الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن أحق بهذه العبودية من الأنبياء بله رسول الله، وقال تعالى:
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)«1» .
وأي بشر أصدق إيمانا وأشد توكلا على الله من الأنبياء ولا سيما خاتمهم صلى الله عليه وسلم، وقد أقر رئيس الشياطين بأنه لا سلطان له على عباد الله المخلصين، فقال كما حكاه الله عنه في قوله عز وجل:
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)«2» .
ومن أحق من الأنبياء بالاصطفاء؟ أو من أشد إخلاصا منهم لله؟ ونبينا محمد على رأس المصطفين الأخيار، وفي الذروة منهم إخلاصا لله.
فهؤلاء الزنادقة الحاقدون على الإسلام ونبيه نسبوا إلى الشيطان ما أقر هو بأنه لا قبل له به، ووضعوا هذه الروايات الباطلة التي تصادم نص القران الذي لا ريب فيه.
بطلان القصة من جهة العقل والنظر
وأما بطلان القصة من جهة العقل والنظر فقد قام الدليل العقلي القطعي وأجمعت الأمة على عصمته عليه الصلاة والسلام من مثل هذا، وكل ما جاءت به الروايات الباطلة ممتنع في حقه أن يقوله من قبل نفسه عمدا أو سهوا، وهو في اليقظة أو هو وسنان لمكان العصمة منه، قال القاضي عياض: «وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يتشبّه عليه ما يلقيه الملك بما يلقيه الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقوّل على الله لا عمدا ولا سهوا ما لم ينزل عليه قال الله تعالى:
(1) الاية 99 من سورة النحل.
(2)
الايتان 82، 83 من سورة ص. وقد قرىء «المخلصين» بفتح اللام بمعنى استخلصهم واصطفاهم لنفسه، وبكسر اللام أي أخلصوا لله العبادة والتوحيد وهما قراءتان سبعيتان.
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «1» (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)«2» .
وقال تعالى:
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)«3»
ولو جوّزنا شيئا من ذلك لذهبت الثقة بالأنبياء، ووجد المارقون سبيلا للتشكيك في الأديان. ووجه اخر لفساد هذه القصة وهو أن الله تعالى ذم الأصنام في سورة النجم، وأنكر على عابديها وجعلها أسماء لا مسمى لها، وأن التمسك بعبادتها أوهام وظنون قال تعالى:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)«4» .
فقد جاءت الايات على هذا الأسلوب الإنكاري، التوبيخي، التهكمي بالأصنام وعابديها، وقال بعد الموضع الذي زعموا أنه ذكرت فيه الفرية:
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) .
فلو أن القصة صحيحة لما كان هناك تناسب بينها وبين ما قبلها
(1) الوتين: عرق متصل بالقلب إذا قطع مات الإنسان.
(2)
الايات 44- 47 من سورة الحاقة.
(3)
كتاب الشفا، ج 2 ص 119، والاية 75 من سورة الإسراء.
(4)
أي جائرة في منطق العقل السليم والنقل الصحيح، وقد جاء اللفظ هكذا خارجا عن المعهود في الفصحى ولا سيما الكتاب المعجز ليحصل التطابق بين اللفظ والمعنى، وهو من خصائص العربية.
وما بعدها، ولكان النظم مفككا، والكلام متناقضا، وكيف يطمئن إلى هذا التناقض السامعون وهم أهل اللّسن والفصاحة، وأصحاب عقول لا يخفى عليها مثل هذا، ولا سيما أعداؤه الذين يتلمسون له العثرات والزلات، فلو أن ما روي كان واقعا لشغب عليه المعادون له، ولارتد الضعفاء من المؤمنين، ولثارت ثائرة مكة، ولاتخذ منه اليهود بعد الهجرة متكأ يستندون إليه في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم والتشكيك في عصمته، ولكن شيئا من ذلك لم يكن.
ووجه ثالث: وهو أن بعض الروايات ذكرت أن فيها نزل قوله تعالى:
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74)«1» .
وهاتان الايتان تردّان الخبر الذي رووه لأن الله ذكر أنهم كادوا يفتنونه، ولولا أن ثبّته لكاد أن يركن إليهم، ومفاده أن الفتنة لم تقع وأن الله عصمه وثبته حتى لم يكد يركن إليهم، فقد انتفى قرب الركون فضلا عن الركون، فالأسلوب القراني جاء على أبلغ ما يكون في تنزيه ساحته صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون، بل افترى بمدح الهتهم، وهذا ينافي ما تدل عليه الاية، وهو توهين للخبر لو صح، فكيف ولا صحة له؟ ولقد طالبته صلى الله عليه وسلم ثقيف وقريش إذا مر بالهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل، وما كان ليفعل.
وإذا كانت القصة غير ثابتة من جهة النقل، وهي مخالفة للقران، ولما قام عليه الدليل العقلي، فلا جرم أن التحقيق يدعونا إلى أن نصدع بأن حديث الغرانيق مكذوب اختلقه الزنادقة الذين يريدون إفساد الدين، والطعن في سيد الأنبياء وإمام المخلصين.
(1) الايتان 73، 74 من سورة الإسراء.
وإذ قد انتهينا إلى هذه النتيجة الممحّصة فما معنى اية الحج إذا؟ وللإجابة على ذلك أقول:
إن للاية تفسيرين: الأول: أن التمني المذكور في الاية المراد به تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه، ومن هذا المعنى: الأمنية، وما من نبي أو رسول إلا وغاية مقصوده، وجل أمانيه أن يؤمن قومه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الأعلى، قال تعالى:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)«1» .
وقال:
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ (8)«2» .
وقال:
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)«3» .
وعلى هذا يكون معنى الاية: وما أرسلنا من قبلك رسولا بشرع جديد كإبراهيم وموسى وعيسى، أو نبيا جاء مجددا لشرع جاء به رسول الله قبله كأنبياء بني إسرائيل الذين جاؤوا بعد موسى، مثل يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا وحزقيل، إلا إذا تمنى هداية قومه وإيمانهم ألقى الشيطان في سبيل أمنيته هذه العقبات، ووسوس في صدور الناس، فثاروا في وجهه وجادلوه حينا، وحاربوه حينا اخر، حتى إذا ما أراد الله هدايتهم أزال تلك الوساوس التي ألقاها الشيطان في نفوسهم ووفقهم لإدراك الحق وإجابة داعي الله، وبذلك ينسخ الله ما ألقى الشيطان من الشبهات والعقبات، ويحكم آياته بنصر الحق وأهله على الباطل وحزبه، وينشىء من ضعف أنصاره قوة، ومن ذلهم عزا، وتكون كلمة الله هي
(1) الاية 6 من سورة الكهف.
(2)
الاية 8 من سورة فاطر.
(3)
الاية 103 من سورة يوسف.
العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ليجعل ما يلقي الشيطان في سبيل دعوات الأنبياء فتنة لضعفاء الإيمان، ومرضى النفوس، وقساة القلوب الذين لا يعتبرون ولا يتعظون وهم المجاهرون بالكفر، أو ليعلم الذين أوتوا العلم وكشف الله الحجب عن بصائرهم أن ما جاء به الرسل هو الحق من ربهم فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
الثاني: أن المراد بالتمني القراءة «1» ، ولكن الإلقاء ليس بالمعنى الذي أراده المبطلون مما رووه وهو إجراء الشيطان الباطل على لسان النبي، ولكن الإلقاء بمعنى إلقاء الأباطيل والشبه فيما يتلوه عليهم النبي مما يحتمله الكلام، ولا يكون مرادا للمتكلم، أو لا يحتمله، ولكن يدّعي أن ذلك يؤدي إليها، وذلك من شأن المعاجزين الذين دأبهم محاربة الحق يتبعون الشبهة، ويسعون وراء الريبة، ونسبة الإلقاء للشيطان على هذا بمعنى أنه المتسبب والملقي لهذه الشبهات في نفوس أتباعه، ويكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حدّث قومه عن ربه، أو تلا عليهم وحيا أنزله الله لهدايتهم قام في وجهه مشاغبون يتقوّلون عليه ما لم يقله، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وينشرون ذلك بين الناس، ولا يزال الأنبياء والمرسلون يجالدونهم ويجاهدون في سبيل الحق حتى ينتصر، فينسخ الله ما يلقي الشيطان من شبه، ويثبت الحق، وقد وضع الله هذه السنة في الخلق ليتميز الخبيث من الطيب، فيفتتن ضعفاء الإيمان الذين في قلوبهم مرض، ويتمحص الحق عند أهله وهم الذين أوتوا العلم فيعلموا أنه الحق، وتخبت له قلوبهم، ويستمر عليه سلوكهم وعملهم.
وقد ذكر البخاري في صحيحه هذين المعنيين للتمني، وبدأ بالأول، وثنّى بالثاني، بل ذكره بصيغة التضعيف «2» ، ونقل الأول عن ترجمان القران ابن عباس، وعلى تفسيره للتمني فالاية لا تمت بصلة ما إلى ما رواه المبطلون، وقد بيّنا على التفسير الثاني أنها لا تدل أيضا على ما ذكروه.
(1) ومما يدل على هذا قول حسان في عثمان:
تمنّى كتاب الله أول ليلة
…
تمني داود الزبور على رسل
(2)
صحيح البخاري- كتاب التفسير- باب تفسير سورة الحج.