الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبره، وعطفه، وحسن معاملته، وأمانته، وسمع من نسطورا ما سمع، فلا عجب إذا كان حدّث سيدته بعد عودته بما رأى وما سمع، وما وجده منه من حسن الخلق.
وباع النبي التجارة وابتاع، وعاد بربح وفير، وعاد معه غلام خديجة، ووصل الركب في الظهيرة إلى مكة، وخديجة في علّيّة لها «1» ، فرأت النبي تكسوه المهابة والجلال، فلما دخل عليها أخبرها بخبر التجارة وما ربحت، فسرت لذلك سرورا عظيما، وخرج النبي، وترك ميسرة يقص على سيدته من شأن سيده محمد ما شاءت له نفسه أن يقص.
افتراءات المستشرقين ودسهم
قد سمعت انفا ما قاله الراهب (نسطورا) في شأن النبي، وما قاله من قبل (بحيرى) لعمه أبي طالب، ولم تذكر الروايات الموثوق بها شيئا غير هذا، ولكن قد جرى بعض كتّاب السيرة من المستشرقين أو إن شئت فقل المبشّرين ومتابعيهم من الكتاب المسلمين أن يحمّلوا الروايات ما لا تتحمل، وأن يدسوا السم في الدسم، وأن يطلقوا لخيالهم الجامح العنان، كأنما يؤلفون رواية مسرحية، لا أعظم سيرة لنبي، توفر لها من دواعي الصدق، والثبوت، وتحرّي الحقيقة ما لم تحظ به سيرة في الدنيا!!.
فزعموا أن النبي قابل في هاتين الرحلتين: رحلته مع عمه، ورحلته لخديجة بعض الرهبان وأخذ عنهم، وأنهم جادلوه، وجادلهم في أمر عيسى وأمر غيره، وغرضهم بهذا أن يلقوا في أوهام بعض القارئين أن النبي استفاد من هؤلاء، وانطبعت في ذهنه معارفهم، ثم فاض ذلك على لسانه فيما جاء به من قران، كي يصلوا إلى أن القران من عند النبي، وأن ما زعمه وحيا هو أمر نابع من نفسه، على ما يرون من فكرة الوحي النفسي «2» .
وإذا جاز هذا التجني والدس من المبشرين والمستشرقين استجابة
(1) غرفة عالية. وهي بكسر العين- والضم لغة- وكسر اللام المشددة وفتح الياء المشددة.
(2)
سنعرض لإبطالها عند الحديث عن الوحي.
لعصبيتهم، وما رضعوه في ألبان أمهاتهم من صليبيتهم، فما كان ينبغي ولا يجوز أن يقلدهم في هذا بعض الكتاب المعاصرين من المسلمين!!.
وهذا الكلام الذي ذكره هيكل الباحث المسلم، وهذه الفروض والتخمينات قد اتبع فيها (در منغم) حذو النعل بالنعل «2» ، ولا أدري كيف غاب عنه أن مدين ليست في طريق الشام؟؟ ثم من هم نصارى الشام الذين تحدث إلى رهبانهم وأحبارهم؟ كنا نحب منه أن يؤيد ما يقول ويذكر لنا غير من جاءت بهم الرواية من (بحيرى) و (نسطورا)، وما القيامة العلمية لكلمة «لعل» و «الفروض» في مثل هذا البحث الذي يتصل بحياة أعظم إنسان عرفته الدنيا؟! ثم من قال: إن النبي كان عنده علم بمذاهب أهل الكتاب وعقائدهم قبل النبوة؟.
ولو أن النبي أخذ عنهم، واستفاد منهم كما زعموا لردّوا عليه حينما عرض في صراحة لبطلان عقائدهم، وفساد مذاهبهم، ولقالوا له نحن الذين علمناك، فكيف تجحد فضلنا، وتطعن في ديننا؟.
ولا ندري أنصدق (درمنغم) ومتابعيه أم نصدق الحق تبارك وتعالى حيث قال:
(1) حياة محمد، لهيكل، ص 113، 114.
(2)
حياة محمد، لدر منغم، ص 125، 126.
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً «1» مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)«2» ؟!.
ثم أي نصارى الذين أخذ عنهم النبي؟ النصارى المحرّفون؟! أم النصارى المخرّفون؟! وإليك صورة للنصرانية في هذا العهد بشهادة النصارى أنفسهم، يقول مولانا محمد علي:«ولكن كيف كانت حالة النصرانية في ذلك العهد؟ فلنرجع إلى شهادات الكتّاب النصارى أنفسهم في هذا الموضوع، فقد رسم أحد الأساقفة صورة لتلك الأيام فقال: إن المملكة الإلهية كانت في اضطراب كلي، بل إن حالة جهنمية حقيقية كانت قد أقيمت على سطح الأرض نتيجة للفساد الداخلي، وقد عالج السير (وليم موير) هذا الموضوع فانتهى إلى النتيجة نفسها قال: «وفوق هذا فقد كانت نصرانية القرن السابع نفسها متداعية فاسدة، كانت معطلة بعدد من الهرطقات المتنازعة، وكانت قد استبدلت بإيمان العصور الأولى السمح صغارات الخرافة وصبياناتها» .
تلك صورة للنصرانية تمثل وضعها العام انذاك، كانت واحدة الذات الإلهية قد احتجبت منذ عهد بعيد، وكانت عقيدة التثليث قد أدت إلى نشوء تعقيدات متعددة، وتنافست الفرق والهرطقات المختلفة في قدح زناد الفكر لتفسير هذه العقيدة، وأدى ذلك إلى إنشاء جمهرة من المؤلفات أبعدت الإنسان عن هدف الدين الحقيقي» «3» .
يتبين لك أيها القارىء المنصف أن ما ذكروه لا بد وأن يكون ظنونا وتخمينات، وليس من البحث العلمي الصحيح في شيء.
(1) أي حياة لأنه تحيى به القلوب، وتصلح به النفوس.
(2)
الايتان 52، 53 من سورة الشورى.
(3)
حياة محمد ورسالته، ص 10، 21.