الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حمر، خطمهم «1» الليف، وأزرهم «2» العباء، وأرديتهم النّمار «3» ، يحجون البيت العتيق» ، وما رواه الإمام أحمد في مسنده بسنده عن ابن عباس قال: لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال: «يا أبا بكر، أي واد هذا؟» قال:
وادي عسفان، قال:«لقد مرّ به هود، وصالح- عليهما السلام على بكرات حمر، خطمها الليف، وأزرهم العباء، وأرديتهم النّمار، يلبّون يحجون البيت العتيق» إسناده حسن، لأن المقصود الحج إلى محله، وبقعته المعروفة، وإن لم يكن ثم بناء «4» .
رواية البخاري في صحيحه
وها أنذا أذكر رواية الإمام البخاري في صحيحه، المشتملة على إسكان الخليل هاجر، وابنها عند البيت، وقصة نبع زمزم، وقصة بناء البيت؛ لأنها أصحّ ما روي في هذا الباب، بعضها مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم صراحة، وجلّها موقوف من كلام ابن عباس، ولكن له حكم المرفوع، لأن مثل هذا لا يقوله ابن عباس بمحض الرأي، فهو إما سمعه من النبي أو من صحابي عنه، ويستبعد جدا أن يكون تلقّاه عن أهل الكتاب الذين أسلموا، لأن ما جاء في الحديث أدق، وأوفى وأشمل مما جاء في كتبهم.
وسأذكر الحديث بطوله لما فيه من الإمتاع، والحكم، والأحكام، والسنن والعبر والعظات، وهو- إلى ذلك- قطعة من الأدب الحي، والقصص الحق.
روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس- رضي الله عنهما قال: «أول ما اتخذ النساء المنطق «5» من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا
(1) خطم جمع خطام: وهو الزمام الذي تشد به الناقة.
(2)
أزر: جمع إزار: وهو ما يستر به أسفل الجسم من الوسط.
(3)
أردية جمع رداء: ما يوضع على الكتفين ويستر به النصف الأعلى. النمار: جمع نمرة، الكساء المخطط.
(4)
البداية والنهاية، ج 1 ص 119، 138.
(5)
المنطق، والنطاق ما تشد به المرأة وسطها.
لتعفي أثرها على سارة «1» ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت- أي مكانه-، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه «2» تمر، وسقاء «3» فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس، ولا شيء؟! وقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا! ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنيّة حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ
…
، حتى بلغ (يشكرون) .
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السّقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى- أو قال:
يتلبط «4» -، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه. ثم استقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحدا؟
فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود «5» حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت: هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك سعي الناس بينهما» «6» .
(1) ذلك أن سارة كانت وهبت هاجر للخليل إبراهيم، فحملت منه إسماعيل، فلما ولدته اشتدت بها الغيرة، فصارت تؤذيها وتلاحقها، وهي تهرب منها، فاتخذت المنطق ليعفّي أثرها، فلا تعرف سارة أين ذهبت هاجر.
(2)
وعاء من جلد.
(3)
ما يحمل فيه الماء كالقربة.
(4)
يتمرغ، ويضرب برجليه الأرض من العطش.
(5)
الذي أصابته المشقة والتعب.
(6)
أي هذا أصل مشروعية السعي بينهما.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: صه «1» ، ثم تسمّعت، فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث «2» ، فإذا هي بالملك يعني جبريل- عند موضع زمزم، فبحث بعقبه- أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه «3» ، وتقول بيدها هكذا «4» ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت- أو قال- لو لم تغرف من زمزم لكانت زمزم عينا معينا» «5» .
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: «لا تخافوا الضّيعة، فإن هذا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه، وشماله.
فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم- أو- أهل بيت «6» من جرهم مقبلين من طريق كداء «7» ، فنزلوا في أسفل مكة، فوجدوا طائرا عائفا «8» ، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء!! فأرسلوا جريّا أو جريين «9» ، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟
قالت: نعم، ولكن لا حقّ لكم في الماء «10» قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فألفى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنس» فنزلوا معهم.
(1) أي اسكتي، تخاطب نفسها.
(2)
أي إغاثة فأغثني.
(3)
تجعله كالحوض بيدها.
(4)
أي تفعل بيديها هكذا: أي تمثل فعلها بيديها.
(5)
ظاهرا جاريا على وجه الأرض.
(6)
جماعة و «أو» للشك من الراوي في أي اللفظين قاله.
(7)
بفتح الكاف والمدة أعلى مكة.
(8)
يحوم حول الماء ويدور.
(9)
الجري: الرسول و «أو» للشك.
(10)
يعني في امتلاكه، أما الشرب والانتفاع به فمباح.
حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام، وتعلم العربية منهم، وأنفسهم «1» وأعجبهم حين شب، فلما أدرك «2» زوّجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته «3» ، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا «4» ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرّ، نحن في ضنك وشدة، فشكت إليه! قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغيّر عتبة بابه «5» ، فلما جاء إسماعيل كأنه انس شيئا «6» فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألنا كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك فطلقها، وتزوج امرأة منهم أخرى «7» .
فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله- عز وجل فقال: ما طعامكم: قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال:
اللهمّ بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه» قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة
(1) أي رغبهم في مصاهرته نفاسته عندهم.
(2)
بلغ مبلغ الرجال.
(3)
هاجر وابنها.
(4)
يطلب لنا الرزق.
(5)
المراد بالعتبة: المرأة وهي من الكنايات البديعة، فالعتبة تصون الباب وتصون ما هو بداخله، وهي المعبر لبيت الإنسان، الذي يؤويه، ويقيه الحر والبرد، والمرأة تعف زوجها، وتصونه وتصون نفسها، وماله. وهي سكن النفس، وإليها يفيء الزوج بعد العناء والتعب فيجد الروح والراحة.
(6)
أبصر وأحس.
(7)
قيل: هي رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمية، وقيل غير ذلك.
إلا لم يوافقاه «1» . قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك، فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبّت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة «2» قريبا من زمزم، فلما راه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد «3» ، قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يا بني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر «4» فوضعه له، فقام عليه وهو يا بني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:«ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم» قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» . انتهى الحديث «5» .
فلما بلغ موضع الحجر الأسود وضعه في موضعه الذي هو فيه، وكان ارتفاع الكعبة تسعة أذرع، وعرضها في الأرض «6» ثلاثين ذراعا بذراعهم، وكان الحجر داخلا في البيت لمّا بناه الخليل، ولم يجعل للكعبة سقفا، وجعل لها بابين بابا شرقيا، وبابا غربيا، وكانا ملصقين بالأرض، وحفر لها بئرا عند بابها خزانة للبيت يلقى فيه ما يهدى له.
(1) لا يعتمد عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه إلا في مكة، فإنما يوافقانه ببركة دعاء الخليل.
(2)
شجرة عظيمة.
(3)
من المعانقة، والمصافحة، والتقبيل.
(4)
هو الحجر الذي قام عليه الخليل وهو يا بني.
(5)
صحيح البخاري- كتاب الحج- باب فضل مكة وبنيانها، وكتاب أحاديث الأنبياء باب «واتخذ الله إبراهيم خليلا» .
(6)
يعني طول كل ضلع من أضلاعها لأنها مربعة تقريبا.