الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علام كانت المبايعة
؟
وقد ذكر ابن إسحاق في سيرته بسنده عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه قال: «كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب: على ألانشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفّيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر» .
وذكر عن ابن شهاب نحو ذلك ولكنه أوفى وأتم، ولفظه:«وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله- عز وجل إن شاء عذّب، وإن شاء غفر» .
وقد تابع ابن إسحاق- رحمه الله بعض كتاب السيرة من القدماء، وبعض المحدثين كالدكتور محمد حسين هيكل، وظاهر رواية الشيخين في صحيحيهما تفيد ذلك، فقد رويا بسندهما- واللفظ للبخاري- أن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه وكان شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة- قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وعليه عصابة «1» : «بايعوني على ألاتشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك» وليس في هذه الرواية الصحيحة تصريح بأن هذه المبايعة كانت ليلة العقبة، وليس من شك في أن اية بيعة النساء نزلت بعد الحديبية بلا خلاف، وأين العقبة الأولى من الحديبية؟ فمن ثم سلك العلماء المحققون في مقالة ابن إسحاق على بيعة النساء مسالك:
(1) العصابة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، ولا واحد لها من لفظها، وجمعت على عصائب وعصب.
ولكن الإمام الحافظ ابن حجر يرى أن المبايعة المذكورة في حديث عبادة لم تقع ليلة العقبة، وأن المبايعة هذه الليلة كانت على الإيواء، والنصرة، والسمع والطاعة، ففي حديث عبادة عند البخاري قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره
…
» الحديث.
وأصرح من ذلك في المراد ما أخرجه أحمد، والطبراني من وجه اخر عن عبادة بن الصامت أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام، فقال:
وأما المبايعة على الصفة المذكورة فإنما وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الاية التي في الممتحنة، وهي قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)«2» .
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 151.
(2)
الاية 12 من سورة الممتحنة.
ونزول هذه الاية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف، والدليل على ذلك ما عند البخاري في «كتاب الحدود» في حديث عبادة هذا «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايعهم قرأ الاية كلها» وفي صحيح مسلم قال: «فتلا علينا اية النساء قال:
لا تشركن بالله شيئا..» .
وفي رواية الطبراني للحديث: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة..» ثم قال: فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الاية بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معا: العقبة، والبيعة على مثل بيعة النساء يوم الفتح، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدّح به. فكان يذكرها إذا حدّث تنويها بسابقته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقب ذلك توهّم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك «1» .
وهذا الذي ذكره الحافظ هو الذي يجب أن يصار إليه، فهو- رحمه الله من أعلم الناس بالقران وتنزلاته، والسنة وطرق الجمع بين رواياتها المختلفة، وبالسيرة وتواريخ الصحابة، وله انتقادات كثيرة صائبة على ابن إسحاق وغيره من كتاب السير وتاريخ الرجال.
وهذه التحقيقات والتنبيه إلى المغالط والأوهام في الرواية هي من أهم ما يعنى به الدارسون للسيرة النبوية في ضوء القران والسنة، وهي قد تخفى على غير المتخصصين في علوم القران والسنة وعلومها، فالحمد لله الذي هدانا لهذا.
والخلاصة: أن المبايعة في العقبة الأولى كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق، وألايخافوا في الله لومة لائم، وعلى الولاء والنصرة لرسول الله إذا قدم عليهم يثرب، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم، وأولادهم، وأما المبايعة على مثل بيعة النساء فقد كانت بعد ذلك.
(1) فتح الباري ج 1 ص 12، 13.