الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه، واختلاف] الفقهاء اختلاف اجتهادي، والحق في نفس الأمر فيه واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر نقطع بذلك ونؤمن به. ونعتقد: أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم، وإنما هو من حيث إنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراء به، وملازمة له وميلا إليه غير ذلك، وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم، المراد بها: أن ذلك القارئ، وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به، فآثره على غيره، وداوم عليه، ولزمه حتى اشتهر وعرف به، وقصد فيه، وأخذ عنه، لذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم لا إضافة اختراع، ورأي، واجتهاد.
وأما فائدة اختلاف القراءات وتنوعها:
فإن في ذلك فوائد غير ما قدمناه، من سبب التهوين، والتسهيل، والتخفيف على الأمة.
ومنها: ما في ذلك من نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وكمال الإيجاز، إذ كل قراءة بمنزلة آية، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة يقوم مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان في ذلك من التطويل.
ومنها: ما في ذلك من عظيم البرهان وأوضح الدلالة، إذ هو مع
كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد، ولا تناقض، ولا تخالف، بل كل يصدق بعضه بعضا، ويبين بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد، وأسلوب واحد، وما ذلك إلا آية بالغة، وبرهان صادق على صدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم.
ومنها: سهولة حفظه، وتيسير نقله على هذه الأمة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة، فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه، أسهل عليه، وأقرب إلى فهمه، وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام يؤدي معاني تلك القراءات المختلفات، لا سيما فيما كان خطه واحدا، فإن ذلك أسهل حفظا، وأيسر لفظا.
ومنها: إعظام امور هذه الأمة، من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك، واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين أسراره وخفي إشارته، وإمعانهم النظر، وإمعانهم الكشف عن التوجيه، والتعليل، والترجيح، والتفصيل بقدر ما يبلغ غاية علمهم، ويصل إليه نهاية فهمهم:{فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} [آل عمران: 195]، والأجر على قدر المشقة.
ومنها: بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عن لفظه، والكشف عن صنعه، وبيان صوابه، وتحرير تصحيحه، وإتقان تجويده،
حتى حموه من خلال التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكا، ولا تسكينا، ولا تفخيما، ولا ترقيقا، حتى ضبطوا مقادير المدات، وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، ولا يوصل إليه إلا بإلهام باري النسم.
ومنها: ما ادخره الله تعالى من المنقبة العظيمة، والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة الشريفة، من إسنادها كتاب ربها، واتصال هذا السبب الإلهي بسببها خصصه الله - جل شأنه - هذه الأمة المحمدية، وإعظاما لقدر هذه الملة الحنيفية، فكل قارئ يوصل حرفه بالنقل إلى أصله، ويرفع ارتياب الملحدين قطعا بوصله، فلو لم يكن من الفوائد إلا هذه الفائدة الجليلة لكفت، ولو لم يكن من الخصائص إلا هذه الخصلة النبيلة لوفت.
ومنها: ظهور سر الله تعالى في توليه حفظ كتابه العزيز، وصيانة كلامه المنزل بأوفى البيان والتمييز، فإن الله تعالى لم يخل عصرا من الأعصار/ ولو في قطر في الأقطار من إمام حجة، قائم بنقل كتاب الله تعالى، وإتقان حروفه ورواياته، وتصحيح وجوهه وقراءته، ليكون وجوده سببا لوجود هذا السبب القويم على ممر الدهور، وبقاؤه دليلا على بقاء القرآن العظيم في المصاحف والصدور.
انتهى منقولا من كتاب النشر للحافظ ابن الجزري - رحمه الله تعالى-.