الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخذ الخليل بيد ابنه ووحيده، وخرج به إلى المنحر بمنى، وأضجعه على وجهه، وأخذ السكين بيده، وأمرّها على عنق ابنه، فما قطعت، ولا أثّرت، وحينئذ نودي من السماء: أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، وامتثلت الأمر، وإنا قد فدينا ابنك بما تيسّر لك من كبش سمين، فطلب كبشا، فذبحه مكان إسماعيل، فكانت التضحية سنة باقية في عقبه إلى يوم الدين، واستحق الخليل وابنه إسماعيل أن يكونا مثلين في الاخرين. وأن يكون عليهما السلام من رب العالمين. وإليك القصة كما حكاها الله في القران الكريم، قال سبحانه:
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ «1» قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ «2» لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ «3» عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)«4» .
الذبيح إسماعيل لا إسحاق
الذي يدل عليه القران الكريم، والأحاديث، والاثار الثابتة، أن الذبيح هو إسماعيل- عليه السلام ولكن اليهود تدسّسوا إلى الرواية في الإسلام، فدسّوا فيها بعض الروايات الضعيفة التي تدل على أنه إسحاق وهذا من عداوة اليهود المتأصلة للعرب، فقد أرادوا ألايكون للجد الأعلى للنبي الأمي فضل
(1) بلغ سنا يسعى فيها في مصالحه، ويعين أباه.
(2)
تله أي ألقاه على وجه.
(3)
كبش سمين.
(4)
الايات 99- 111 من سورة الصافات.
أو مزية، حتى لا ينجرّ هذا الفضل إلى نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، وبالتالي إلى الجنس العربي.
ولم يقف أمرهم عند حد الدس في الروايات الإسلامية، بل قام أسلافهم بتحريف التوراة ذاتها، حتى يتم لهم ما أرادوا، ولكن الله أبى إلا أن يغافلوا عما يدل على هذه الجريمة، والجاني- غالبا- يترك ما يدل على جريمته. والحق يبقى له شعاع- ولو خافت- يدل عليه مهما حاول المبطلون إخفاء نوره، وطمس معالمه، فقد حذفوا من التوراة لفظ «إسماعيل» ووضعوا بدله لفظ «إسحاق» ، ولكنهم غفلوا عن كلمة كشفت عن التزوير، وعن هذا الدس المشين، ففي التوراة (الإصحاح الثاني والعشرون- فقرة 2) : «فقال الرب: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا. وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك
…
» «1» .
وليس أدل على كذب هذا من كلمة «وحيدك» ، وإسحاق- عليه السلام لم يكن وحيدا قط، لأنه ولد ولإسماعيل نحو أربع عشرة سنة كما هو صريح توراتهم في هذا، وقد بقي إسماعيل- عليه السلام حتى مات أبوه، الخليل، وحضر وفاته ودفنه. وإليك ما ورد في التوراة:
في سفر التكوين (الإصحاح السادس عشر- الفقرة 16) ما نصه: «وكان أبرام- يعني إبراهيم- ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام» .
وفي سفر التكوين (الإصحاح الحادي والعشرون- فقرة 5) : «وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه
…
» وفي الفقرة 9 وما بعدها ما نصه:
« (9) ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح (10) فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها. لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق (11) فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه (12) فقال الله
(1) وقد ذكرت التوراة القصة في 14 فقرة، فليرجع إليها من يشاء، لتكون له الحجة عليهم من نفس كتابهم المقدس عندهم.
لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول سارة اسمع لقولها؛ لأنه بإسحاق يدعى لك نسل (13) وابن الجارية أيضا سأجعله أمة: لأنه نسلك» «1» إلى اخر القصة.
فما قولكم يا أيها اليهود المحرفون؟ وكيف يتأتّى أن يكون إسحاق وحيدا؟! مع هذه النصوص التي هي من توراتكم التي تعتقدون صحتها، وتزعمون أنها ليست محرفة!!
وقد دلّت التوراة، ورواية البخاري في صحيحه على أن الخليل إبراهيم أسكن هاجر وابنها عند مكان البيت المحرم حيث بني فيما بعد، وقامت مكة بجواره، وقد عبّرت التوراة بأنهما كانا في (برية فاران)، وفاران: جبال بمكة، وهذا هو الحق أن قصة الذبح كان مسرحها بمكة ومنى وفيها يذبح الحجاج ذبائحهم اليوم.
وقد حرّفوا في النص الأول، وجعلوه:«جبل المريا» وهو الذي عليه مدينة أورشليم بمدينة القدس العربية، ليتم لهم ما أرادوه، ولكن أبى الحق إلا أن يظهر تحريفهم!!
وقد ذكر العلامة الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة (بكرك) بدل وحيدك وهو أظهر في البطلان، وأدل على التحريف إذ لم يكن إسحاق بكرا للخليل بنص توراتهم كما ذكرنا انفا، فالحق أن الذبيح هو إسماعيل- عليه السلام وهو الذي يدل عليه ظواهر الايات القرانية، فلا عجب أن ذهب إليه جمهرة الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وأئمة الحديث، منهم السادة العلماء: علي، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو الطفيل، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، والحسن البصري، ومحمد بن كعب
(1) ويصدّق هذا كتاب الله الشاهد على الكتاب السماوية كلها قوله سبحانه حكاية لمقالة إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام بعد أن بنيا البيت: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ولو أن اليهود وعوا ما جاء في التوراة والقران لعلموا أنه ستكون أمة لها شأنها من نسل إسماعيل، ولما حسدوا العرب على هذا الفضل.
القرظي، وسعيد بن المسيّب، وأبو جعفر محمد الباقر، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والكلبي، وأبو عمرو بن العلاء، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وفي زاد المعاد لابن القيم: أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهذا الرأي هو المشهور عند العرب قبل البعثة وذكره أمية بن أبي الصلت في شعر له «1» .
وقد نقل العلامة ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية في هذا كلاما قويا حسنا، أحببت نقل خلاصته لما فيه من الحجة الدامغة قال:«ولا خلاف بينهم أي النسابين- أن عدنان من ولد إسماعيل- عليه السلام وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدّس الله روحه- يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم؛ فإن فيه: «أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره» وفي لفظ «وحيده» ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده والذي غرّ أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم «اذبح ابنك إسحاق» قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم لأنها تناقض قوله: «اذبح بكرك ووحيدك» «2» ، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله، وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق؟ والله تعالى قد بشّر أم إسحاق به، وبابنه يعقوب فقال تعالى- حكاية لقول الملائكة لإبراهيم لما أتوه بالبشرى-:
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)«3» .
(1) تفسير الالوسي ج 23، ص 135، 136.
(2)
قد بينت ذلك بذكر النصوص من التوراة انفا، والبكر أول مولود يولد للشخص.
(3)
الايتان 70- 71 من سورة هود.
فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات (الايات من 103- 111) .
ثم قال تعالى:
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)«1» .
فهذه بشارة من الله تعالى له، شكرا على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا في أن المبشّر به غير الأول، بل هو كالنص فيه.
وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله. ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النحر بمكة من تمام حجّ البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا، ولو كان الذبح بالشام- كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقّى عنهم- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.
وأيضا: فإن الله سبحانه وتعالى سمّى الذبيح حليما، لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سمّاه عليما فقال تعالى:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
إلى أن قال:
قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)«2» .
(1) الاية 112 من سورة الصافات.
(2)
الايات 24- 28 من سورة الذاريات.
وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته، وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السرية «1» - يعني هاجر.
وأيضا فلأنهما بشّرا به على الكبر، واليأس من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك
…
وأيضا فإن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه وسلم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة، فإنها كانت جارية، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة؛ فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها، ويسكنها في أرض مكة؛ لتبرد عن سارة حرارة الغيرة، وهذا من رحمة الله تعالى بها ورأفته وإبعاده الضرر عنها، وجبره لها، فكيف يأمر بعد هذه بذبح ابنها دون ابن الجارية؟! بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا، هذه وابنها منهم، وليري عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد، والواحدة، والغربة والتسليم إلى ذبح الولد- الت إلى ما الت إليه من جعل اثارهما، ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدا لهم إلى يوم القيامة، وهذه سنته فيمن يريد رفعه من خلقه:
أن يمنّ عليه بعد استضعافه، وذلّه، وانكساره، قال تعالى:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» «2» .
وكذلك دلّت الأحاديث والاثار عن الصحابة والتابعين، روى الحاكم في
(1) قال في المصباح المنير: «والسرية: فعلية، قيل: مأخوذة من السّر- بالكسر- وقيل من السر- بالضم- بمعنى السرور، لأن مالكها يسر بها، فهو على القياس» وأما على الأول فضم السين من تغيير النسب.
(2)
زاد المعاد ج 1، ص 28- 30.