الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك كان في ثمود، وبحسبهم أنهم كانوا ينحتون في الجبال بيوتا في غاية الدقة والإحكام، وكذلك قامت في (الحيرة) على تخوم بلاد الفرس مملكة ذات شأن، وقامت حضارة بلغت في الفن المعماري مبلغا عظيما، وبحسبنا القصران الشهيران: الخورنق، والسدير، اللذان لا تزال اثارهما باقية إلى الان.
وفي بلاد غسان قامت حضارة، وكان هناك عمران، وتجارة، وزراعة، وصناعة ونظم وقواعد لضبط شؤون الملك.
وفي دولة الأنباط قامت مملكة، وكانت حضارة، وفي دولة تدمر قامت مملكة، وكانت حضارة أصيلة، ولا تزال اثار المعابد والقصور في هاتين الدولتين باقية إلى يومنا، شاهدة على ما بلغ القوم من حضارة.
دولة حمورابي
وإذا صح ما ذكره المؤرخون أن دولة حمورابي في بابل كانت عربية، وأن أصلها هم العماليق الذين نزحوا من بلاد العرب إلى بلاد العراق، ثم كونوا لهم مملكة (ببابل) في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد- تكون هذه الدولة من أقوى الشواهد على حضارة العرب، فقد كانت هذه الدولة لا تقل في الحضارة والمدنية عن أرقى أمم الأرض حضارة في زمانها.
وقد ثبت أن العرب العماليق ملكوا مصر في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وأنهم أسسوا بها أسرة مالكة، فلم يكونوا أقل من الأسر المصرية في شيء «1» .
وكذلك نشأت في بلاد الحجاز حضارة في مكة، والمدينة، والطائف، ونحوها من المدن المشهورة، فكان هناك بناء وعمارة، وكانت هناك تجارة، وتجار مهرة يصيرون من رمال الصحراء ذهبا، وكانت هناك زراعة وبساتين، في المدينة، وفي الطائف، واليمامة، وهجر.
وكان بمكة مجلس للشورى يرجعون إليه في الأمور المهمة، ودار لهذا،
(1) دائرة معارف القرن العشرين، ج 6 مادة: عرب.
وهي (دار الندوة) فكانوا يجتمعون فيها كلما أهمهم أمر، ويجتمعون فيها اجتماعا عاما كل عام، وكانت تدار فيها المناقشات بكل حرية، وهي تدل على نضجهم التفكيري، ومن يقرأ الحوار الذي دار بينهم في الائتمار بالنبي صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة يعلم ما وصل إليه العرب في باب الشورى «1» .
وإذا كان الجانب الأخلاقي من العناصر المهمة في تكوين الحضارة فقد كان للعرب- حضرا وبدوا- من ذلك رصيد ضخم من كرم، وشجاعة، وحماية للذمار، ومروءة، ونجدة، ورعاية للجار، ووفاء بالعهد، وإباء للضيم والذل، إلى غير ذلك مما لم نذكره، وإن حضارة الأخلاق الكريمة، والصفات النفسية الأصيلة لأهم- عندي- من حضارة البناء، والصناعة، والزراعة، إذ عليها تقوم الأمم التي تستحق البقاء والخلود، وماذا تجدي الحضارة المادية إذا كانت النفوس خالية من المعاني النفسية، والأخلاق الكريمة؟!
لقد كان للعرب خصائص فطرية، وعقلية، ونفسية، وخلقية هي التي أهلتهم لأن يكون منهم سيد البشر وقمة العرب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكونوا حملة هذه الرسالة العامة الخالدة للناس أجمعين، وصدق الله في قوله:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (124)«2» .
ومهما يكن من شيء فقد كان للعرب في جاهليتهم ممالك وحضارات ساهمت إلى حد كبير في بناء الحضارة الإنسانية، فلا تعجب- أيها القارىء الكريم- إذا كانوا لما اعتنقوا الإسلام عن يقين واقتناع صنعوا الأعاجيب في باب الحضارة، وبلغوا فيها شأوا لم تبلغه أمة من الأمم، ولا تزال اثار هذه الحضارة الإسلامية باقية إلى يومنا هذا. لقد كانت هذه الحضارة من أقوى الأسس التي قامت عليها الحضارة الأوروبية في العصر الحديث، كما شهد بذلك المنصفون من أبناء هذه البلاد.
(1) إنما أردت الاستدلال على نضجهم الفكري وطريقتهم في عرض الاراء وقبولها أو رفضها فحسب، أما الائتمار وما انتهوا إليه من عزم على قتل الرسول فهو ولا ريب جريمة، وأمر منكر.
(2)
الاية 124 من سورة الأنعام.