الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقريره: أن مراتب الظنون الحاصلة من القياس متفاوتة، فالمنصوص العلة أقوى مما استنبطت علته من أوصاف مذكورة، وما استنبطت علته من أوصاف مذكورة أقوى مما استنبطت علته من أوصاف مذكورة أقوى مما استنبطت من أوصاف غير مذكورة، وما نص على علته بالصريح أولى مما نص على علته بالإيماء، وما كانت علته يشهد نوعها كنوع الحكم أقوى مما يشهد حسنها؛ لحسن الحكم، وما بنيت عيه بالمناسبة أقوى مما بنيت عليه بالدوران، ونحو ذلك مما هو مذكور في باب التعارض والترجيح، والعموم الذي قلت أفراده أقوى في إفادة الظن مما كثرت أفراده؛ لأن تطرق احتمال التخصيص إليه- أقل؛ فإن كثرة الأنواع توجب كثرة التخصيص، والعموم الذي لا يكاد يوجد إلا مخصوصًا أضعف مما يوجد قط مخصوصًا، والعموم الذي يستعمل لفظه مجازًا في كثير من الصور- أضعف مما لم يتجوز بلفظه، وهذا عين التخصيص؛ فإن اللفظ قبل دخول آلة العموم عليه قد يستعمل مجازًا، وقد يستعمل حقيقة، وحينئذ لا تخصيص، إنما التخصيص بعد القضاء بالعموم؛ إذا تقرر تفاوت مراتب الظنون في القياس والعموم، وقد تستوي المرتبتان، وقد ترجح إحداهما، فيتصور ما قاله الغزالي في إتباع الراجح منهما (إن وجد، وإلا توقفنا) فإن المقصود إنما هو القضاء بالراجح.
(سؤال)
يلزم الغزالي- على هذا التدقيق الحسن- أن يقول بذلك في خبر الواحد مع العموم؛ فإن هذه الترجيحات متجهة هنالك، كما هي متجهة هاهنا؛ من جهة غلبة المجاز على أحدهما، وقلته في الآخر، وكثرة الأفراد، وقلتها، وكثرة اعتوار المجاز عليه في موارد الاستعمال، وقلتها، ونحو ذلك، وهذا السؤال قد يتخيل أنه لازم للواقفية أيضًا، فيقال: لم توقفوا هاهنا، ولم يتوقفوا في خبر الواحد، مع العموم؛ لاختلاف الأحوال بينهما؛ كما تقدم؟ غير أنه غير وارد عليهم؛ لأنهم لم يسلكوا مسلك الغزالي في اعتبار
مراتب الظنون، بل خصصوا العموم بخر الواحد بعمل الصحابة وقوة شهرة ذلك بينهم، ولم يجدوا مثل ذلك الاشتهار في القياس، فتوقفوا؛ لتقارب المدارك، والغزالي إنما لزمه ذلك من جهة ما ذكره من التعليل، وأشار إليه من المدرك الذي لم يعرجوا هم عليه، بل توقفوا في ذلك.
قوله: (المطلوب بالقياس إسقاط الاحتجاج بالعام):
قلنا: ليس هذا الإطلاق على ظاهره، بل إنما سقط الاحتجاج به في الصورة التي يخرجها القياس.
قوله: (والوقف يشارك في ذلك):
يريد أنه لا يثبت الاحتجاج بالعام في تلك الصورة.
قوله: (نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر):
يريد بقياس الخبر المتواتر القياس الذي الحكم ثابت في أصله بخبر متواتر، وبقياس الكتاب الذي الحكم ثابت في أصله بالكتاب، وكذلك بقية ما ذكره من النظائر.
قوله: (الحكم الثابت بالعموم معلوم).
قلنا: لا نسلم، بل مظنون؛ لأن دلالة العموم ظنية، وإن كان سنده قطعيا.
قوله: (حديث معاذ دل على أنه: لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقد الحكم في الكتاب):
قلنا: ولا نسلم أن عموم الكتاب، إذا عارضه القياس المخصص لبعض صوره، يكون الحكم ثابتًا في تلك الصورة التي يتناولها القياس بالكتاب، والحكم مفقود عندنا، حينئذ من الكتاب.
قوله: (أجمعت الأمة على أن النص لا يرده القياس):
قلنا: الذي وقع عليه الإجماع: هو أن القياس لا ينسخ المتواتر، أما رده لأخبار الآحاد بجملة ذلك الخبر، ففيه خلاف عند الحنفية والمالكية، وغيرهم من الفقهاء، إذا تعارض قياس وخبر واحد، وإن كان نصا ظاهرًا؛ هل يعرض عن الخبر بالكلية، أو عن القياس بالكلية؟ خلاف، وإذا أبطل الخبر الصحيح الصريح بجميع أفراده، فأول تخصيص العموم الذي فيه ليس إلا إخراج بعض الأفراد عن اللفظ، فهو أسهل من الإبطال بالكلية، وليس في هذين الموطنين إجماع، فكيف يدعي الإجماع مطلقًا؟
قوله: (القياس المخصص للنص فرع لنص آخر، فلا دور):
تقريره: أن النص المخصوص غير النص الذي هو أصل القياس، كما نقول: حديث عبادة في الأشياء الستة هو أصل قياس الأرز على البر في تحريم الربا، فهذا القياس يخصص بقوله تعالى:{وأحل الله البيع} [البقرة: 275] والنص الذي هو أصل غير النص الذي هو أصل القياس، فلا يلزم الدور، ولا تقديم فرع على أصل، بل قدمناه على أنه البيع في حكم الأرز، وليس أصلًا للقياس.
قوله: (مقدمات القياس أكثر من مقدمات العام):
تقريره: أن النصوص تتوقف على عصمة قائلها، وصحة سندها، وعدم إجمالها في دلالتها، ونحو ذلك من مقدمات النصوص المعتبرة فيها، وهي كلها مشتركة بين النص، الذي هو أصل القياس، وبين النص، الذي يخصصه القياس، والقياس في نفسه يحتاج لكون حكمه مما يقبل التعليل، وأن أصله معلل بكذا، ووجود تلك العلة في الفرع، وانتفاء الفوارق، فهذه مقدمات
تختص بالقياس، مضافة إلى مقدمات النص الذي هو أصله؛ فحينئذ القياس، باعتبار مقدماته، ومقدمات أصله أكثر مقدمات من النص الذي يخصصه، فيكون أضعف عنه، فيقدم العموم عليه.
قوله: (قد تكون دلالة بعض العمومات على مدلوله أقوى وأقل مقدمات من دلالة عموم آخر على مدلوله):
تقريره: ما تقدم في بيان تفاوت الظنون الناشئة من الظنون، في تقرير كلام الغزالي؛ وحينئذ جاز أن يكون النص القليل المقدمات هو أصل القياس، والكثير المقدمات هو النص المخصوص، فيكون مجموع مقدمات القياس مع أصله أقل من مقدمات النص المخصوص، فيكون القياس أرجح، فيقدم على العموم.
قوله: (وبهذا يظهر أن الحق قول الغزالي):
تقريره: أن القائلين بأن القياس يخصص العموم، قالوا به مطلقًا في كل قياس مع كل عموم يعارضه القياس، ولم يفصلوا هذا التفصيل، والجواب بهذا التفصيل لا يعم جميع العمومات؛ فإن من العمومات ما مقدماته أكثر، فجاز أن يكون هو أصل القياس؛ فلا يقدم ذلك القياس على العموم الذي مقدماته أقل، فلا يصح العموم في هذه الدعوي، فيتجه قول الغزالي بالتفصيل، فإنه لا يرد عليه هذا السؤال؛ لأن الظن، متى كان أقوى، كانت المقدمات مساعدة على ذلك، وإلا لما كان الظن أقوى.
قوله: (وعن الخامس: ما تقدم في المسألة الأولى).
قلنا: قد تقدم في المسألة الأولى: أن النسخ رفع لحكم علم ثبوته في ذلك المحل، فيتوقف عن رفعه حتى يتيقن؛ بخلاف التخصيص؛ لم يثبت في تلك الأفراد المخرجة بالتخصيص حكم، فسهل الإقدام عليه، وقد تقدم بسطه في تلك المسألة أكثر من هذا.
المسألة الثالثة
قال الرازي: إذا قلنا: المفهوم حجة فلا شك أن دلالته أضعف من دلالة المنطوق، فهل يجوز تخصيص العام به؟
مثاله: إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم، ثم قال الشارع:(في سائمة الغنم زكاة) فهذا مفهومه يقتضي تخصيص ذلك العام.
ولقائل أن يقول: إنما رجحنا الخاص على العام؛ لأن دلالة الخاص على ما تحته أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص؛ والأقوى راجح.
وأما هاهنا فلا نسلم أن دلالة المفهوم على مدلوله أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص؛ بل الظاهر أنه أضعف، وإذا كان كذلك كان تخصيص العام بالمفهوم ترجيحًا للأضعف على الأقوى؛ وإنه لا يجوز، والله أعلم.
المسألة الثالثة
لا يخصص المفهوم العموم
قال القرافي: قوله: قوله: (مثاله: إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم، ثم قال الشارع: (في سائمة الغنم الزكاة).
قلنا: لا معني لقولكم: إذا ورد، وقد ورد وهو مشهور، وهو قوله عليه السلام:(في كل أربعين شاة شاة).
قال سيف الدين: لا أعرف خلافًا بين القائلين بالعموم والمفهوم: أنه
يجوز تخصيص العموم بالمفهوم، كان مفهوم موافقة، أو مخالفة، حتى إنه إذا قال:(من دخل داري، فأضربه) ثم قال: (إذا دخل زيد داري، فلا تقل له، أف) فإن ذلك يدل على تحريم ضرب زيد، وإخراجه من العموم مفهوم الموافقة.
قال الغزالي في (المستصفى): (مفهوم الموافقة؛ كتحريم الضرب من تحريم التأفيف- قاطع، كالنص يخصص به، ومفهوم المخالفة عند القائلين به كالنص يخصص به؛ حتى إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم، ثم قال: (في سائمة الغنم الزكاة) خصص العام بالمعلوفة، وبقيت السائمة وخدها؛ لأجل المفهوم.
***
القول في بناء العام على الخاص
إذا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبران: خاص، وعام، وهما كالمتنافيين فإما أن نعلم تاريخهما، أو لا نعلم:
فإن علمنا التاريخ: فإما أن نعلم مقارنتهما، أو نعلم تراخي أحدهما عن الآخر:
فإن علمنا مقارنتهما؛ نحو أن يقول: (في الخيل زكاة) ويقول عقيبه: (ليس في الذكور من الخيل زكاة) فالواجب أن يكون الخاص مخصصًا للعام، ومنهم من قال: بل ذلك القدر من العام يصير معارضًا للخاص.
لنا وجوه:
الأول: أن الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام، والأقوى راجح؛ فالخاص راجح.
بيان الأول: أن العام يجوز إطلاقه من غير إرادة ذلك الخاص، أما ذلك الخاص فلا يجوز إطلاقه من غير إرادة ذلك الخاص؛ فثبت أنه أقوى.
الثاني: أن السيد إذا قال لعبده: اشتر كل ما في السوق من اللحم ثم قال عقيبه: (لا تشتر لحم البقر) فهم منه إخراج لحم البقر من كلامه الأول.
الثالث: أن إجراء العام على عمومه إلغاء للخاص، واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما؛ فكان ذلك أولى.
فإن قلت: هلا حملتم قوله: (في خيل زكاة) على التطوع، وقوله: (لا
زكاة في الذكور من الخيل) على نفي الوجوب، وهذا وإن كان مجازًا، لكن التخصيص أيضًا مجاز، فلم كان مجازكم أولى من مجازنا؟!
قلت: إنا نفرض الكلام فيما إذا قال: (أوجبت الزكاة في الخيل) ثم قال: (لا أوجبها في الذكور من الخيل).
ولأن قوله: (في الخيل زكاة) يقتضي وجوبها في الإناث والذكور، فلو حملناه على التطوع، لكنا قد عدلنا باللفظ على ظاهره في الإناث، لدليل لا يتناول الإناث، وليس كذلك، إذا أخرجنا الذكور في قوله:(في الخيل زكاة) لأنا نكون قد أخرجنا من العام شيئًا، لدليل يتناوله، واقتضي إخراجه.
أما إذا علمنا تأخير الخاص عن العام، فإن ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام كان ذلك بيانًا للتخصيص.
ويجوز ذلك عند من يجوز تأخير بيان العام، ولا يجوز عند المانعين منه.
وإن ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، كان ذلك نسخًا وبيانًا لمراد المتكلم فيما بعد، دون ما قبل؛ لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة، أما إن كان العام متأخرًا عن الخاص، فعند الشافعي وأبي الحسين البصري: أن العام يبتني على الخاص؛ وهو المختار.
وعند أبي حنيفة، والقاضي عبد الجبار بن أحمد: أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم.
وتوقف ابن [القاص] فيه.
لنا وجوه:
الأول: الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام، والأقوى راجح؛ فالخاص راجح.
الثاني: أن إجراء العام على عمومه يوجب إلغاء الخاص، واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما؛ فكان أولى.
واحتج أبو حنيفة وأصحابه- رحمهم الله بأمور:
أحدها: ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (كنا نأخذ بالأحدث، فالأحدث) فإذا كان العام متأخرًا، كان أحدث؛ فوجب الأخذ به.
وثانيها: لفظان تعارضا، وعلم التاريخ بينهما فوجب تسليط الأخير على السابق، كما لو كان الأخير خاصًا، واحترزنا بقولنا:(لفظان) عن العام الذي يخصه العقل، فإنا هناك سلطنا المتقدم.
وثالثها: أن اللفظ العام في تناوله لآحاد ما دخل تحته- يجري مجري ألفاظ خاصة، كل واحد منها يتناول واحدًا فقط من تلك الآحاد؛ لأن قوله تعالى:{فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] قائم مقام قوله: (اقتلوا زيدًا المشرك، اقتلوا عمرًا، اقتلوا خالدًا) ولو قال ذلك بعدما قال: (لا تقتلوا زيدًا) لكان الثاني ناسخًا.
واحتج ابن القاص على التوقف: بأن هذين الخطابين، كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه آخر؛ لأنه إذا قال:(لا تقتلوا اليهود) ثم قال بعده: (اقتلوا المشركين) فقوله: لا تقتلوا اليهود أخص من قوله: (اقتلوا المشركين) من حيث إن اليهودي أخص من المشرك، وأعم منه؛ من
حيث إنه دخل في المتقدم من الأوقات ما لم يدخل في المتأخر، وهو ما بين زمان ورود المتقدم والمتأخر.
فظهر أن الخاص المتقدم أعم في الأزمان، وأخص في الأعيان، والعام المتأخر بالعكس؛ فكل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه آخر وإذا ثبت ذلك وجب التوقف والرجوع إلى الترجيح، كما في كل خطابين هذا شأنهما.
والجواب عن الأول: أن هذا قول الصحابي؛ فيكون ضعيف الدلالة؛ فنخصه بما إذا كان الأحدث هو الخاص.
وعن الثاني: أن الفرق ما ذكرنا من أن الخاص أقوى من العام؛ فوجب تقديمه عليه، ولأنا لو لم نسلط الخاص المتأخر على العام المتقدم، لزم إلغاء الخاص، أو لو لم نسلط العام المتأخر على الخاص المتقدم، فلا يلزم ذلك؛ فظهر الفرق.
وعن الثالث: أنه إذا كان اللفظ عاما احتمل التخصيص وليس كذلك، إذا كان خاصًا، ولهذا لو كان قوله:(لا تقتلوا اليهود) مقارنًا لقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] لخصه، ولو قارن المفصل، لناقضه، ولم يخصه؛ لأن الخاص لا يحتمل التخصيص.
وأما الذي تمسك به ابن القاص فهو ضعيف؛ لأنه فرض الخاص المتقدم نهيًا؛ فلا جرم عم الأزمان، وفرض العام المتأخر أمرًا؛ فلا جرم لم يعم الأزمان، فصح له ما ادعاه من كون الخاص أعم من العام؛ من هذا الوجه.
أما لو فرضنا الخاص المتقدم أمرًا، والعام المتأخر نهيًا؛ فإنه لا يستقيم كلامه؛
لأن الخاص المتقدم لا شك أنه خاص في الأعيان، وهو أيضًا خاص في الأزمان، لأن الأمر لا يفيد التكرار.
أما العام المتأخر فإذا فرضناه نهيًا، كان أعم من المتقدم في الأعيان بالاتفاق، وفي الأزمان أيضًا؛ لأن الأمر لا يتناول كل الأزمان؛ بل يتناول زمانًا واحدًا، فهاهنا المتأخر أعم من المتقدم من كل الوجوه؛ فبطل ما قالوه، والله أعلم.
أما إذا لم يعرف التاريخ بينهما فعند الشافعي- رضي الله عنه: أن الخاص منهما يخص العام.
وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه يتوقف فيهما، ويرجع إلى غيرهما، أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر؛ وهذا سديد على أصله؛ لأن الخاص دائر بين أن يكون منسوخًا، وبين أن يكون مخصصًا، وناسخًا مقبولًا، وناسخًا مردودًا؛ وعند حصول التردد يجب التوقف.
واعتمد أصحابنا فيه على وجهين:
أحدهما: أنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه، أو يتقدمه، أو يتأخر عنه، وقد ثبت تخصيص العام بالخاص عندنا على التقديرات الثلاثة، فعند الجهل بالتاريخ، يكون الحكم أيضًا كذلك، وهذا ضعيف؛ لأن الخاص المتأخر عن العام، إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، كان تخصيصًا، وإن ورد بعده، كان نسخًا.
وعلى هذا نقول: إن كان العام والخاص مقطوعين، أو مظنونين، أو العام مظنونًا، والخاص مقطوعًا- وجب ترجح الخاص على العام؛ لأن الخاص دائر بين أن يكون ناسخًا، أو مخصصًا.
وعلى التقديرين؛ فالخاص مقدم في هذه الصورة.
أما إذا كان العام مقطوعًا به، والخاص مظنونًا، فبتقدير أن يكون الخاص مخصصًا؛ وجب العمل به؛ لأن التخصيص الكتاب بخبر الواحد جائز.
لكن بتقدير أن يكون ناسخًا؛ لم يجب العمل به؛ لأن نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز.
فالحاصل: أن الخاص دائر بين أن يكون مخصصًا، وبين أن يكون ناسخًا مقبولًا، وبين أن يكون ناسخًا مردودًا، وإذا كان كذلك، لم يجب تقديم الخاص على العام مطلقًا.
الثاني: أن العموم يخص بالقياس مطلقًا، فلأن يخص بخبر الواحد أولى. وهو ضعيف؛ لأن القياس يقتضي أصلًا يقاس عليه فذلك الأصل، إن كان متقدمًا على العام، لم يجز القياس عليه عندنا، وكذا القول، إذا لم يعرف تقدمه وتأخره، لا يجوز القياس عليه.
والمعتمد: أن فقهاء الأمصار: في هذه الأعصار: يخصصون أعم الخبرين بأخصهما، مع فقد علمهم بالتاريخ.
فإن قلت: إن ابن عمر- رضي الله عنهما لم يخص قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23]، بقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تحرم الرضعة، ولا الرضعتان).
وعنه أيضًا أنه لما سئل عن نكاح النصرانية حرمه؛ محتجًا بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221] وجعل هذا العام رافعًا لقوله
تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] مع خصوصه.
قلت: ادعينا إجماع أهل هذه الأعصار، ويحتمل أن يكون ابن عمر امتنع من ذلك؛ لدليل.
تنبيه: إن الحنفية، لما اعتقدوا أن الواجب في مثل هذا العام والخاص؛ إما التوقف، وإما الترجيح، ذكر عيسى بن أبان ثلاثة أوجه في الترجيح:
أحدها: اتفاق الأمة على العمل بأحدها.
وثانيها: عمل أكثر الأمة بأحد الخبرين، وعيبهم على من لم يعمل به؛ كعملهم بخبر أبي سعيد، وعيبهم على ابن عباس؛ حين نفى الربا في النقدين.
وثالثها: أن تكون الرواية لأحدهما أشهر.
وزاد أبو عبد الله البصري وجهين آخرين:
أحدهما: أن يتضمن أحد الخبرين حكمًا شرعيًا.
وثانيهما: أن يكون أحد الخبرين بيانًا للآخر بالاتفاق؛ كاتفاقهم على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ثمن المجن) بيان لآية السرقة.
قال أبو الحسين البصري رحمه الله: (هذه الأمور أمارة، لتأخر أحد الخبرين؛ لأن الخبر لو كان متقدمًا منسوخًا لما اتفقت الأمة على استعماله، ولا عابوا من ترك استعماله، ولما كان نقله أشهر، ولما أجمعوا على كونه بيانًا لناسخه، وكون الحكم غير شرعي يقتضي كون الخبر الذي تضمنه مصاحبًا للعقل، وأن الخبر المتضمن للحكم الشرعي متأخر.
وهذا الوجه ضعيف، والله أعلم.
القول في بناء العام على الخاص
قال القرافي: قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): عندنا يقدم الخاص، ويتوقف فيهما عند القاضي أبي بكر.
وعند الحنيفة: إن تأخر الخاص، خصص، وإن تقدم، نسخه العام.
وقال بعض أصحابنا: إن ورد الخاص بعد العام كان ناسخًا لما تناوله من العام؛ بناء على أن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الخطاب؛ قاله بعض أصحابنا، كما قاله المعتزلة.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان الخاص والعام متفقًا على العمل بهما، قضي الخاص على العام، لقوله عليه السلام:(في الرقة ربع العشر) مع قوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة).
وقال أهل الظاهر: إن كانا في القرآن قضي بالخاص على العام، أو في السنة، سقطا، فهذه ستة مذاهب.
قوله: (إذا روى خاص وعام، فهما كالمتباينين):
تقريره: هذا التشبيه: أن ظاهر اللفظ يقتضي التنافي، وإذا جمع بينهما، ذهب التنافي، فلذلك قال: كالمتباينين، ولم يقل: متباينان؛ فإن التنافي ليس محققًا؛ لأجل إمكان الجمع.
قوله: (اعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما):
يريد بكليته: وإلا فهو يلزم منه إلغاء ظاهر العام، لكن ليس بكليته، بل ببعض أفراده.
قوله: (في الخيل زكاة) يقتضي وجوبها في الإناث.
قلنا: لا نسلم أن صيغة (في) تقتضي الإيجاب، بل هي أعم من الوجوب، والندب؛ لأن ثبوت الزكاة فيها يصدق بالطريقين.
قوله: (إن ورد الخاص بعد وقت العمل بالخاص، كان نسخًا وبيانًا لمراد المتكلم فيما بعد، دون ما قبل):
تقريره: أن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة في عادة الشرع، وأن العقل يقتضي جوازه؛ بناء على تكليف ما لا يطاق، لكن تكليف ما لا يطاق غير واقع، فنعتقد إذا عملنا بالعام، ولم يأت بيان: أن العموم مراد، فيكون الرفع بعد ذلك نسخًا لما هو مراد، وبيانًا؛ لأن المتكلم أراد عدم الحكم فيما بعد ذلك، دون ما قبله؛ لأن الحكم الثابت قبل بالعموم، لا بالخصوص الناسخ.
قوله: (كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث):
قلنا: (الأحدث) صيغة عامة في أفراد الأحدث، مطلق في متعلقاته، وأحواله، وأزمنته، وبقاعه؛ كما تقدم غير مرة، فنحمله على بعض متعلقاته، وهو الأحدث من الأحكام دون الأدلة، والنزاع إنما هو في الأدلة، ويكون هذا تقييدًا لتلك الحالة والمتعلق، لا تخصيصًا للعموم، ويبقي لفظ الراوي على عمومه، والأحكام هي السابقة للفهم عند سماع هذه الصيغة.
ولذلك قال العلماء: أحكام أوائل الإسلام كان فيها الرخص كثيرة، ولما قويت عصابة الإسلام واستقر، تجددت العزائم ناسخة لتلك الأحكام السابقة، وهو معنى الحديث.
قوله: (اللفظ العام قائم مقام التنصيص على الأعيان الخاصة، فقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] قائم مقام اقتلوا زيدًا، اقتلوا عمرًا) ولو قال ذلك، لكان ورود التخصيص بعد ذلك نسخًا):
قلنا: الفرق أن صيغة العموم تدل على كل نوع تضمنًا، وفي التنصيص على الأنواع تدل مطابقة، ولفظ التنصيص على الأفراد لا يقبل الاستثناء في كل فرد نص عليه، وفي العموم يقبله، فافترقا.
قوله: (إذا قال: لا تقتلوا اليهود، ثم بعد سنة قال: (اقتلوا المشركين) يكون الأول أعم في الأزمان).
تقريره: أن هذا البحث مبني على أن النهي يقتضي التكرار، فيتناول الأزمنة من حين وروده إلى آخر الدهر، والأمر- وإن سلمنا أنه للتكرار- فإنما يتناول الأزمنة، من حين وروده إلى آخر المستقبل؛ فينفصل النهي بالسنة الكائنة قبل ورود الأمر.
قوله: (وإذا كان كل واحد منهما أعم وأخص من وجه، وجب التوقف):
قلنا: عموم (المشركين) في الأشخاص، وعموم النهي الخاص في الأزمان، ودلالة اللفظ على الأشخاص- ليس من الأزمنة، والزمان أبعد عنها، وإن كان المقصود الأهم إنما هو الأشخاص، ودلالة الخاص على أفراده أقوى، فوجب ترجيحه.
قوله: (قول الصحابي ضعيف، فنحمله على ما إذا كان المتأخر هو الخاص).
قلنا: هذا تحكم؛ لأنه، إن كان حجة، فيجب ألا يخص عمومه إلا بدليل، ولم يذكروه، فإن لم يكن حجة، فلا يحمل على شيء.
قوله: (وهذا سديد على أصله؛ لأن الخاص دائر بين أن يكون منسوخًا ومخصصًا، وناسخًا مقبولًا، وناسخًا مردودًا):
تقريره: أن الخاص يحتمل عند الجهل بالتاريخ أن يكون متقدمًا، فيكون منسوخًا على قاعدته أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، وإن كان متأخرًا، وورد قبل العمل بالعام، كان مخصصًا، أو بعد العمل بالعام، فيكون ناسخًا مقبولًا، إن كان مساويًا له، أو أقوى من حيث السند.
فأما المتقدم، إن كان متواترًا، لا ينسخه بالآحاد المتأخر، وإن كان متواترًا، نسخ العام المتقدم في الأفراد التي يتلوها الخاص، فلما تعارضت الاحتمالات، وجب التوقف.
قلت: وقع في (المحصول) في هذه المسألة ابن الفارض بالفاء، و (ابن العارض) بالعين مع الراء فيهما، وهما تصحيف، وإنما هو (ابن القاص) بالقاف والصاد بالمهملة من غير راء، وهو أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري، صاحب أبي العباس بن سريج مات ب (طرمسوس) سنة خمس وثلاثمائة، وكان إمامًا عظيمًا من الشافعية، وله مصنفات: كتاب (المفتاح) و (أدب القضاء) و (المواقيت) و (التلخيص) وله يقول الشاعر: [الكامل]
عقم النساء فلا يلدن شبيهه .... إن النساء بمثله عقم
وعنه أخذ الفقه أهل (طبرستان) ذكره الشيخ أبو إسحاق في (طبقات الفقهاء) كذلك، وينبغي لابن القاص؛ ألا يتوقف إلا في الأفراد التي يتناولها
الخاص من العام، أما ما عداها، فسالم عن معارضة هذه الشبهة، فلا يتوقف فيها.
قوله: (إذا دار الخاص بين أن يكون هو، والمعارض مقطوعين، أو مظنونين، أو العام مظنونًا، والخاص مقطوعًا): لا يقضي بتقديم الخاص على العام مطلقًا.
يريد: بل يفصل في النصوص، ويقال: هل هما حالة النظر مقطوعان، أو مظنونان، أو أحدهما؟ ويخرج أحدهما على هذه القواعد المتقدمة، ولا يجزم بالتقديم مطلقًا، بل يقدم العام المقطوع على الخاص المظنون، لاحتمال تأخره عن وقت العمل بالعام، ويقدم الخاص المقطوع على العام المظنون السند؛ لأنه أسوأ أحواله أن يكون ناسخًا، وهو يصلح لذلك.
قوله: (أصل القياس إن كان متقدمًا على العام، لم يجز القياس عليه عندنا):
تقريره: أن أبا حنيفة يجعل العام المتأخر ناسخًا للخاص المتقدم، فعلى تقدير ورود حديث عبادة في الأشياء الستة في الربا، وورود قوله تعالى:{وأحل الله البيع} [البقرة: 275] كان ناسخًا لحديث عبادة، فلم يستقر الحكم في البر، حتى يقاس عليه الأرز، بل يبطل المنع في الجميع عنده، فلا يحتج عليه بمثل هذا القياس؛ به هذا تقرير كلامه بحسب الإمكان مع أن عبارته تقتضي أنا نحن أيضًا نقول بذلك، وما رأيت هذا في غير هذا الموضع.
قوله: (عابوا على ابن عباس نفي الربا في النقد):
يريد بالنقد الناجز في الربويات: كيف كان، لأنه يخصص الربا بالنسيئة؛ لقوله عليه السلام:(إنما الربا في النسيئة)، ولم يرد بالنقد الذهب، والفضة خاصة.