الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السّادس حياة النّبيّ عليه السلام قبل البعثة
كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة حياة فاضلة شريفة، لم تعرف له فيها هفوة، ولم تحص عليه فيها زلّة، لقد شبّ رسول الله يحوطه الله سبحانه وتعالى بعنايته، ويحفظه من أقذار الجاهلية؛ لما يريده له من كرامته ورسالته، حتى صار أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزّها وتكرما حتى صار معروفا «بالأمين» .
لقد كان في المجتمع العربي حنيفيون وحّدوا الله ودعوا إلى توحيده، وكان هناك كرماء، وكان هناك أوفياء، وكان هناك أناس عرفوا بالعفة وطهارة الذيل، والبعد عن الماثم، والتنزّه عن الفواحش، ولكن كان عزيزا جدا أن تجد في هذه البيئة إنسانا جمع الله فيه كل هذه الصفات وغيرها مثل ما جمع الله ذلك في النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد نشأ سليم العقيدة، صادق الإيمان، عميق التفكر، غير خاضع لترّهات الجاهلية، فما عرف عنه أنه سجد لصنم قط، أو تمسح به، أو ذهب إلى عرّاف أو كاهن، بل بغّضت إليه عبادة الأصنام، والتمسح بها، ولما لقي «بحيرى» الراهب قال له: أسألك بحقّ اللّات والعزّى إلّا أخبرتني عما أسألك عنه، وكان بحيرى سمع قومه يحلفون بهما، فقال له النبي:«لا تسألني بحق اللّات والعزّى شيئا، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما «1» » وروى البيهقي
(1) البداية والنهاية ج 2، ص 284.
بسنده عن زيد بن حارثة قال: كان صنم من النحاس يقال له: إساف ونائلة يتمسح بهما المشركون إذا طافوا «1» ، فطاف رسول الله وطفت معه، فلما مررت تمسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تمسّه» قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي:
لأمسّنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألم تنه» قال زيد:
فو الذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه، وأنزل عليه «2» .
وأما ما روي من أنه كان يشهد مع المشركين مشاهداهم، فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام، قال: فلم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهداهم- فهو حديث منكر واه ساقط عن الاعتبار «3» .
ومثل ذلك ما روي زورا أنه تمسح «بالصفراء» كما ذكر هيكل «4» ، أو أهدى إلى العزّى شاة بيضاء كما زعم «درمنغم» «5» ، إلى غير ذلك من الروايات الباطلة المختلقة التي هي من وضع وتزوير أعداء النبي وأعداء الإسلام، وهي من البلايا والطامات التي اشتملت عليها بعض الكتاب التي لا يعتمد عليها في الرواية، وجاء بعض المستشرقين والذين تابعوهم من الكتاب المسلمين فنقلوها في كتبهم من غير تمحيص، وتحقيق.
وكذلك بغّض إليه قول الشعر فلم يعرف عنه أنه قال شعرا، أو أنشأ قصيدة، أو حاول ذلك، لأن ذلك لا يتلاءم ومقام النبوة، فالشعر شيء، والنبوة شيء اخر، ولم يكن الشعراء بذوي الأخلاق والسير المرضية، فلا عجب أن
(1) يعني حول الكعبة.
(2)
البداية والنهاية ج 2، ص 288.
(3)
المرجع السابق.
(4)
الصفراء: هي صنم.
(5)
حياة محمد ص 30.
نزّهه الله سبحانه عن الشعر، والرسالة تقتضي انطلاقا في الأسلوب والتعبير، والشعر تقيد والتزام، وصدق الله حيث يقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ.
ومع هذا فقد كان يتذوق ما في الشعر من جمال وحكمة وروعة، ويستنشده أصحابه أحيانا، ولا عجب فهو القائل:«إنّ من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما» رواه البخاري.
ولم يشرب خمرا قط، ولا اقترف فاحشة، ولا انغمس فيما كان ينغمس فيه المجتمع العربي حينئذ من اللهو، واللعب، والميسر «القمار» ، ومصاحبة الأشرار، ومعاشرة القيان، والجري وراء الغيد الكواعب «1» ، على ما كان عليه من فتوة وشباب، وشرف نسب، وعزة قبيلة، وكمال وجمال وغيرها من وسائل الإغراء.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر ذلك وهو كبير، ويعدّه من نعم الله عليه، وعصمته له، فقد روي عنه أنه قال:«ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمّون به «2» إلا مرتين، وكلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما، قلت ليلة لبعض فتيان قريش، ونحن في رعي غنم أهلها، قلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر «3» فيها كما يسمر الفتيان، فقال: نعم، فدخلت حتى جئت أول دار من مكة، فسمعت عزفا بالغرابيل «4» ، والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فو الله ما أيقظني إلا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئا! ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت،
(1) الغيد الكواعب: البنات الحسان اللاتي في سن البلوغ.
(2)
في رواية البيهقي: «يهمون به من النساء إلا ليلتين» والمراد مما يتعلق بالنساء كالعرس، فقد نصت الرواية على ذلك والقصة واحدة. أو لعلها السماع بدل النساء.
(3)
أي ألهو كما يلهو الشباب.
(4)
الدفوف.
فقيل: نكح فلان فلانة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني فو الله ما أيقظني إلا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فو الله ما هممت، ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته» «1» .
حتى الأمور التي قد يتسامح فيها في عهد الطفولة أثناء اللعب قد صانه الله تعالى منها، قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي- يحدّث عما كان الله يحفظه به في صغره أنه قال: «لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان، كلنا قد تعرّى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شدّ عليك إزارك، قال: فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي» وقد سمعت فيما سبق ما حدث له أثناء نقله الحجارة مع أعمامه في بناء الكعبة.
بل كان من توفيق الله له أنه كان يقف مع الناس بعرفات قبل أن يوحى إليه، ولا يصنع ما تصنع قريش من عدم وقوفها مع الناس بعرفات، ووقوفها بالمزدلفة، فعن جبير بن مطعم قال:«لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه «2» ، وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات حتى يدفع معهم، توفيقا من الله عز وجل له» «3» . رواه أحمد.
وكان النبي محل ثقة الناس وأماناتهم، لا يأتمنه أحد على وديعة من الودائع إلا أدّاها له، ولا يأتمنه أحد على سر أو كلام إلا وجده عند حسن الظن به، فلا عجب أن كان معروفا في قريش قبل النبوة «بالأمين» .
وقد استمرت هذه الثقة إلى ما بعد النبوة، ولذلك لما هاجر صلى الله عليه وسلم أبقى عليا
(1) الشفا بحقوق المصطفى ج 1 ص 106؛ والبداية والنهاية ج 2 ص 287.
(2)
أي الوحي.
(3)
البداية والنهاية ج 2 ص 289.
كي يردّ ودائع الناس التي كانت عنده، وكان لا يعاهده أحد عهدا إلا وجد عنده حسن الوفاء، ولا يعد وعدا إلا صدق فيه، وقد روي أنه عاهد رجلا أن يلقاه في مكان كذا، فمكث ثلاثة أيام يذهب إلى هذا المكان، والرجل لا يذهب فقال له:«لقد شققت علي» .
وكان الصدق من صفاته البارزة، شهد له بذلك العدو والصديق، ولما بعثه الله إلى الناس جميعا وأمره أن ينذر عشيرته الأقربين صار ينادي بطون قريش، فلما حضروا قال لهم:«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدّقيّ» ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا قط.
ولما قابل هرقل ملك الروم أبا سفيان بن حرب- وكان لم يزل مشركا- قال له:
هل جرّبتم عليه كذبا؟ قال: لا، قال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويكذب على الله!!
وكان النبي إلى ذلك كله وصولا للرحم، عطوفا على الفقراء وذوي الحاجة، ويقري الضيف، ويعين الضعيف، ويمسح بيديه بؤس البائسين، ويفرّج كرب المكروبين، وقد وصفته بهذا السيدة العاقلة، الحازمة خديجة وهي أعرف الناس به- في بدء النبوة، فقالت:«ما كان الله ليخزيك أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق» «1» !!.
ومن هذا العرض الموجز نرى أن حياة النبي قبل البعثة كانت أمثل حياة وأكرمها، وأحفلها بمعاني الإنسانية والشرف، والكرامة، وعظمة النفس، ثم نبّأه الله وبعثه، فنمت هذه الفضائل وترعرعت، وما زالت تسمو فروعها، وترسخ أصولها، وتتسع أفياؤها حتى أضحت فريدة في تاريخ الحيوات في هذه الدنيا.
إن هذه الحياة الفاضلة المثلى لمن أكبر الدلائل على ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلم، فما سمعنا في تاريخ الدنيا قديمها وحديثها أن حياة كلها فضل وكمال، وهدى ونور،
(1) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي.
وحق وخير، كحياة نبينا محمد، ولم يعهد في تاريخ البشر أن شخصا يسمو على كل مجتمعه وهو يعيش فيه، وينشأ مبرا من كل نقائصه ومثالبه وهو نابع منه!! ولا أن نورا ينبعث من وسط ظلمات، ولا طهارة تنبع من وسط أدناس وأرجاس، ولا أن علما يكون من بين جهالات وخرافات، اللهم إلا إذا كان ذلك لحكمة، وأمرا جرى على غير المعهود والمألوف، وما ذلك إلا لإعداد النبي للنبوة، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ وصدق الإمام البوصيري حيث يقول:
كفاك بالعلم في الأميّ معجزة
…
في الجاهلية والتأديب في اليتم
لقد قرأنا سير الحكماء، والفلاسفة، والعباقرة والمصلحين، وأصحاب النحل والمذاهب قديما وحديثا، فما وجدنا حياة أحد منهم تخلو من الشذوذ عن الفطرة السليمة، والتفكير الصحيح، والخلق الرضي، إما من ناحية العقيدة والتفكير وإما من ناحية السلوك والأخلاق، وغاية ما يقال في أسماهم وأزكاهم:
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه!! حاشا الأنبياء والمرسلين، فقد نشّأهم الله سبحانه على أكمل الأحوال، وعظيم الأخلاق، وقد بلغ الذروة في الكمال خاتمهم وسيد البشر كلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.