الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الادم «1» ، فجمعوا له أدما، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما:
ادفعوا إلى كل بطريق «2» هديته قبل أن تتكلموا في شأنهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.
فقدما عليهم، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا قدموا له هدية، وقالوا له:
إنا قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومنا ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدى إليه الادم، وذكر موسى بن عقبة في «مغازيه» أنهم أهدوا إليه فرسا وجبّة ديباج، فقالوا له: أيها الملك، إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم: اباؤهم، وأعمامهم، وقومهم لتردهم عليهم، فإنهم أعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فقال بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلم بهم، فأسلمهم إليهما.
فغضب النجاشي ثم قال: لا، لعمر الله، لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم، فأنظر ما أمرهم؟ قوم لجأوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني!!
إحضار النجاشي للمسلمين وسؤالهم
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم رسوله قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا- وقد
(1) الجلود، وهو بفتح الهمزة والدال، أو ضمهما، جمع أديم.
(2)
البطريق: القائد العظيم الذي يلي عشرة الاف فما فوق.
استدعى النجاشي أساقفته «1» ، فنشروا مصاحفهم «2» حوله- سألهم، فقال لهم:
ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟!.
فتولى الكلام عنهم سيدنا جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله، لنواحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله واحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة.. وعدّد عليه أمور الإسلام.
فصدّقناه، وامنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله واحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألانظلم عندك أيها الملك!!
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال له جعفر:
نعم، فقال له النجاشي، فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلّت «3» لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا لحاهم حين
(1) جمع أسقف بضم الهمزة، وسكون السين، وتخفيف الفاء وتشديدها. وهم علماء النصارى الذين يقيمون لهم دينهم.
(2)
أي أناجيلهم، وكانوا يسمونها مصاحف.
(3)
ابتلت بالدموع.