الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خروج الصديق مهاجرا إلى الحبشة
وكان ممن ابتلي في الله، وأوذي لمنافحته عن الرسول وعن الدعوة الصدّيق أبو بكر- رضي الله عنه وقد بدا له أن يهاجر إلى الحبشة ليلحق بإخوانه، ولكن أحد أشراف العرب أجاره وأرجعه. روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة- رضي الله عنها قالت:«لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين- أي الإسلام- ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو الحبشة، حتى بلغ برك الغماد «1» ، لقيه ابن الدغنّة «2» وهو سيد القارة «3» ، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق «4» ، فأنا لك جار ارجع فاعبد ربك ببلدك.
(1) بفتح الباء وسكون الراء، بعدها كاف، والغماد بكسر الغين وقد تضم وبتخفيف الميم: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن.
(2)
بضم الدال والغين، وتشديد النون المفتوحة عند أهل اللغة، وعند المحدثين بفتح الدال وكسر الغين وتخفيف النون، وقد روي بالوجهين.
(3)
بفتح القاف وتخفيف الراء قبيلة كبيرة من بني الهون- بضم الهاء- ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر كانت تشتهر بالرمي.
(4)
قد مضى شرح هذه الفقرات في حديث بدء الوحي، ولكن الذي يستحق النظر أن هذه الأوصاف هي التي وصفت بها السيدة خديجة رسول الله، مما يدل على ائتلاف الروحين، وتوافق المزاجين، والخالقين، عند الصادق والصدّيق.
فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلّ فيها، وليقرأ ما يشاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا!!
فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.
ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القران، فيتقذّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القران.
وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدّغنّة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك «1» ، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل «2» .
(1) أخفر بالألف نقض العهد، وخفر وفى به.
(2)
صحيح البخاري- باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.
وهذه القصة تدل دلالة واضحة على تأثير القران وإعجازه البياني والبلاغي في نفوس العرب الخلّص، وسواء في ذلك الرجال والنساء، بل والصبيان.
وقد مر بك من قرب ما كان من أثر القران الكريم وإعجازه في إسلام الفاروق عمر، وما كان من استماع زعماء الشرك أبي جهل، وأبي سفيان بن حرب، والأخنس بن شريق إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سرا، وكل منهم يخفي أمره على الاخر، حتى إذا رجعوا، وتلاقوا في الطريق صدفة تلاوموا وأوصى بعضهم بعضا بعدم المعاودة، حتى تكرر ذلك ثلاث ليال، وقد روى الإمام أحمد في «مسنده» بسنده عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق: «أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، قال:
حسبي لا أبالي ألاأسمع غيرها» وروي أن أعرابيا سمع هاتين الايتين من النبي صلى الله عليه وسلم فذهب وهو يقول: ذرة، ذرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لقد فقه الرجل» !!