم والسبب.
قال المازري في (شرح البرهان): إن اختلف السبب والحكم، لم يختلف فيه، وكذلك إن اتحدا واختلف السبب وحده، فهو في موضع الخلاف.
قال: واختلف العلماء في تمثيله، فالجمهور مثلوه بآيتي الظهار والقتل في الإعتاق، ومثله بعضهم بالوضوء والتيمم، وأنكره الأبهري، وقال: التقييد هاهنا بعضو، وهو الذراع، ومقصود المسألة التقييد بصفة.
وقال بعضهم: الكل سواء، ويمكن تمثيل الخلاف في السبب دون الحكم، ويكون القيد صفة بقوله تعالى:{لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] وقيد في الآية الأخرى في قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 217] مالك بقي المطلق على إطلاقه، والشافعي حمل المطلق على المقيد.
قال: ويمكن أن يقال: المطلق هاهنا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم والمقيد عام، فما استوي البابان.
قلت: وعليه سؤالان:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم منصبًا، فتعظم مؤاخذته كما قال الله تعالى:{إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 75]، وقال تعالى في أزواجه عليه السلام:{يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] وهو كثير.
وثانيهما: سلمنا أن المراد أمته، لكن المقيد فيه أمران مرتبان، وهما الحبوط والخلود على أمرين، وهما الردة والموافاة، فأمكن التوزيع، فلم يقيد ذلك المطلق.
هذا السؤال للشيخ: عز الدين بن عبد السلام.
قال المازري. ويمكن أن يعود على النبي- عليه السلام بقوله تعالى {ومن يفكر بالإيمان فقد حبط عمله} [المائدة: 5].
قوله: (الخطاب الوارد في المطلق والمقيد إما أمر، أو نهي):
قلنا: أو خبر، أو استفهام، أو ترج، أو تمن، أو إباحة، فإن جميع أقسام الكلام متصور فيها حمل المطلق على المقيد، فلا ينبغي أن يخصص بالأمر والنهي، فلو قال الله تعالى: أبحت لكم ميتتين، أبحت لكم ميتة السمك، والجراد، حملنا المطلق على المقيد.
أو قال القائل: ليت لي مالًا، ثم قال: ليت لي إبلًا، حملنا تمنيه أولًا على الإبل.
أو قال عليه السلام: (آخر رجل يخرج من النار رجل من قريش)، ثم قال:(آخر رجل يخرج من النار رجل يقال له: هناد)، وحملنا المطلق على المقيد، وقلنا: ذلك الرجل القرشي هو هناد.
قوله: (أما إذا كان السبب واحدًا، فيحمل المطلق على المقيد؛ لأن الآتي بالكل آت بالجزء):
قلنا: مقتضي تقسيمكم أن الحكم أيضًا واحد؛ لأنكم رددتم في السبب على تقدير اتحاد الحكم، وعلى هذا التقدير يكون المنطبق على هذا التقسيم التمثيل بالمفهوم، كما تقدم في الغنم السائمة، وعلى هذا التقدير؛ لا نسلم أن الآتي بالمقيدات بالمطلق يلزم ترك المعلوفة؛ بسبب الحمل على المقيد، وحينئذ يتعين أن يقول: إذا اتحد الحكم والسبب، فلا يخلو: إما أن يكون مدلول اللفظ كلية، أو كليا، أو كلا، فإن كان كلية، بطل ما ذكرتموه، وإن كان كليا، استقام؛ لأن القائل إذا قال: من ظاهر، فليعتق رقبة مؤمنة، اتحد الحكم والسبب، وكان الآتي بالقيد آتيًا بالمطلق، واستقام الكلام، وفي
القسم الآخر لا يستقيم، ولما اندرج القسمان في القسم الذي عنيتموه، ورد السؤال باعتبار الكلية، لا باعتبار الكل، وعلى هذا بقيت الكلية، لم يذكروا فيها دليلًا، إذا وقع التقييد والإطلاق فيها، ويكون المتجه ما قاله الخصم؛ لأن الآتي بالقيد غير آت بالمطلق فيتعين عدم الحمل، على هذا البحث يتجه لكلا الفريقين طريقة العرض، والتنافي الاستدلال؛ فيقول القائل بالحمل بعد تقرير الحمل في الكلي، وإذا ثبت ذلك في الكلي، وجب أن يثبت في الكلية؛ لأنه قائل بالفرق، ونقول: القائل بعدم الحمل الآتي بالمقيد غير آت بالمطلق في مسألة الكلية، وجب أن يثبت في الكلي؛ لأنه لا قائل بالفرق، فتأمل ذلك، فهو مجال في البحث للفريقين، وأما الكلي، فقد لا يحصل فيه المطلق في المقيد، كآيتي الوضوء والتيمم؛ فإن اليد اسم المجموع، فجعل المرفق غاية يخرج بقية المطلق.
قوله: (الإطلاق والتقييد ضدان):
قلنا: لا تنافي بين كون الإطلاق والتقييد ضدين، وبين كون المطلق جزء المقيد؛ لأن الصفتين قد تتضادان والموصوفان لا يتضادان؛ كماهية الإنسان يتصف بالحركة والسكون، والسواد والبياض المتضادة، وهي لا تضاد نفسها؛ ولذلك تتصف بالبياض وعدمه، وهما نقيضان، وهي لا تناقض نفسها، فما ذكرتموه في سند المنع لا يفيدكم صحة المنع علينا في أن الآتي بالمقيد غير آن بالمطلق.
قوله: (الإطلاق يقتضي المكنة من أي فرد):
قلنا: هذا الحكم عقلي متلقي من البراءة الأصلية؛ لأن الماهية الكلية، لما وجبت، وشهد العقل أن كل جزء من جزئياتها متضمن لها مع أن الأصل عدم وجوب جزئي معين، جزم العقل بالخروج عن العهدة بأي فرد كان، مع أن هذا البحث يختص بالأمر، أما النهي، فلا يتأتي ذلك فيه، فإنه إذا
قال: لا يقرب ماهية الغصب، ثم قال: لا يقرب ماهية الغصب من المسلمين، أو لا يقرب الغصب المتكرر، فإن هذه الصورة ينتقض بها أمران:
أحدهما: قولهم فيما تقدم: الآتي بالمطلق آت بالمقيد؛ فإن مقتضي هذا الإطلاق اجتناب الماهية الكلية، ويلزم من اجتناب الماهية الكلية اجتناب جميع جزئياتها وأنواعها.
قوله: (الغصب من المسلمين، أو الغصب المتكرر) يخرج بعض الأنواع، وهو الغصب من غير المسلمين، والغصب الذي لا يتكرر، فصار الآتي بالمقيد آتيًا ببعض المطلق؛ لأن الماهية الكلية في النفي كصيغة العموم، وذلك تقدم هنالك في صدر المسألة أن بحثه إنما يتم في الكلي لا في الكلية، وبهذا يمنعه أيضًا تمامه في الكلي، إذا كان في سياق النهي أو النفي، فإن بقي الكل، بقي بجميع أنواعه وأفراده؛ ولم يبق له في تلك الدعوي إلا الكلي في الأمر، وخبر الثبوت.
ولأن النهي عن الماهية الكلية يتناول جميع جزئياتها، فيكون عاما، كما إذا قال له:(لا تعتق عبدًا)، يكون عاما في المؤمنين والكفار، فإذا قال بعد ذلك: لا تعتق رقبة كافرة، كان المقيد بعض ما يتناوله العام الأول، الذي هو المطلق، والقاعدة أن العام لا يخصص بذكر بعضه، فيبقي المطلق على عمومه في النهي عن الفريقين المؤمن والكافر، فلا حمل، لأن المقيد هاهنا بعض المطلق.
وثانيهما: في الانتقاض لهذا البحث، فإنه إذا نهاه عن الماهية الكلية، لم يكن متمكنًا من تركها بأي نوع كان، أو بأي فرد كان، بل يتعين للجميع الاجتناب، فالمكنة ذاهبة، فكذلك في خبر النفي لا مكنة فيه، بل الجميع؛ فيتعين للنفي، وإنما يكون في النهي، أو النفي متمكنًا، إذا كان المنهي عنه كلا لا كلية، ولا كليًا، وقد تقدم الفرق بينهما في أول العموم؛ فإن النهي
عن الكل الذي هو المجموع يكفي فيه اجتنابه لجزء غير معين، كما إذا نهي عن خمس ركعات في الظهر، فإنه لا يتعين ركعة في الخمسة، كذلك لو قال الطبيب:(لا تأكل هذه الثلاثة أرغفة، بل اثنين منها) فإنه لا يتعين الرغيف المتروك، وكذلك النفي إذا أخبر عن نفي مجموع العشرة لا يتعين فرد منها؛ فتعين للنفي، بل أي فرد كان هذا موضع المكنة، أما في الأصول والفروع مع أن التصانيف يذكر فيها البحث عن المطلق والمقيد، ويعممون الدعوي في جميع الموارد مع اشتمالها على هذه التفاصيل، التي لو عرضت عليهم لم يسعهم إنكارها، وكان ينبغي أن توضع في الكتب مفصلة على هذه القوانين المذكورة، فكانت تخرج من الظلمات إلى النور.
قوله: (وفرق بين الحقيقة بشرط (لا)، وبين الحقيقة بلا شرط):
تقريره: أنها بشرط (لا) معناه: لا يكون معها قيد ألبتة، ولا بشخص، وعلى هذا التقدير يستحيل وجودها؛ فضلًا عن أن يكون جزءًا من المقيد.
وقولنا: بلا شرط، معناه: أن التشخيص والقيود غير معتبرة، بل إن وجدت؛ فذاك، وإن لم توجد، فذاك، فهذه هي التي تقبل الوجود، وتوجد في ضمن المقيد.
قوله: (في النهي: لا تعتق رقبة، لا تعتق رقبة كافرة، والأمر فيه قريب مما مر):
قلنا: لا نسلم أنه قريب؛ لما تقدم ما بينهما من الفرق العظيم، وأن المقيد لا يستلزم المطلق ألبتة، بل يخل به ضرورة، وكذلك في النفي، وقد تقدم بسطه.
***
المسألة الثانية
قال الرازي: اختلفوا في الحكمين المتماثلين، إذا أطلق أحدهما، وقيد الآخر، وسببهما مختلف، مثاله: تقييد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان، وإطلاقها في كفارة الظهار، وفيه ثلاثة مذاهب: اثنان طرفان، والثالث هو الوسط، أما الطرفان، فأحدهما: قول من يقول من أصحابنا: تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا.
وثانيهما: قول كافة الحنفية: إنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما ألبتة.
وثالثها: القول المعتدل، وهو مذهب المحققين منا: أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد، ولا ندعي وجوب هذا القياس، بل ندعي أنه إن حصل القياس الصحيح، ثبت التقييد، وإلا فلا.
واعلم: أن صحة هذا القول إنما تثبت، إذا أفسدنا القولين الأولين.
أما الأول فضعيف جدًا؛ لأن الشارع لو قال: (أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة، وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت) لم يكن أحد الكلامين مناقضًا للآخر، فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظًا.
احتجوا: بأن القرآن كالكلمة الواحدة، وبأن الشهادة، لما قيدت بالعدالة مرة واحدة، وأطلقت في سائر الصور، حملنا المطلق على المقيد، فكذا هاهنا.
والجواب عن الأول: أن القرآن كالكلمة الواحدة في أنه لا يتناقض، لا في كل شيء، وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد.
وعن الثاني: أنا إنما قيدنا بالإجماع.
وأما القول الثاني، فضعيف؛ لأن دليل القياس، وهو أن العمل به دفع للضرر المظنون عام في كل الصور.
شبهة المخالف: أن قوله: (أعتق رقبة) يقتضي تمكين المكلف من إعتاق أي رقبة شاء من رقاب الدنيا، فلو دل القياس على أنه لا يجزيه إلا المؤمنة، لكان القياس دليلًا على زوال تلك المكنة الثابتة بالنص؛ فيكون القياس ناسخًا، وإنه خلاف الأصل.
والجواب: هذا لا يتم على مذهبكم؛ لأنكم اعتبرتم سلامة الرقبة عن كثير من العيوب، فإن كان اشتراط الإيمان نسخًا، فكذا نفي تلك العيوب يكون نسخًا.
أيضًا: فقوله: (أعتق رقبة) لا يزيد في الدلالة على اللفظ العام، وإذا جاز تخصيص العام بالقياس، فلأن يجوز هذا التخصيص به أولى.
تنبيه: إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين متضادين، كيف يكون حكمه؟
مثاله: قضاء رمضان الوارد مطلقًا في قوله تعالى: {فعدة من أيام آخر} [البقرة: 184] وصوم التمتع الوارد مقيدًا بالتفريق في قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196] وصوم كفارة الظاهر الوارد مقيدًا بالتتابع في قوله عز وجل: {فصيام شهرين متتابعين} [المجادلة: 4].
اختلفوا فيه على حسب ما مر في المسألة السالفة، فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظًا، ترك المطلق هاهنا على إطلاقه؛ لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر، ومن حمل المطلق على المقيد لقياس، حمله هاهنا على ما كان القياس عليه، والله أعلم.
المسألة الثانية
في الحكمين المتماثلين سببهما مختلف
قال القرافي: قوله: (الشهادة أطلقت في مواطن، وقيدت في أخر بالعدالة، فحمل المطلق على المقيد، فكذلك هاهنا):
قلنا: سبب الاحتياج للبينات هو ضبط الحقوق، وهو واحد في جميع الصور، وسبب قبول قولها وتصديقها هو ظاهر حالها، وهو أن الغالب على العاقل البالغ المسلم الصدق، وهذا واحد في جميع الصور، وإذا اتحد سبب الحاجة وسبب القبول، ظهر الفرق؛ لأن الأسباب المختلفة مختلفة الحكم ظاهرًا؛ لأن مفسدة القتل أعظم من مفسدة الظهار؛ وحينئذ يتجه أن يقال: عظم المفسدة يقتضي زيادة الشروط في الكفارة؛ فإن الساتر يعظم المستور، والأصل في الكفارة الستر، فاختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأحكام، فلا يحمل المطلق على المقيد، أما مع اتحاد السبب، كما في الشهادة، فيتعين؛ لأجل عدم الاختلاف في المصلحة، فظهر الفرق.
قوله: (اعترفتم بسلامة الرقبة عن الكثير من العيوب):
قلنا: الفرق بين السلامة من العيوب، وبين اشتراط الإيمان، وجميع القيود: أن الوضع تابع للتصور، والواضع إذا تصور مفهوم (الإنسان) ليضع له، فإنما يسبق إلى ذهنه الإنسان الذي هو حيوان ناطق إلفي الشكل، له حواس خمس، وجوارح مخصوصة، ويدل على ذلك أيضًا: أنا متى
سمعنا لفظ (الإنسان) فإنما يسبق إلى ذهننا الإنسان الموصوف بهذه الصفة، والذهن إنما ينتقل في أول الأمر إلى الموضوع له، وكذلك أن الأصل في الاستعمال الحقيقة، فعلمنا أن الوضع إنما كان السليم، فيتناول السلامة من العيوب- اللفظ وضعًا، أما وصف الإيمان وغيره من القيود، فلم يتناول لفظ الإطلاق، ولو تناوله، لم يكن تقييدًا، وإذا لم يتناوله اللفظ إجماعًا، ظهر الفرق.
قوله: (فإذا كان اشتراط الإيمان نسخًا، فكذلك نفي تلك العيوب).
تقريره: أن الحنفية لهم قاعدة، وهي: أن الزيادة على النفي نسخ، وكذلك جعلوا اشتراط (الفاتحة) في الصلاة نسخًا، لقوله تعالى:{فاقرءوا ما تيسر منه} [المزمل: 20] لأنه زيادة عليه.
ونسخ الكتاب بأخبار الآحاد ممنوع، فلا يشترط (الفاتحة) كذلك هاهنا، وإذا حملنا المطلق على المقيد، صار ذلك نسخًا للإطلاق؛ لأنه زيادة عليه فلذلك ذكر المصنف النسخ هاهنا.
قال المازري في (شرح البرهان): ورد على أبي حنيفة نقوض:
أحدها: اشتراط السلامة من العيوب.
وثانيها: اشتراط الفقر في ذوي القربى.
وثالثها: أنه يجزئ عنده عتق الأقطع دون الأبرص.
ورابعها: لو حلف؛ لا يشتري رقبة، فاشتري رقبة معيبة، حنث، فلم يعتبر السلامة في الحنث، فخالف قاعدة النسخ، فإن الزيادة عنده نسخ، وهاهنا نسخ القرآن بغير دليل قاطع.
قوله: (إذا أطلق الحكم في موضع، وقيد مثله بقيدين مختلفين، مثاله: قضاء رمضان أطلق، وقيد صوم التمتع بالتفريق، وصوم الظهار بالمتابعة اختلفوا فيه).
قلنا: هذه أحكام عن أسباب مختلفة، بل أمس منه؛ في عدم اعتبار
القيدين، والرجوع إلى الإطلاق ما اتفق لي مع سيدنا قاضي القضاة صدر الدين الحنفي؛ حكي لي يومًا أنه: اجتمع ب (دمشق) مع السيد الشريف قاضي العسكر شمس الدين نقيب الأشراف في الدولة الكاملية؛
قال: فقلت له: إن الشافعية نقضوا أصلهم: فإنهم قالوا بحمل المطلق على المقيد، وقد ورد قوله- عليه السلام في الغسل من ولوغ الكلي في الإناء:(فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب) وورد مقيدًا بقوله عليه السلام:
(أولاهن بالتراب) ومع ذلك، لم يحملوا المطلق على المقيد، بل بقوا المطلق على إطلاقه.
قال: فلم يجدوا جوابًا ولم يجيبوا عنه.
فقلت له- حفظه الله-: إن لنا قاعدة، وهي أن المطلق، إذا قيد بقيدين متضادين بقي على إطلاقه باتفاق المذهبين، وهاهنا كذلك؛ لأنه ورد في الحديث أيضًا:(أخراهن بالتراب) فسقط أولاهن وأخراهن؛ لأنه ليس اعتبار أحدهما أولى من الآخر، وبقي المطلق علي إطلاقه.
وهذا أحسن ما مثل به المسألة؛ فإن السبب واحد، والحكم واحد، والقيود متضادة فيه.
(تنبيهات أربعة)
الأول: أنه بحث في هذا القسم المختلف الأسباب عن الأمر، وترك النهي ما يعرض له، وكذلك الخبر وبقية أقسام الكلام؛ فإنها يلاحظ فيها هذا من جهة الوضع على الخلاف، فينبغي أن تراجع تلك الضوابط المتقدمة في المسألة الأولى، وتخرج هذه المسألة أيضًا عليها.
التنبيه الثاني: أنه كيف يتجه أن يقول بالقياس مذهبًا ثالثًا، مع أن مدرك القوم أن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الحكم والمصالح، ومع الاختلاف كيف يتأتي القياس؛ حتى يصار إليه مذهبًا ثالثًا؟
جوابه: أن الأسباب قد تختلف، وتختلف مصالحها، كما تقدم في القتل والظهار، وقد تتفق مصالحها، كالأسباب النواقض للطهارة الكبرى والصغرى؛ فإن حكمتها واحدة، وإلا لما كان حكمها واحدًا، وكشرب الخمر والقذف حدهما واحد، ومقتضي ذلك أن تكون حكمتهما واحدة؛ وإلا لاختلف الحد، إذا تقرر ذلك، فجاز أن يقع التقييد والإطلاق فيما حكمتهما واحدة، وهما مختلفان في الصورة.
(التنبيه الثالث) أن الإطلاق والتقييد أمران إضافيان، قرب مقيد بالنسبة إلى لفظ، مطلق بالنسبة إلى لفظ آخر، ورب مطلق بالنسبة إلى لفظ، مقيد بالنسبة إلى لفظ آخر، فلفظ (الإنسان) مطلق؛ بالنسبة إلى الإنسان المؤمن، ومعناه حيوان ناطق، وهو مقيد؛ بالنسبة إلى الحيوان، والحيوان مطلق؛ بالنسبة إلى الإنسان، ومعناه مقيد؛ لأنه جسم حساس، فهو مقيد، بالنسبة إلى الجسم، وكذلك كلما انتقلت من أخص إلى أعم، يصير المطلق مقيدًا، وعكسه، كلما انتقلت من الأعم إلى أخص، يصير المقيد مطلقًا.
فتأمل ذلك، فيتلخص لك أن المطلق الاقتصار على مجرد اللفظ المذكور، والمقيد هو أن يزيد عليه قيدًا زائدًا، ولا يعتقد أن القيد يجب أن يكون مقيدًا بكل اعتبار، بل قد يعتبر بالنسبة إلى معنى آخر، فيكون مطلقًا، والضابط ما سمعته.
(التنبيه الرابع) أن التقييد والإطلاق أسماء للألفاظ؛ باعتبار معانيها، لا أسماء للمعاني؛ باعتبار ألفاظها، وكذلك نقول: لفظ مطلق، ولا نقول: معنى مطلق في هذا المقام، فاللفظ المطلق كلفظ النكرة، والمقيد كالمعرفة والموصوفة، ونحو ذلك، كل ذلك من أسماء الألفاظ.