الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا، الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه.
تنبيهات:
الأول: قد تجتمع فواصل في موضع واحد، ، ويخالف بينها، كأوائل النحل فإنه تعالى بدأ بذكر الأفلاك، فقال:{خلق السموات والأرض بالحق} [النحل: 3]، ثم ذكر خلق الإنسان من نطفة، ثم خلق (الأنعام) [الآيات: 4 - 9]، ثم عجائب النبات، فقال:{هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعنب ومن كل الثمرات إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون (11)} [النحل: 10، 11]، فجعل مقطع هذه الآية التفكر، لأنه استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر المختار، ولما كان هنا مظنة سؤال، وهو: أنه لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس والقمر؟ وكان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال، كان مجال الفكر والنظر والتأمل باقيا، فأجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن تغيرات العالم السفلي مربوطة بأحوال حركات الأفلاك، فتلك الحركات كيف حصلت؟ فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم منه التسلسل، وإن كان من الخالق الحكيم فذاك إقرار بوجود الإله تعالى، وهذا هو المراد بقوله:{وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12)} [النحل: 12]، فجعل مقطع هذه الآية العقل، فكأنه قيل: إن كنت عاقلا فأعلم أن التسلسل باطل، فوجب
انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك، وهو الإله القادر المختار.
الثاني: أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة، ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية الحمرة، والأخرى في غاية السواد، فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار، فعلمنا أن المؤثر قادر مختار، وهذا هو المراد من قوله:{وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لأية لقوم يذكرون} [النحل: 13]، فكأنه قيل: ما ترسخ في عقلك أن الواجب بالذات، والطبع لا يختلف تأثيره، فإذا نظرت حصول هذا الاختلاف، علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع؛ بل الفاعل المختار، فلهذا جعل مقطع الآية التذكر.
ومن ذلك قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآيات [151، 152، 153] فإن الأولى ختمت بقوله: {لعلكم تعقلون} ، والثانية بقوله:{لعلكم تذكرون} ، والثالثة بقوله:{لعلكم تتقون} لأن الوصايا التي في الآية الأولى إنما يحمل على تركها عد العقل الغالب على الهوى؛ لأن الإشراك بالله لعدم/ استكمال العقل الدال على توحيده
وعظمته، وكذلك عقوق الوالدين لا يقتضيه العقل لسبق إحسانهما إلى الولد بكل طريق، وكذلك قتل الأولاد من الإملاق مع وجود الرزاق الحي الكريم، وكذلك إتيان الفواحش لا يقتضيه عقل، وكذلك قتل النفس لغيظ أو غضب في القاتل، فحسن بعد ذلك {يعقلون} . وأما الثانية، فلتعلقها بالحقوق المالية والقولية، فإن من علم أن له أيتاما يخلفه من بعده لا يليق به أن يعامل أيتام غيره إلا بما يجب أن يعامل به أيتامه، ومن يكيل، أو يزن، أو يشهد لغيره، لو كان ذلك الأمر له لم يحب أن يكون فيه خيانة ولا بخس، وكذا من وعد أو وعد لم يحب ان يخلف، ومن أحب عامل الناس به ليعاملوه يمثل ذلك، فترك ذلك غنما يكون لغفلة عن تدبر ذلك وتأمله، فلذلك ناسب الختم بقوله:{لعلكم تذكرون} . وأما الثالث: فلأن ترك إتباع شرائع الله الدينية مؤد إلى غضبه وإلى عقابه، فحسن {لعلكم تتقون} أي عقاب الله بسببه.
ومن ذلك قوله تعالى في (الأنعام) أيضا: {وهو الذي جعل لكم النجوم .. } [الآيات [97 - 99]، فإنه ختم الأولى بقوله:{لقوم يعلمون} ، والثانية بقوله:{لقوم يفقهون} ، والثالثة بقوله:{يؤمنون} ، وذلك لأن حساب النجوم والاهتداء به يختص بالعلماء بذلك، فناسب ختمه ب {يعلمون} ، وإنشاء الخلائق من نفس واحدة، ونقلهم من صلب إلى رحم، ثم إلى الدنيا ثم حياة وموت، والنظر في ذلك والفكر فيه أدق، فناسب ختمه ب {يفقهون} ، لأن الفقه فهم الأشياء الدقيقة. ولما ذكر ما أنعم به على عباده من سعة
الأرزاق والأقوات والثمار وأنواع ذلك ناسب ختمه بالإيمان الداعي إلى شكره-تعالى-على نعمه.
ومن ذلك قوله: {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون} [الحاقة: 41، 42] /، حيث ختم الأولى ب} تؤمنون}، والثانية ب} تذكرون}. ووجهه أن مخالفة القرآن لنظم الشعر ظاهرة واضحة لا تخفى على أحد، ] فقول [من قال: شعر، كفر وعناد مخض، فناسب ختمه بقوله:{قليلا ما تؤمنون} . وأما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فيحتاج إلى تذكر وتدبر، لأن كلا منهما نثر، فليست مخالفته له في وضوحها لكل أحد كمخالفته الشعر، وإنما تظهر بتدبر ما في القرآن من الفصاحة والبدائع والمعاني الأنيقة، فحسن ختمه بقوله:{قليلا ما تذكرون} .
ومن بديع هذا النوع: اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث واحد لنكتة لطيفة، كقوله تعالى في سورة (إبراهيم):{وءاتكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسن لظلوم كفار (34)} ،
ثم قال في سورة [(النحل)]: {وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) 18)} . قال ابن المنير: كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة، فأنت آخذها وأنا معطيها، فحصل لك أن عند أخذها وصفان: كونك ظلوما، وكونك كفارا- يعني لعدم وفائك بشكرها- ولي عند إعطائها وصفان، وهما: "أني غفور رحيم، أقابل ظلمك بغفراني، وكفرك
برحمتي، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير)، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء. وقال غيره: إنما خص سورة (إبراهيم) بوصف] المنعم عليه، و [سورة (النحل) بوصف المنعم، لأنه في سورة (إبراهيم) في مشارق الأرض ووصف الإنسان، وفي سورة (النحل) في مساق صفات الله تعالى، وإثبات الألوهية.
ونظيره قوله في (الجاثية): {من عمل صلحا فلنفسه، ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون} [15]، وفي (فصلت) ختم بقوله:{وما ربك بظلم للعبيد} [46] ونكتة ذلك أن قبل الآية الأولى: {قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون (14)} [الجاثية: 14] فناسب الختام بفاصلة البعث، لأن قبله وصفهم بإنكاره. وأما الثانية، فالختام بما فيها مناسب، لأنه لا يضيع عملا صالحا، ولا يزيد على ما عمل سيئا.
وقال في سورة (النساء): {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48) {ثم أعادها وختم بقوله: {ومن يشرك بالله فقد ضل ضللا بعيدا} [النساء: 116]، ونكته ذلك أن الأولى نزلت في اليهود، وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه، والثانية نزلت في المشركين ولا كتاب لهم، وضلالهم أشد.
ونظيره قوله تعالى في (المائدة): {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون} [44]، ثم أعادها فقال:{فأولئك هم الظلمون} [المائدة: 45]. وقال في الثالثة: {فأولئك هم الفسقون} [المائدة: 47]، ونكته أن الأولى
نزلت في حكام مسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى. وقيل: الأولى: فيمن جحد ما أنزل الله، والثانية: فيمن خالفه مع علمه ولم ينكره، والثالثة: فيمن خالفه جاهلا. وقيل: الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد، وهو الكفر، عبر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب صور التكرار.
وعكس هذا، اتفاق الفاصلة والمحدث عنه مختلف، كقوله تعالى في سورة (النور):{يأيها الذين ءامنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمنكم .... } إلى قوله: {كذلك يبين الله بكم الأيت والله عليم حكيم (58)} [النور: 58]، ثم قال:{وإذا بلغ الأطفل منك الحلم فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم ءايته والله عليم حكيم (59)} [النور: 59].
التنبيه الثاني: من مشكلات الفواصل قوله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (18)} [المائدة: 118]، فإن قوله:{وإن تغفر لهم} يقتضي أن يكون الفاصلة: الغفور الرحيم، وكذا نقلت عن مصحف أبي، وبها قرأ ابن شنبود.
وذكر في حكمته أنه لا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه فهو العزيز، أي: الغالب، والحكيم، وهو الذي يضع الشيء في محله، وقد يخفى وجه الحكمة على بعض الضعفاء في بعض الأفعال، فيتوهم أنه خارج عنها وليس كذلك، فكان في وصفه الحكيم احتراس حسن، أي: وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترض عليك لأحد في ذلك، والحكمة فيما فعلته.
ونظير ذلك قوله في سورة (التوبة): {أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} [71]، وفي سورة (الممتحنة):{واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} [5]، وفي (غافر):{ربنا وأدخلهم جنت عدن التي وعدتهم ..... } إلى قوله: {إنك أنت العزيز الحكيم} [8]، وفي (النور):{ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)} ، فإن بادئ الرأي يقتضي} تواب رحيم {لأن الرحمة مناسبة للتوبة، لكن عبر به إشارة إلى فائدة مشروعية اللعان وحكمته، وهي الستر عن هذه الفاحشة العظيمة.
ومن خفى ذلك أيضا في سورة (البقرة): {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسوىهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} ، وفي (آل عمران):{قل عن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شئ قدير (29)} ، فإن المتبادر إلى الذهن في آية (البقرة) الختم بالقدرة، وفي (آل عمران) الختم/ بالعلم.
ومن ذلك قوله تعالى: {وإن من شئ إلا يسبح بحمده. ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)} [الإسراء: 44] فالختم بالحلم عقب تسبيح الأشياء غير ظاهر في بادي الرأي. وذكر في حكمته أنه لما كانت الأشياء كلها تسبح ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون، ختم به للمقدر في الآية وهو العصيان، كما جاء في الحديث:"لولا بهائم رتع، وشيوخ ركع، وأطفال رضع، لصب عليكم العذاب صبا".