الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إن العقل الباطن- على ما يقول علماء النفس- إنما يفيض بما فيه في غفلة من العقل الظاهر، ولذلك لا يظهر ما فيه إلا عن طريق الرؤى والأحلام والأمراض كالحمّى مثلا، والقران الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في اليقظة، وفي اكتمال من عقله وبدنه، ولم ينزل منه شيء في الرؤى والنوم، وهكذا ترى أن ما استندوا إليه من فكرة العقل الباطن لا تساعدهم بل ترد عليهم.
بطلان ما زعموا أنه صرع
وقد أسفّ بعض المبشّرين والمستشرقين، فزعموا أن الحالة التي كانت تعتري النبي عند تلقي الوحي من جبريل، وهو على حالته الملكية، وهي الحالة التي كان يغيب فيها النبي عن الناس، وعما حوله، ويسمع له غطيط، ويتصبّب عرقه، ويثقل جسمه- هي حالة صرع تتمخض عما يخبر به أنه وحي.
وإليك رد هذه الفرية لترى أنهم طعنوا في غير مطعن:
1-
إن النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء كان أصح الناس بدنا، وأقواهم جسما، وأوصافه التي تناقلها الرواة الثقات تدل على البطولة الجسمانية، وقد بلغ من قوته أنه صارع ركانة بن عبد يزيد فصرعه، وكان ركانة هذا مصارعا ماهرا، ما قدر أحد أن يأتي بجانبه إلى الأرض، ولما عرض عليه النبي الإسلام قال: صارعني فإن أنت غلبتني امنت أنك رسول الله، فتصارعا، فصرعه النبي، فقيل: إنه أسلم عقب ذلك «1» .
والمصاب بالصرع لا يكون على هذه القوة، وقد شهد للنبي رجل غريب عن الإسلام، ولكنه منصف، قال الكاتب الأجنبي (بودلي) في كتابه «الرسول، حياة محمد» مفندا هذا الزعم: (لا يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي كان يتمتاع بها محمد، حتى قبل وفاته بأسبوع واحد، وأن كل من تنتابه حالات الصرع كان يعتبر مجنونا، ولو كان هناك من يوصف بالعقل ورجاحته فهو محمد) !!
(1) الإصابة في تاريخ الصحابة، ج 1 ص 205؛ والاستيعاب، ج 1 ص 531.
2-
إن مريض الصرع يصاب بالام حادة في كافة أعضاء جسمه، يحس بها إذا ما انتهت نوبة الصرع ويظل حزينا كاسف البال بسببها، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من الام في النوبات، فلو كان ما يعتري النبي عند الوحي صرعا لأسف لذلك وحزن لوقوعه، ولسعد بانقطاع هذه الحالة عنه، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك.
لقد انقطع الوحي عن الرسول مدة فحزن لذلك حزنا شديدا، وكان يذهب إلى غار حراء وقمم الجبال عسى أن يعثر على الملك الذي جاءه بحراء، وبقي محزون النفس من هذه الحالة، حتى سرّى عنه ربه بوصل ما انفصم من الوحي، وعادت المياه إلى مجاريها.
3-
إن الوحي لم يكن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة التي قالوا عنها إنها صرع إلا أحيانا، وأحيانا كان يأتيه وهو في حالته الطبيعية، فلا غيبوبة، ولا عرق، ولا غطيط، وذلك حينما كان يأتيه جبريل في صورة رجل، وذلك كما حدث في حديث جبريل المشهور.
ويدل على هاتين الحالتين الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي
الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» «1» قالت عائشة: «ولقد رأيته حين ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد «2» عرقا» «3» .
4-
إن الثابت علميا أن المصروع أثناء الصرع يتعطل تفكيره وإدراكه تعطلا تاما، فلا يدري المريض في نوبته شيئا عما يدور حوله، ولا ما يجيش في
(1) ذكر النبي في هذا الحالتين اللتين كان يكثر مجيء الوحي عليهما، وفي بعض الأحيان كان يسمع عند ما يأتيه الوحي دويّ كدويّ النحل.
(2)
يسيل.
(3)
صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نفسه، كما أنه يغيب عن صوابه وتعتريه تشنجات تتوقف فيها حركة الشعور، ويصبح المريض بلا إحساس.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد الوحي يتلو على الناس ايات بيّنات، وتشريعات محكمات، وعظات بليغات، وأخلاقا عالية، وكلاما بلغ الغاية في الفصاحة والبلاغة، تحدّى به الناس أن يأتوا بأقصر سورة منه فعجزوا وما استطاعوا، فهل يعقل من المصروع أن يأتي بشيء من هذا؟! اللهم إن هذا أمر لا يجوز إلا في عقول المجانين إن كانت لهم عقول!!
5-
لما تقدّمت وسائل الطب، واستخدمت الأجهزة والكهرباء في التشخيص والعلاج، إذا بالطب يقدّم دليلا لا ينقض، ويقيم حجة لا تحتاج إلى مناقشة على كذب فرية الصرع، ويؤكد أن ما كان يعتري رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو وحي من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يكون شيئا اخر، لقد ثبت أن نوبات الصرع ناتجة عن تغيرات فسيولوجية عضوية في المخ، والدليل على ذلك أنه أمكن تسجيل تغيرات كهربائية في المخ في أثناء النوبات الصرعية مهما كان مظهرها الخارجي، وعلى أية صورة كانت هذه النوبات، ومهما ضعفت حدة هذه النوبات، ولقد أثبت الطب الحديث أخيرا بعد الاستعانة بالأجهزة والرسم الكهربائي على أن هناك مظاهر عديدة ومختلفة للنوبات الصرعية، وذلك تبعا لمراكز المخ التي تبدأ فيها التغيرات الكهربائية، وطريقة وسرعة انتشارها، وأهم أنواع الصرع ما يسمى بالنوبات الصرعية النفسية، وهو ما يشبه أن يكون النوع الذي افتراه الخصوم على الرسول بأنه مصاب به، وفي هذه الحالة تمر بذهن المريض ذكريات، أو أحلام مرئية، أو سمعية، أو الاثنان معا، وتسمى «بالهلاوس» ، وقد أثبت الطب أيضا أن الذكريات التي تمر بالمريض لا بدّ أن يكون قد عاش فيها المريض نفسه حتما إذ أن النوبة الصرعية ما هي إلا تنبيه لصورة أو صوت مرّ بالإنسان ثم احتفظ به في ثنايا المخ، وقد أمكن طبيا إجراء عملية التنبيه هذه بوساطة تيار كهربائي صناعي سلّط على جزء خاص في المخ، فشعر المريض بنفس «الهلاوس» التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع، وكلما تكررت نوبة الصرع تكررت نفس الذكريات أو الهلاوس. فهذا مريض يسمع أغنية،
أو قطعة من شعر، أو حديثا من أي نوع كان في نوبة صرعه، ويتكرر سماعه لها في كل نوبة، ولا بدّ أن يكون ما سمعه من النوبة قد سمعه يوما ما في طفولته، أو شبابه، أو قبل مرضه، وكذلك إذا كانت النوبة تثير منظرا لا بدّ أن يكون قد مرّ عليه.
وبتطبيق ما قرره الطب الحديث في حقائق الصرع على ما كان يعتري النبي صلى الله عليه وسلم نجده يردّد ايات لا يمكن إطلاقا أن يكون قد سمعها من قبل في حياته، فهي ايات واردة من عند الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعمر البشر الأرض، مثل قوله سبحانه:
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)«1» .
وايات أخرى فيها قول الله يوم القيامة مثل:
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)«2» .
وقوله سبحانه:
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) » .
وكذلك الايات التي تحكي عصور ما قبل الإسلام، والمقاولات، والمحاورات التي جرت بين أقوام عاشوا قبل الرسول بالاف السنين وذلك مثل قوله سبحانه:
(1) الايتان 34، 35 من سورة البقرة.
(2)
الاية 84 من سورة النمل.
(3)
الاية 119 من سورة المائدة.
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)«1» .
وقوله سبحانه:
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)«2» .
إلى غير ذلك من الايات التي تحكي قصص الأولين، أو تصف أحوال القيامة واليوم الاخر.
ولما كانت هذه الأحاديث والأحوال لم تمر بالرسول قطعا فهي لم تختزن بالتالي في المخ لتثيرها نوبات صرعية فيتذكرها، وبذلك يقرر الطب الحديث في أحدث اكتشافاته بالنسبة للصرع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون هناك أدنى شبهة في إصابته بالصرع إطلاقا، وأن ما كان إنما هي حالة نفسية وجسدية لتلقّي الوحي الإلهي، هذا الوحي الذي أخبر الله فيه عما مضى، وعما يستقبل «3» .
6-
ثم ما رأي هؤلاء الطاعنين، وفيهم من ينتمي إلى بعض الأديان في أنهم لا ينالون من نبي الله محمد واحده، وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين كانت لهم كتب أو صحف أوحي بها من عند الله سبحانه!! فهل تطيب نفوسهم أن يخربوا بيوتهم قبل أن يخربوا بيوت غيرهم؟!! وما رأيهم فيما جاء في كتب العهد القديم والجديد من إيحاات ونبوات؟! وهل يقولون في وحي نبي الله موسى وعيسى- عليهما السلام ما يقولون في وحي خاتم الأنبياء محمد؟
(1) الاية 37 من سورة ال عمران.
(2)
الايتان 24، 25 من سورة المائدة.
(3)
من مقال للأستاذ عبد الرزاق نوفل نشر بمجلة «منبر الإسلام» العدد 9 السنة 19 رمضان سنة 1381 هـ فبراير 1964 م.