الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استهزاؤهم بالرسول
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وأبي جهل بن هشام، فهمزوه واستهزؤوا به، فغاظه ذلك، فأنزل الله عليه مسليا ومواسيا، ومنددا بهم ومنذرا قوله تعالى:
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)«1» .
ولم يعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل هذا، بل مضى إلى سبيله يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وما زاده الإسراف في الإيذاء والاستهزاء إلا إصرارا على الدعوة.
ما نزل بالمسلمين ولا سيما المستضعفين من البلاء والفتنة
لا يكاد التاريخ يعرف قوما ابتلوا بألوان البلاء، وفتنوا أشد الفتنة مثل ما عرف ذلك لأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد عذّبوا عذابا تنوء به الجبال، وأوذوا في سبيل عقيدتهم ودينهم أشد الإيذاء، ولا سيما الأعبد والضعفاء منهم، وليس هذا بعجيب من قوم خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان، من أول يوم اعتنقوا فيه الإسلام، وتوالت عليهم ايات الوحي والمواعظ النبوية صباح مساء، وأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم بأساليبه الحكيمة في التربية والتهذيب، وكان لهم القدوة الحسنة في الثبات والصبر، والتحمل، والاستهانة بكل لأواء الحياة، والامها، ومرّها، في سبيل العقيدة والغاية الشريفة.
ولم يكن هؤلاء السادة يبغون من إيمانهم ملكا، أو جاها، أو مالا،
- له، وقد ردّ الله على العاص مقالته، أي هو الأبتر، لا أنت يا رسول الله؛ لأن كل من يولد إلى يوم القيامة فهم أولادك، وأعقابك، وأنت أب لهم، وذكرك مرفوع على المنابر والماذن، وعلى لسان كل عالم، ومصلّ، وذاكر إلى اخر الدهر، ذلك وفي الاخرة ما لا يدخل تحت الوصف، وإنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والاخرة.
(1)
الاية 10 من سورة الأنعام.
أو سمعة، وإنما كان همهم أن يقوم هذا الدين وينتشر، وتسود العالم شريعة الحق، والعدل، والمساواة، واحترام حقوق الإنسان.
ولئن كان وجد في الأمم السابقة من ضربوا مثلا عالية في التضحية والصبر والتحمل في سبيل الإيمان والدين، إلا أنهم لم يكونوا في الكثرة مثل ما كان ذلك في الإسلام، ولم يكن لهم من قوة الإيمان وصلابة الاعتقاد مثل ما كان لأصحاب نبينا محمد.
وليس أدل على هذا من أن الحواريين الذين كانوا أخلص الخلصاء لعيسى- عليه الصلاة والسلام خانه بعضهم وهو يهوذا الأسخريوطي كما ذكرته كتبهم- ودل عليه اليهود الذين كانوا يطلبونه لقتله، لولا أن رفعه الله إليه وعصمه منهم، ولن تجد مثالا واحدا لهذا في الصحابة- رضوان الله عليهم- على كثرتهم الكاثرة على أصحاب عيسى- عليه السلام بل كانوا يفدونه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم.
وقد كان أبو جهل الفاسق الباغي إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه، وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهنّ حلمك، ولنفيّلنّ «1» رأيك، ولنضعنّ شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك. وإن كان ضعيفا ضربه، وأغرى به.
وإن في هذه الرواية التي رواها ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ما يعطينا صورة مؤلمة غاية الألم لما كان ينالهم من العذاب، قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا
(1) لنخطئن، ففي القاموس: فال رأيه، يفيل فيولة، وفيلة: أخطأ وضعف، وفيّل رأيه: قبحه وخطأه.