الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
[خطبة الأربعين النووية]
الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالمِينَ، قيومِ السَّماوَاتِ وَالأَرَضِينَ، مُدبِّرِ الخَلائِقِ أَجْمَعِينَ، بَاعِثِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِم إلَى الْمُكَلَّفِينَ؛ لِهِدَايَتِهمْ وَبيَانِ شرَائِعِ الدِّينِ، بالدَّلَائلِ الْقَطْعِيَّةِ وَوَاضِحَاتِ الْبَرَاهِينِ، أَحْمَدُهُ عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ، وَأَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ.
وَأَشْهدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، الْكَرِيمُ الْغَفَّارُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ، أَفْضَلُ المَخْلُوقِينَ، المُكَرَّمُ بالْقرآنِ الْعَزِيزِ الْمُعجِزَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى تَعَاقُبِ السِّنِينَ، وَبِالسُّنَنِ الْمُستَنِيرَةِ لِلْمُسْترشِدِينَ، الْمَخْصُوصُ بجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَسَمَاحَةِ الدِّينِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائرِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرسَلِينَ، وَآلِ كُلٍّ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ.
قال المؤلف رحمه اللَّه تعالى ورضي عنه مفتتحًا كتابه كأكثر المؤلِّفين بالتسمية والتحميد؛ تأسِّيًا بالكتاب المجيد، وعملًا بالحديث الصحيح:"كل أمرٍ ذي بالٍ -أي: حالٍ يهتم به- لا يبدأ فيه بالحمد للَّه، أو بحمد اللَّه، أو ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، أو بذكر اللَّه -روايات-. . فهو أجذم، أو أقطع، أو أبتر" روايات أيضًا (1)؛ أي: قليل البركة، وقيل: مقطوعها، ورواية:"بذكر اللَّه" تبين أنه لا تعارض،
(1) انظر الحديث ورواياته عند ابن حبان (1 - 2)، وأبي داوود (4840)، وابن ماجه (1894)، والنسائي في "الكبرى"(10255)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 208)، والدارقطني في "سننه"(1/ 229)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 359)، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء"(ص 51) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر "نتائج الأفكار" للحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى (3/ 279 - 282).
وأن القصد حصول الابتداء بأي ذكرٍ كان؛ على أنه حقيقيٌّ يحصل بالبسملة، وإضافيٌّ يحصل بما بعدها من الحمدلة:
(باسم اللَّه) أي: أبتدئ تاليفي متلبسًا أو مستعينًا باللَّه تعالى أو باسمه، واللَّه: علم على الذات الواجب الوجود لذاته، المستحق لجميع الكمالات، وهو الاسم الأعظم عند أكثر أهل العلم، وعدم الاستجابة لكثيرين؛ لعدم استجماعهم لشرائط الدعاء التي من جملتها: أكل الحلال، وهو مشتقٌّ -وقيل: مرتجلٌ- من (ألِهَ) إذا تحيَّر؛ لتحيُّر الخلق في معرفته، وقيل غير ذلك، وهو أعرف المعارف.
ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه اللَّه تعالى أن جميع أسمائه تعالى صالحةٌ للتخلُّق بها إلا هذا؛ فإنه للتعلُّق دون التخلُّق (1)، ولم يسمَّ به غيره تعالى، قال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: لا أحد تسمَّى اللَّه غيره، وهذا من باهر معجزاته صلى الله عليه وسلم، فهو كإخباره بأن اليهود لا يتمنَّون الموت، وبأن أحدًا لا يمكنه الإتيان بمثل أقصر سورةٍ من القرآن، فلم يتجاسر أحدٌ على واحدةٍ من هذه الثلاثة مع كثرة أعداء الدين وتعنُّتهم، وشدة حرصهم على تكذيبه صلى الله عليه وسلم في إخباره.
(الرحمن) أي: البالغ في الرحمة والإنعام، ومن ثَمَّ لم يسمَّ به غيره تعالى، وتسمية أهل اليمامة مُسيلِمة الكذاب لعنه اللَّه تعالى به من التعنُّت في الكفر. ويجوز صرفه وعدمه.
(الرحيم) أي: ذي الرحمة الكثيرة، فالرحمن أبلغ منه كان صح في الحديث:"يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما"(2)؛ لزيادة بنائه الدالة غالبًا على زيادة المعنى، والاستدلال على الأبلغيَّة بقولهم: (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم
(1) يعني بعدم صحة التخلُّق بالجلالة: عدم صحة اتصاف الإنسان بالألوهية وإن صح التعلُّق بها؛ بمعنى تعلق عباد الباري تعالى بالتوسل به، فمعنى التعلق: التوسل. (محمد طاهر) اهـ هامش (غ).
(2)
قطعة من حديث أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 515) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها، والطبراني في "الكبير"(20/ 154) عن سيدنا معاذ رضي الله عنه، ولفظه عند الحاكم:"لو كان على أحدكم جبلًا من ذهب دينًا فدعا بذلك. . لقضاه اللَّه عنه: اللهم؛ فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة، ورحيمهما أنت ترحمني، فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك. . . ".
الآخرة). . فيه نظر؛ لهذا الحديث الدال على استوائهما في ذلك، وأتى به تتميمًا لوصفه تعالى بالرحمة، وإشارةً إلى أن ما دلَّ عليه من دقائقها وإن ذكر بعد ما دلَّ على جلائلها الذي هو المقصود الأعظم. . مقصود أيضًا؛ لئلا يُتوهم أنه غير ملتفَتٍ إليه، فلا يُسأل ولا يُعطي.
والرحمة: عطفٌ وميلٌ روحانيٌّ، غايته الإنعام، فهي لاستحالتها في حقه تعالى مجازٌ؛ إما عن نفس الإنعام فتكون صفة فعلٍ، أو عن إرادته فتكون صفة ذاتٍ، وإما من باب التمثيل المقرر في علم البيان.
(الحمد) مصدر (حمد) وهو لغةً: الوصف بالجميل، سواء تعلَّق بالفضائل؛ أي: الصفات التي لا يتعدى أثرها للغير، أم بالفواضل؛ أي: الصفات المتعدي أثرها إليه، وعرفًا: فعلٌ ينبئ عن تعظيم المُنعِم من حيث إنه منعمٌ على الحامد أو غيره، وهذا هو الشكر لغة، وأما اصطلاحًا: فهو صرف العبد جميع ما أنعم اللَّه تعالى به عليه؛ من نحو السمع والبصر وسائر الجوارح والحواس إلى ما خُلق لأجله من الطاعات، ولعزَّة هذا المقام قال اللَّه تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} .
قال بعض محققي الصوفية: حقيقة الحمد: إظهار بعض الصفات الكمالية بقولٍ كما مر، أو بفعل وهو أقوى؛ إذ الفعل الذي هو أثر السخاوة مثلًا يدل عليها دلالةً عقليةً قطعية، لا يتصور فيها تخلُّفٌ، بخلاف القول، ومن هذا القبيل حمده تعالى على ذلك (1)؛ لأنه تعالى لما بسط بساط الوجود على ممكناتٍ لا تحصى (2)، ووضع عليها موائد كرمه التي لا تتناهى. . فقد كشف عن صفات كماله، وأظهرها بدلالاتٍ عقليةٍ قطعيةٍ تفصيليةٍ غير متناهية، فإن كل ذرةٍ من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارات مثل هذه الدلالات، ومن ثَمَّة قال عليه الصلاة والسلام:"لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"(3).
(1) هذا هو التحقيق، وأما ما يقال من أنه تعالى حمد ذاته على ألسنة عباده. . فتكلُّفٌ مستغنًى عنه. (عيمكي) اهـ هامش (غ).
(2)
في (غ): (بساط الجود. . .).
(3)
أخرجه مسلم (486)، وأبو داوود (879)، والترمذي (3493) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها. وفي هامش (غ):(أي: لأن ثناء الرسول عليه الصلاة والسلام بالقول، وثناء اللَّه تعالى بالفعل، وقد مر من أن الفعل أقوى من القول).
(للَّه) أي: مملوك ومستحق له ومختص به، كما أفادته الجملة (1)؛ إذ المسند إليه إذا كان معرَّفًا بـ (لام) الجنس. . يفيد قصره على المسند وعكسه، واختصاص الجنس يوجب اختصاص جميع أفراده به تعالى؛ لأن ثبوت فردٍ منه لغيره ينافي اختصاص الجنس به أو استحقاقه إياه؛ لوجوده في ضمن ذلك الفرد، وحينئذٍ ساوت (أل) الجنسية هنا (أل) الاستغراقية الدالة على ثبوت كل فردٍ من أفراد الحمد لهُ تعالى واختصاصه به.
وقرنَ الحمد بالجلالة الدالة على استجماعه تعالى لصفات الكمال، واستحقاقِهِ الحمد لذاته؛ لئلا يتوهم اختصاصه بصفةٍ دون أخرى.
(رب) أي: مالك، أو سيِّد، أو مصلح، أو مربي، أو خالق، أو معبود، ويختص المحلى بـ (أل) دون المضاف بالله تعالى، وقول الجاهلية للملك من الناس:(الرب) من كفرهم، ويطلق أيضًا على الصاحب والثابت.
ثم قيل: هو وصفٌ، فعليه: وزنه فَعِل (2)، وقيل: فاعل؛ أي: راب، وحذفت ألفةُ لكثرة الاستعمال، ورُدَّ: بأنه خلف الأصل، وقيل: هو مصدرٌ بمعنى فاعِل، كـ (عدل) و (صوم).
واعلم: أن وجوه تربيته تعالى لخلقه لا يحيط بها غيره سبحانه وتعالى:
فمنها: تربيته النطفة إذا وقعت في الرحم حتى تفسير علقةً، ثم مضغةً، ثم يصير منها عظامٌ، وغضاريف، ورباطاتٌ، وأوتارٌ، وأوردةٌ، وشرايين، ثم يتصل بعضها ببعضٍ، ثم يصير في كلٍّ قوةٌ خاصةٌ؛ كالنظر والسمع والنطق، فسبحان من بصَّر بشحمٍ، وأسمعَ بعظمٍ، وأنطقَ بلحمٍ.
ومنها: أن الحبَّة إذا دفنت في الأرض وحصل لها نداوة. . انتفخت (3)، ثم لا تنشق مع عموم الانتفاخ لها إلا من أعلاها وأسفلها، فيخرج من الأعلى الجزء
(1) في (غ): (الجملة الاسمية).
(2)
أي: صفةٌ مشبهةٌ، وزنه (فَعِلٌ) بكسر العين، أصله:(رَبِب) ثم أُدغم.
(3)
في (ك) و (ي): (أن الحبة إذا وقعت بالأرض فحصل. . .).
الصاعد وهو الساق، ثم يتفرع منه أغصان كثيرة، ثم منها نَوْرٌ (1)، ثم ثمرٌ مشتملٌ على أجزاء كثيفةٍ كالقشر، ولطيفةٍ كاللب، ثم دهنٌ، وأما الجزء الغائص من أسفل الحبة. . فيتفرع إلى عروقٍ، ثم ينتهي إلى أطرافها، وهي في اللطافة كأنها مياهٌ منعقدةٌ، ومع غاية لطفها تغوص في الأرض الشديدة الصلابة، وأودع فيها قوةً جاذبةً تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها.
والحكمة في جميع هذه التدبيرات: تحصيل ما يحتاج إليه الآدمي من الغذاء والإدام، والفواكه، والأشربة؛ كما قال تعالى:{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} الآيةَ.
(العالمين) جمع عالَم، مشتقٌ من العَلَم -فيختص بذويه على ما يأتي- أو العَلَامة؛ لأنه علامةٌ على موجده، وأنه متصفٌ بصفات الكمال، فلكونه آلةً في الدلالة على ذلك، واسمًا لما يعلم به صار كالطابع اسمًا لما يطبع به.
ومدلوله: ما سوى اللَّه تعالى وصفات ذاته؛ لأنها ليست عينًا نظرًا لِلُّزوم (2)، ولا غيرًا نظرًا لاستحالة الانفكاك، وتخصيصه بذي الروح، أو بالناس، أو بالثقلين والملائكة، أو بالثلاثة مع الشياطين، أو ببني آدم، أو بأهل الجنة والنار، أو بالرّوحانيين (3). . يحتاج لدليل.
ونُقل عن المتقدمين أعدادٌ مختلفةٌ في العالمين وفي مقارِّها، اللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصحيح منها، كقول مقاتل:(هي ثمانون ألف عالم).
والضحاك: (ثلاث مئة وستون ألف عالم؛ ثلاث مئة ألفٍ حفاة عراة لا يعرفون خالقهم، وستون ألفًا مكسيون يعرفونه)(4).
(1) النَّوْر: الزهر.
(2)
قوله: (نظرًا للزوم) أي: للزومها للذات، ولازم الشيء غيره؛ إذ العين لا تلزم عينًا أخرى، فلو كانت عينًا. . لما لزمت الذات، وفي نسخٍ:(نظرًا للمفهوم) اهـ "مدابغي"
(3)
الروحانيون، قال ابن الأثير رحمه اللَّه تعالى في "النهاية" (2/ 272):(يروى بضم الراء وفتحها، كأنه نسبةً إلى الرُّوح أو الرَّوح؛ وهو نسيم الريح، والألف والنون من زيادات النسب، ويريد به: أنهم أجسامٌ لطيفةٌ لا يدركها البصر).
(4)
انظر "حاشية البجيرمي على الخطيب"(1/ 29).
وقال ابن المسيب: (للَّه تعالى ألف عالمٍ؛ ست مئة في البحر، وأربع مئة في البر).
وقال مقاتل: (ثمانون ألفًا؛ نصفها في البر ونصفها في البحر).
وقال وهب: (ثمانية عشر ألف عالمٍ: الدنيا عالمٌ منها، وما العمران في الخراب إلا كفسطاطٍ في صحراء)(1).
وقال كعب الأحبار (2): (لا يحصي عدد العالمين أحدٌ غير اللَّه سبحانه وتعالى؛ قال اللَّه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ})(3).
و (أل) في (العالمين) للاستغراق، وجمع العالم شاذٌّ، لأنه اسمُ جمعٍ كـ (الأنام)، وجمعه بالواو والنون أشذ؛ لعدم استكماله شروط هذا الجمع، لكن لما كان بعضُ مدلوله وهم العقلاء أشرفَ. . غُلِّبوا.
ومنع بعض المحققين كونه جمعًا لـ (عالم) قال: بل هو اسم جمعٍ له؛ لئلا يلزم أن المفرد أعم من جمعه؛ لاختصاص (العالمين) بالعقلاء، وشمول (العالم) لهم ولغيرهم، فهو نظير قول سيبويه: ليس (أعراب) -لكونه لا يطلق إلا على البدوي- جمعًا لـ (عرب) لشموله له وللحضري (4).
وجوابه: منع اختصاص العالمين بالعقلاء، بل يشمل غيرهم أيضًا، كما صرَّح به الراغب (5)، وإنما غُلِّبوا في جمعه بالواو والنون لشرفهم، وعلى التنزل وأن (العالمين) خاصٌّ بالعقلاء. . فهو جمعٌ لـ (عالم) مرادًا به العاقل، فلا محذور حينئذ، وإنما لم يجز (شيؤون) جمع (شيء) مرادًا به العاقل؛ لأن (شيئًا) ليس صفةً ولا علمًا، فلا يجمع بالواو والنون.
(قيوم) فَيْعُول من أبنية المبالغة، قُلبت الواو ياء وأُدغمت في الياء، وأحسن
(1) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 70).
(2)
قوله: (كعب الأحبار) في "القاموس": (كعب الحَبْر، ولا تقل: الأحبار) اهـ "مدابغي".
(3)
ذكر هذه الأقوال الإمام البغوي رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره"(1/ 40)، والإمام ابن عادل الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في تفسيره "اللباب في علوم الكتاب"(1/ 183 - 184).
(4)
انظر "تاج العروس" مادة (عرب).
(5)
انظر "مفردات ألفاظ القرآن الكريم"(ص 582).
الأقوال فيه وأجمعها: أنه الدائم القائم بتدبير خلقه وحفظه؛ قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآيةَ، ويقال فيه: قيَّام وقَيِّم، وبهما قُرئ شاذًا (1).
(السماوات) جمع سماء؛ وهي: الجِرم المعهود، ويُطلق لغةً على كل مرتفعٍ.
(والأرَضين) بفتح الراء وقد تسكَّن، وجَمَعَها -وإن كان خلف ما في الآيات- إشارةً إلى أن الأصح: أنهنَّ سبعٌ؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي: عددًا لا هيئةً وشكلًا فقط، خلافًا لمن زعمه؛ للحديث المتفق عليه:"من ظلم قِيد شبرٍ -بكسر القاف؛ أي: قدر شبر-. . طُوِّقه من سبع أرضين"(2).
وزَعْمُ أن المراد سبعٌ من سبع أقاليم خروج عن الظاهر بغير دليل، على أن الأصل في العقوبات المماثلة، ولا تتم إلا إن طُوِّق الشبر من سبع طبقات الأرض، وفي حديث البيهقي:"اللهم؛ رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن"(3)، وجَمْعُها بالياء والنون شاذٌّ، قيل: وحكمته: أن يكون عوضًا عما فاتها من ظهور علامة التأنيث.
(مدبر) مصرِّف أمور (الخلائق) أي: المخلوقات بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، ومن عبَّر بالمصلحة. . أراد التدبير الدنيوي؛ لأن عموم رحمته تعالى اقتضت إقامة المصالح الدنيويةِ على المؤمن والكافر، لا الأخروي (4)؛ لأن غاية الكفار النارُ المؤبدة عليهم، فالمدبِّر: العالم بأدبار الأمور وعواقبها، ومقدر المقادير ومجريها.
وحملُ (الخلائق) على أنه جمع (خليقة) بمعنى الطبع خلافُ الظاهر.
(أجمعين) تأكيدٌ ناصٌّ على شمول تدبيره تعالى لكل مخلوق.
(باعث) مرسل (الرسل) جمع رسول؛ وهو: إنسانٌ حرٌّ ذكرٌ من بني آدم، أُوحي إليه بشرعٍ وأُمر بتبليغه، سواء كان له كتالب أنزل عليه ليبلغه -ناسخًا لشرع من
(1) انظر "البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 277)، وانظر "معجم القراءات القرآنية"(1/ 195).
(2)
البخاري (2453)، مسلم (1612) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
(3)
سنن البيهقي الكبرى (5/ 252) عن سيدنا صهيب رضي الله عنه.
(4)
قوله: (لا الأخروي) بالنصب عطفأ على (الدنيوي). وفي نسخ: (لا الأخرويةِ) بالجر عطفًا على (الدنيوية) اهـ "مدابغي"
قبله أو غير ناسخٍ له- أو على مَنْ قبله وأُمر بدعوة الناس إليه، أم لم يكن له ذلك؛ بأن أُمر بتبليغ الموحى إليه من غير كتاب، ولذلك كثرت الرسل؛ إذ هم ثلاث مئة وثلاثة عشر، وقلَّت الكتب؛ إذ هي: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وصحف آدم، وشيث، وإدريس، وإبراهيم، وهو أخص من النبي؛ فإنه: إنسانٌ حرٌّ ذكرٌ من بني آدم، أُوحي إليه بشرعٍ وإن لم يؤمر بتبليغه.
(صلواته) أي: رحمته المقرونة بتعظيم، وخُصَّ لفظها بهم (1)؛ تعظيمًا لهم، وتمييزًا لرتبتهم على غيرهم، وتنظير بعض الشُّرَّاح في تفسيرهم لها بالرحمة؛ لأنها عطفت عليها في:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ولأنها مستحيلةٌ في حقه تعالى، وتصويبه أنها المغفرة. . غيرُ سديد (2)؛ لأنها أخص من مطلق الرحمة، وعطف العام على الخاص صحيحٌ مفيد؛ ولأن المراد بها -كما مر- في حقه تعالى: غايتُها كسائر الصفات المستحيل ظاهرها عليه تعالى.
(وسلامه) أي: تسليمه إياهم من كل آفةٍ ونقصٍ (عليهم) وهذه كجملة (الحمد للَّه) خبريةٌ لفظًا، إنشائيةٌ معنًى (إلى) متعلقٌ بـ (باعث) (المكلَّفين) جمع مكلفٍ؛ وهو: البالغ العاقل من الإنس، وكذا من الجن بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو مرسلٌ إليهم إجماعًا، خلافًا لمن وهم فيه، كما بيَّنه السبكي في "فتاويه"(3)، وأما بقية الرسل. . فلم يرسل أحدٌ منهم إليهم؛ كما قاله الكلبي، وروي عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما (4).
(1) قوله: (وخصَّ لفظها) أي: الصلاة (بهم) أي: الأنبياء والرسل؛ أي: خُص بهم طلبُها استقلالًا، فلا ينافي أنها تطلب على غيرهم تبعًا، وتكره استقلالًا؛ لأن لفظ الصلاة عرفًا صار شعارًا لذكرهم، ولهذا كُره أن يقال:(محمد عز وجل وإن كان عزيزًا جليلًا، وكالصلاة السلامُ إلا إذا كان خطابًا -ولو حكمًا كالمراسلات- أو جوابًا؛ فإن الابتداء به سنةٌ، وردُّه واجب، وأُلحق بالأنبياء الملائكة ومَن اختُلف في نبوتهم كلقمان، وأما صلاته صلى الله عليه وسلم على آل أبي أوفى. . فقيل: من خصائصه، وقيل: لبيان الجواز. اهـ من شرحي "الكفاية"، و"الجزرية" (ص 6) لشيخ الإسلام. اهـ هامش (غ)
(2)
قوله: (غير سديد) خبر لقوله: (وتنظير بعض الشُّراح).
(3)
انظر "فتاوى السبكي"(2/ 612 - 613).
(4)
انظر "البحر المحيط"(4/ 223) فقد نقل قول الإمام الكلبي رحمه اللَّه تعالى؛ وهو: (كان الرسل يبعثون إلى الإنس، وبُعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس. ورُوي هذا أيضًا عن ابن عباس) ووقع وهم في "اللباب في علوم الكتاب"(8/ 435) حيث تحرف فيه قول الكلبي، فليتنبه.
وإيمانهم بالتوراة -كما دلَّ عليه قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآيةَ- لا يدل على أنهم كانوا مكلَّفين به؛ لجواز إيمانهم به تبرعًا منهم، وليس منهم رسولٌ عن اللَّه سبحانه وتعالى عند جماهير العلماء، وأما قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} . . فالمراد به: من أحدكم، وهم الإنس، على حدِّ قوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} ، وكذا من الملائكة بالنسبة لنبينا أيضًا؛ لأنه مرسلٌ إليهم عند جماعةٍ من أئمتنا المحققين (1)؛ كما يدل عليه خبر مسلم:"وأُرسلتُ إلى الخلق كافة"(2)، بل أخذ بعض المحققين من أئمتنا بعمومه حتى للجمادات؛ بأن ركِّب فيها عقلٌ حتى آمنتْ به (3).
وقول الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الشامل لهم (4): (أجمعنا على أن المراد الإنس والجن دون الملائكة)(5). . مردودٌ، أو مراده به إجماع الخصمين؛ إذ (أجمعنا) إنما يقال لذلك غالبًا، لا إجماع كل الأمة، على أن هذا لا يؤخذ من مثل الرازي، بل من مثل ابن المنذر وابن جرير.
وأما غير نبينا. . فغير مرسلٍ إليهم قطعًا.
إذا تقرر ذلك. . فإطلاق المصنف بعْثَ الرسل إلى المكلفين ليس المراد به عمومه كما عرفت.
فإن قلت: تكليف الملائكة من أصله مختلَفٌ فيه.
قلت: الحق تكليفهم بالطاعات العملية؛ قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، بخلاف نحو الإيمان؛ لأنه ضروريٌّ فيهم، فالتكليف وبه تحصيلٌ
(1) كالتقي السبكي رحمه اللَّه تعالى كما في "فتاويه"(2/ 613)، والإمام السيوطي رحمه اللَّه تعالى كما في "الحاوي في الفتاوي"(2/ 139) وغيرهما، وانظر "المنح المكية" للشارح رحمه اللَّه تعالى (ص 224 - 225).
(2)
صحيح مسلم (523) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
نقله الإمام السيوطي عن الإمام البارزي رحمهما اللَّه تعالى، ثم قال في "الحاوي" (2/ 140):(واستدلَّ بشهادة الضب له بالرسالة، وشهادة الحجر والشجر له، وأزيد على ذلك أنه مرسلٌ إلى نفسه).
(4)
أي: الشامل للملائكة.
(5)
انظر "تفسير الرازي"(24/ 45).
للحاصل وهو محال، والتكليف: إلزام ما فيه كُلفة، وهو الواجب والحرام، دون المندوب والمكروه؛ إذ لا تكليف فيهما حقيقة.
(لهدايتهم) مصدرُ مضافٌ للفاعل أو المفعول؛ أي: لأجل دلالتهم إياهم على سلوك سبيل الهدى، وتجنُّب طريق الردى، ثم بعد هذه الدلالة منهم مَنْ تحصل له الهداية بمعنى الوصول وهم المؤمنون، ومنهم من لا تحصل له وهم الكافرون، ودليل إطلاقها عليهما خلافًا للمعتزلة:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي: دللناهم {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} أي: الضلال {عَلَى الْهُدَى} أي: الإسلام، والذي للرسل هو الأول، وأما الثاني .. فيختص به تعالى؛ قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} .
وبما قررته عُلم أن (اللام) في كلام المصنف لبيان حكمة الإرسال وغايته، لا للعلَّة الباعثة عليه؛ لأن أفعاله تعالى لا تُعلَّل بالأغراض؛ لِمَا يلزم على ذلك الذي ذهب إليه المعتزلة قبَّحهم اللَّه تعالى مما هو مقرر في محله.
(وبيان شرائع) جمع شريعةٍ، فعيلة بمعنى مفعولة، من (شرعَ): بيَّن؛ وهي لغةً: مشرعة الماء؛ أي: مورد الشارب، واصطلاحًا: وضعٌ إلهيٌّ سائقٌ لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم.
(الدين) الإضافة فيه بيانيةٌ كما عُلم من تفسير الشريعة بما ذكر؛ إذ هو هنا: ما شرعه اللَّه تعالى لنا من الأحكام، وهذه الأحكام المشروعة هي ذلك الوضع الإلهي. . . إلخ.
ويصح أن تكون على معنى (اللام)(1): بأن يراد بالشرائع الأحكام، وبالدين الملة والإسلام؛ قال اللَّه تعالى:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} ، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
ويطلق أيضًا على العادة، والسيرة، والحساب، والقهر، والقضاء، والحكم،
(1) أي: الإضافة في قوله: (شرائع الدين).
والطاعة، والحال، والجزاء، ومنه:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، "كما تدين تدان"(1)، والسياسة، والرأي. ودان: عصى وأطاع، وذلَّ وعزَّ، فهو من الأضداد.
قيل: ولو قال: (ببيان). . كان أحسن؛ ليكون ذاكرًا للهداية وسببها، وليس في محله؛ لما تقرر أن الهداية هنا بمعنى الدلالة، وهي بيان الشرائع، فكيف يجعل ذلك البيان سببًا لها؟! فالصواب: ما فعله المصنف؛ لأنه من باب عطف الرديف؛ إيضاحًا وتنبيهًا على المراد.
(بالدلائل) متعلق بـ (بيان) جمع دليل، وهو لغةً: المرشد، واصطلاحًا: ما يمكن التوصُّل بصحيح النظر فيه إلى علمٍ أو ظنٍّ، نقليًا كان -وهو الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ونحو الاستصحاب- أو عقليًا وهو البرهان الآتي.
(القطعية) وهي الأدلة المؤدية إلى العلم؛ للقطع بمقدماتها، نحو: كل إنسانٍ جسمٌ، وكل جسمٍ مركبٌ، فكل إنسانٍ مركب.
فإن قلت: أكثر أدلة الشريعة ظنيةٌ؛ لأن مقدماتها كذلك، نحو: الطمأنينة ركنٌ في الصلاة، وكل ركنٍ واجبٌ، والوضوء عبادةٌ، وكل عبادةٍ تُشترط لها النية، فكان ينبغي له حذف (القطعية).
قلت: إنما صارت ظنية بالنسبة إلينا، بخلافها بالنسبة لمن سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها بالنسبة إليه قطعيةٌ، والكلام إنما هو في بيان الرسل للشرائع، وذلك جميعه قطعي.
ويصح أن يراد بدلائلهم معجزاتهم الدالة على صدقهم، وكلها قطعية؛ لاستفادتها من دليل مؤلَّفٍ من مقدمتين قطعيتين، نحو: الرسل جاؤوا بالمعجزات، وكل من جاء بالمعجزات صادق، فالرسل صادقون، أما الصغرى. . فضروريةٌ حسية، والكبرى ضروريةٌ عقلية؛ إذ المعجزة خارقةٌ للعادة، وخرقها لا يقدر عليه إلا اللَّه سبحانه وتعالى، وهو لا يؤيد بذلك كاذبًا، وقد أيَّدهم اللَّه بها، فلم يكونوا كاذبين، بل صادقين.
(1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(20262)، والبيهقي في "الزهد"(710) عن سيدنا أبي قلابة رضي الله عنه، وأوله:"البر لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديَّان لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تُدان".
(وواضحات البراهين) أي: البراهين الواضحة التي لا إشكال فيها، جمع برهانٍ؛ وهو لغة: الحجة، واصطلاحًا: ما تركَّب من مقدمتين متى سلمنا (1). . لزمهما لذاتهما قول ثالث؛ كالعالَم متغير، وكل متغيرٍ حادثٌ، ينتج: العالم حادث، على ما هو مقررٌ في محله من كتب الميزان (2).
(أحمده) أي: أصفه بجميع صفاته الجميلة، وذكر الحمد مرتين؛ للجمع بين نوعيه الواقع في مقابلة صفاته تعالى، والواقع في مقابلة نعمه التي من جملتها التوفيق لهذا التأليف، وهذا الثاني هو الشكر كما، قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ، وخص الأول بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والاستمرار، والثاني بالفعلية الدالة على التجدُّد والتعاقب؛ لقدم الصفات واستمرارها، وتجدد النِّعم وتعاقبها، وفي الأبلغ من الحمدينِ كلامٌ بينته في شرحي "الألفية" و"الإرشاد"(3).
(على جميع نعمه) جمع نعمة؛ وهي: بين العيش وخِصْبه (4)، أو الشيء المُنعَم به؛ إذ كثيرًا ما يأتي (فِعْل) بمعنى المفعول، كالذِّبْح والنِّقْض والرِّعْي والطِّحْن (5)، ومع ذلك لا ينقاس، وقال الفخر الرازي:(هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، وقيل: لا بد من تقييد المنفعة بالحسنة؛ لأنه لا يستحق الشكر إلا بها، والحق عدم اعتبار هذا القيد؛ لجواز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محذورًا (6)؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم، ولهذا
(1) في بعض النسخ: (من قضيتين)، وفي بعضها:(من تصديقين متى سلما).
(2)
أي: كتب المنطق.
(3)
انظر "فتح الجواد شرح الإرشاد"(1/ 9).
(4)
الخِصب -بكسر الخاء-: ضد الجدب، وفي بعض النسخ:(وخفضه) وهما بمعنًى.
(5)
بمعنى المذبوح والمنقوض والمرعي والمطحون، قال تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: مذبوح.
(6)
قوله: (لجواز أن يستحق الثمكر بالإحسان) أي: بالتصدُّق مما في يده مثلًا وإن كان فعله -أي: فعل ذلك الأحسان والتصدق- محذورًا وحرامًا، لكون ذلك المتصدَّق به مسروقًا أو مغصوبًا، أو مما لا بد منه لنفسه. . . إلى غير ذلك، فالتصدق وإن كان في نفسه إحسانًا إلا أن فعله بمثل المال المسروق حرامٌ، فيتصور استحقاق الشكر بفعل ذلك مع كونه غيرَ حسنٍ، ويترتب عليه الذم؛ لتغاير جهتَي الشكر والذم، هذا واللَّه تعالى أعلم. (محمد علي الجوخي) اهـ هامش (غ).
استحقَّ الفاسق الشكر بإنعامه، والذم بمعصيته) (1).
واختلفوا: هل للَّه سبحانه وتعالى نعمةٌ على كافرٍ في الدنيا؟ فقيل: نعم، وعليه الباقلاني، وقال الفخر الرازي: إنه الأصوب؛ لقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} وذكر آياتٍ كثيرةً فيها دلالة لذلك (2)، وقيل: لا (3)؛ لأنه وإن وصلت إليه نِعَمٌ لكنها قليلةٌ حقيرةٌ لا اعتداد بها؛ لأدائها إلى الضرر الدائم في الآخرة، فهي كحلوٍ فيه سمٌّ، ومن ثَمَّ قال تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} الآيةَ، والخلاف لفظي؛ إذ لا نزاع في وصول نِعَمٍ إليه، وإنما النزاع في أنها إذا حصل عقبها ذلك الضرر الأبدي. . هل تسمى حينئذٍ في العرف نِعمًا أو لا؟ فهو نزاعٌ في مجرد التسمية (4).
وأوَّلَ بعضُ المحققين النعمةَ في نحو كلام المصنف هنا بالإنعام؛ نظرًا إلى أن الحمد على الوصفِ القائمِ بذاته تعالى الدائمِ المستمرِّ أَبلغُ منه على أثره الواصل إلينا.
واعلم: أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر منه تعالى؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي: إما ظاهرًا كالخلق، وإما باطنًا كالواصلة من غيره ظاهرًا؛ فإنه الخالق لهما ولداعية الإنعام في قلبه بها، لكن لمَّا أُجريت على يديه. . استحق نوعَ شكرٍ بها، وأما حقيقة الشكر. . فهي تعالى فقط؛ لأنه المنعم بالحقيقة، ونعمه تعالى غير متناهية:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} .
والأمرُ بتذكرها في قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} لأنها وإن لم تتناهَ باعتبار الأشخاص والأنواع إلا أنها متناهيةٌ بحسب الأجناس، وذلك كافٍ في التذكر المفيد للعلم بوجود الصانع الحكيم.
(1) انظر "تفسير الرازي"(1/ 258) و (3/ 29 - 30). وفي هامش (غ): (كما إذا أطعم جائعًا بمغصوب وهو جاهلٌ بالحال؛ فإنه يستحق الشكر من الجائع، والذم من الشارع، فحرر."محمد طاهر".
(2)
انظر "تفسير الرازي"(1/ 259 - 260).
(3)
قال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية"(ص 19): (وعُزي للأشعري).
(4)
والحاصل أن معنى كلامه هنا: أن تلك المنافع الواصلة للكافر في الدنيا إذا عُذب بها في العقبى، هل تسمى بالنعمة أو لا؛ لوجود العقاب؟ هذا وقد خالف في"التحفة" (1/ 18) حيث قال: إن النعمة ملائِم تُحمدُ عاقبته، وأنه لا نعمة للَّه تعالى على كافر. والحق ما أفاده كلامه في "التحفة": من أنها ملاذُّ واستدراج، لا نعمة حقيقة. (محمد علي الجوخي) اهـ هامش (غ).
(وأسأله المزيد) أي: الزيادة (من فضله) أي: ما تفضَّل به على عباده من إسداء غاية الإحسان إليهم، فـ (مِنْ) للتعدية، ويصح كونها للتعليل؛ أي: من أجل اتصافه بسائر صفات الكمال، ولا يُسأل بالحقيقة إلا مَنْ هو كذلك.
(وكرمه) فيه الوجهان المذكوران، والفضل لغةً: ضد النقص، والإفضال: الإحسان، والكرم: نقيض اللؤم، ويقال: كرم -بسكون الراء- كعدل للمذكر والمؤنث.
ولمَّا ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل خطبةٍ ليس فيها تشهدٌ فهي كاليد الجذماء"(1). . تأسَّى المصنف به فقال: (وأشهد) أي: أعلم وأُبين (أَنْ لا إله) أي: لا معبود بحقٍّ في الوجود (إلا اللَّه الواحد) في ذاته -فلا يقبل قسمةً ولا تجزؤًا- وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فلا نظير له، ولا شريك له في ملكه، ولا معين له في فعله.
(القهَّار) الغالب الذي لا يُغلَب، والقوي الذي لا يَضعُف، مأخوذٌ من (قهره): غلبه، و (أقهرته): وجدته مقهورًا، والقُهْر -بالضم-: الاضطرار.
(الكريم) الذي لا تنقطع نِعمه العظمى عمَّن التجأ إليه في مهماته، التي من جملتها تيسير مثل هذا الكتاب، بل ولا عمَّن أعرض عن طاعته وشكره.
(الغفار) الستَّار لذنوبِ من أراد من عباده، فلا يفضَحُه بالهتك في الدنيا، ولا بالعذاب في الأُخرى.
(وأشهد أن محمدًا) علمٌ منقولٌ من اسم مفعولِ المضعَّف، موضوع لمن كثرت خصاله الحميدة، سُمي به نبينا صلى الله عليه وسلم بإلهامٍ من اللَّه تعالى لجده عبد المطلب بذلك؛ ليكون على وفق تسميته تعالى له به قبل الخلق بألفي عام، على ما ورد عند أبي نعيم (2).
(1) أخرجه ابن حبان (2796)، وأبو داوود (4841)، والترمذي (1106) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرج أبو نعيم في "الحلية"(7/ 256) عن سيدنا جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مكتوب على باب الجنة: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام". وقوله: (على ما ورد) ذكره بصيغة التَّبرِّي؛ لأن السهيلي ذكر ما يعكس عليه من تأخر التسمية بمحمد عن التسمية بأحمد في الوجود؛ فقد أوضحه في "أشرف الوسائل"(ص 532).
وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار: (أن آدم رآه مكتوبًا على ساق العرش، وفي السماوات، وعلى كل قصرٍ وغرفةٍ في الجنة، وعلى نحور الحور العين، وعلى ورق شجرة طوبى (1)، وسدرة المنتهى، وأطراف الحجب، وبين أعين الملائكة) (2).
ولم يُسمَّ أحد قبله به، لكن لما قَرُب زمنه صلى الله عليه وسلم، ونشر أهل الكتاب نعته. . سمى قومٌ أولادَهم به رجاءَ النبوة لهم، واللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته، وعِدَّتهم خمسة عشر كما بيَّنه بعض المحققين (3).
(عبدُهُ) قدَّمه امتثالًا لما في الحديث الصحيح: "ولكن قولوا: عبد اللَّه ورسوله"(4)؛ ولأنه أحب الأسماء إلى اللَّه سبحانه وتعالى وأرفعها إليه، ومن ثَمَّ وصفه اللَّه تعالى به في أشرف المقامات، فذكره في إنزال القرآن عليه في:{عَلَى عَبْدِنَا} ، {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} ، {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} ، وفي مقام الدعوة إليه في:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} ، وفي مقام الإسراء والوحي إليه في:{أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} ، فلو كان له وصفٌ أشرف منه. . لذكره به في تلك المقامات العلية، ومن ثَمَّ خُير صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو نبيًا عبدًا، فاختار الثاني (5)، وسليمان عليه الصلاة والسلام سأل الأول (6)، فانظر بُعدَ ما بين المرتبتين.
وسبب أشرفية هذا الوصف: أن الألوهية والسيادة والربوبية إنما هي بالحقيقة للَّه سبحانه وتعالى لا غير، والعبودية بالحقيقة لمن دونه؛ ففي الوصف بها إشارةٌ أيُّ إشارةٍ إلى غاية كماله تعالى وتعاليه، واحتياج غيره إليه في سائر أحواله.
(ورسولُه) تفسيره كالنبي صلى الله عليه وسلم بما يعلم منه أن بينهما عمومًا
(1) طوبى: اسم شجرةٍ من أشجار الجنة.
(2)
أخرج نحوه في "تاريخ دمشق"(23/ 281).
(3)
انظر "فتح الباري"(6/ 556 - 557)، و"سبل الهدى والرشاد" للإمام الصالحي الشامي رحمه اللَّه تعالى (1/ 503) وما بعدها.
(4)
أخرجه البخاري (3445)، وابن حبان (413)، والإمام أحمد (1/ 23) عن سيدنا عمر رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 48)، وعبد الرزاق في "المصنف"(19552) عن طاووس رحمه الله مرسلًا، والطبراني في "الكبير"(10/ 288) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.
(6)
بقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} .
مطلقًا، وآثر ذكره إشارةً إلى ردِّ ما عليه ابن عبد السلام من تفضيل النبوة -لتعلُّقها بالحق- على الرسالة؛ لتعلقها بالخلق (1).
ووجه ردِّه: أن الرسالة فيها التعلُّقان كما هو ظاهر، والكلام في نبوة الرسول مع رسالته، وإلَّا. . فالرسول أفضل من النبي قطعًا.
(وحبيبُهُ) الأكبر؛ إذ محبة اللَّه للعبد المستفادة من قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} على حسب معرفته به، وأعرف الناس به سبحانه وتعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أحبُّهم له، وأحقُّهم باسم الحبيب، وسيأتي الكلام على المحبة في حديث:"ازهد في الدنيا يحبك اللَّه"(2).
و (حبيب) فعيل من (أحبه) فهو محبٌّ، أو (حبَّه يحِبُّه) بكسر الحاء، فهو محبوب.
(وخليلُهُ) الأعظم، فعيل بمعنى مفعول أيضًا، من الخَلَّة -بالفتح-: وهي الحاجة؛ ولذا وُصف بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمَّا قَصَر حاجته على ربه حين جاءه جبريل -على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام- وهو في المنجنيق ليُرمى به في النار، فقال له:(ألك حاجة؟ فقال: أما إليك. . فلا)(3).
أو بالضم؛ وهي: تخلُّل مودةٍ في القلب لا تدع فيه خلاءً إلا ملأته؛ لِمَا خالَلَهُ من أسرار الهيبة، ومكنون الغيوب والمعرفة؛ لاصطفائه عن أن يطرقه نظرٌ لغيره، ومن ثَمَّ قال صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي. . لاتخذت أبا بكر خليلًا"(4).
واختلفوا أيهما أرفع؛ مقام المحبة أو الخلة؟ فقال قومٌ: المحبة أرفع؛ لخبر البيهقي أنه تعالى قال ليلة الإسراء: يا محمد؛ سَلْ تُعطَ، فقال: "يا رب؛ إنك
(1) انظر "القواعد الكبرى"(2/ 386).
(2)
انظر ما سيأتي (ص 499) وهو الحديث الحادي والثلاثون من أحاديث المتن.
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(24665) عن معتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه رحمهم اللَّه تعالى.
(4)
أخرجه البخاري (3654) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومسلم (2383) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.
اتخذت إبراهيم خليلًا، وكلمت موسى تكليمًا" فقال: ألم أعطِكَ خيرًا من هذا؟!. . . إلى قوله: واتخذتك حبيبًا، أو ما في معناه (1).
ولأن الحبيب يصل بلا واسطة، بخلاف الخليل؛ قال تعالى في ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام:{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} ، وفي إبراهيم عليه الصلاة والسلام:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، والخليل قال:{وَلَا تَحْزَنِي} ، وفي المحنة قال:"حسبي"(2)، والحبيب قيل له:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} ، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} .
وقال قوم: الخلة أرفع، ورجَّحه جماعة متأخرون كالبدر الزركشي وغيره؛ لأن الخلة أخص من المحبة؛ إذ هي توجد بها (3)، فهي نهايتها، ومن ثَمَّ أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن اللَّه سبحانه وتعالى اتخذه خليلًا، ونفى أن يكون له خليلٌ غير ربه، مع إخباره بحبِّه لجماعةٍ من أصحابه.
وأيضًا: فإنه تعالى يحب التوابين، والمتطهرين، والصابرين، والمحسنين، والمتقين، والمقسطين، وخلته خاصة بالخليلين، قال ابن القيم:(وظَنُّ أن المحبة أرفع، وأن إبراهيم خليل، ومحمدًا حبيب. . غلط وجهل) ورَدُّوا ما احتج به الأولون مما مر (4)، بأنه إنما يقتضي تفضيل ذات محمد على ذات إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، مع قطع النظر عن وصف المحبة والخلة، وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع في الأفضلية المستندة إلى أحد الوصفين، والذي قامت عليه الأدلة استنادها إلى وصف الخلة الموجودة في كل من الخليلين، فخلة كلٍّ منهما أفضل من محبته، واخْتَصَّا بها؛ لتوفر معناها السابق فيهما أكثر من بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكون هذا التوفر في نبينا أكثر منه في إبراهيم. . كانت خلته أرفع من خلة إبراهيم صلى اللَّه عليهما وسلم.
(1) انظر "دلائل النبوة" للبيهقي (2/ 396 - 402)، فهو حديث طويل عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرج البخاري (4563) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا: أنه قال: ({حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}: قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار).
(3)
قوله: (توجد بها) أي: لأن الخلة توجد بسبب المحبة. وفي نسخ: (إذ هي توحيدها) أي: خالصها، وقال بعضهم: أي قَصْرها على المحبوب فقط، وفي أخرى:(توجدها) اهـ "مدابغي"
(4)
انظر "روضة المحبين"(ص 51)، و"الجواب الكافي"(ص 236).
(أفضل المخلوقين) كلهم، بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد الناس يوم القيامة" رواه البخاري (1)، وقوله:"أنا سيد العالمين" رواه البيهقي (2)، و (العالمون) وإن اختصَّ بالعقلاء على ما مر فهم أفضل أنواع المخلوقات، فإذا فضل هذا النوعَ. . فقد فضل سائر الأنواع بالضرورة.
وقوله: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر (3)، وما من نبيٍّ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي" رواه الترمذي (4)، ومن آخر هذا وصريح الأولَينِ عُلِمت أفضليته على آدم، فقوله:"أنا سيد ولد آدم" إما للتأدُّب مع آدم، أو لأنه عُلِم فضلُ بعض بنيه عليه كإبراهيم، فإذا فضل نبيُّنا الأفضلَ من آدم. . فقد فضل آدم بالأَولى.
ولا ينافي التفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، ولا ينافي الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تفضلوني"(5)، وفي رواية:"لا تخيروني على الأنبياء"، وفي أخرى:"لا تخيروا بين الأنبياء"(6).
ولا ينافي تفضيل نبينا عليهم قوله في الحديث المتفق عليه: "من قال: أنا خيرٌ من يونس بن متى. . فقد كذب"(7)؛ وذلك لأن عدم التفرقة بينهم إنما هو في الإيمان بهم وبما جاؤوا به.
(1) صحيح البخاري (4712) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث طويل في ذكر شفاعته صلى الله عليه وسلم.
(2)
ذكره العلامة ابن عادل رحمه اللَّه تعالى في "اللباب في علوم الكتاب"(4/ 300) وعزاه للإمام البيهقي رحمه اللَّه تعالى في كتاب "معرفة الصحابة"، عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها، وذكره أيضًا العلامة العجلوني رحمه الله في "كشف الخفاء"(1/ 203) وعزاه أيضًا للبيهقي.
(3)
قوله: (وبيدي لواء الحمد) بالكسر والمد: علم الحمد، والعلم في العرصات: مقاماتٌ لأهل الخير والشر، نُصِبَ في كل مقامٍ لكل متبوع لواء يعرف به قدره، وأعلى تلك المقامات مقام الحمد، ولما كان صلى الله عليه وسلم أعلى الخلائق. . أعُطي أعظم الألوية لواء الحمد؛ ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو حقيقي، ولا وجه لحمله على لواء الجمال والكمال. اهـ "مدابغي"
(4)
سنن الترمذي (3148) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
ذكره الإمام ابن كثير رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره"(1/ 304)، وأخرج البخاري (3414)، ومسلم (2373) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه:"لا تفضلوا بين أنبياء اللَّه. . . ".
(6)
أخرجه البخاري (2412)، ومسلم (2374/ 163) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(7)
أخرجه البخاري (4604)، والترمذي (3245) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما النهي. . فإما عن تفضيلٍ في ذات النبوة أو الرسالة؛ إذ هم فيها سواء، أو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيصِ بعضهم، أو على التواضع منه بقوله:"لا تفضلوني على الأنبياء"، وإما قبل علمه بتفضيله عليهم وإن استبعد بأن راويَهُ أبو هريرة، وما أسلم إلا سنة سبعٍ، فيبعد أنه لم يعلمه إلا بعد هذا.
وأجاب جمعٌ كمالكٍ وإمام الحرمين عن خبر يونس بما حاصله: أن تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم بالأمور الحِسِّية كالشفاعة الكبرى، وكونه تحت لوائه، والإسراء به إلى فوق سبع سماوات مع النزول بيونس إلى قعر البحر. . معلومٌ بالضرورة، فلم يبقَ إلا النهي بالنسبة إلى القرب والبعد من اللَّه سبحانه وتعالى المتوهم التفاوت فيه بين من فوق السماوات، ومن في قعر البحر، فبيَّن صلى الله عليه وسلم أنهما حينئذٍ بالنسبة إلى القرب والبعد من اللَّه سبحانه وتعالى على حد سواء؛ لتعاليه تعالى عن الجهة والمكان علوًا كبيرًا، ففيه أبلغ ردٍّ على الجِهَوية والمجسمة، قاتلهم اللَّه تعالى ما أجهلهم!
لا يقال: هو تعالى فضَّل الملأ الأعلى على الحضيض الأدنى (1)، فكيف لا يفضله باعتبار ذلك؟! لأنا نقول: ليس النهي عن مطلق التفضيل، بل عن تفضيلٍ مقيدٍ بالمكان يفهم منه القرب المكاني، فهو لم يفضله باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق سبحانه وتعالى.
واعلم: أن في حديث: "أنا سيد العالمين" أبلغَ ردٍّ على المعتزلة (2) في تفضيلهم الملائكةَ على الأنبياء كان و"افقهم الباقلاني والحليمي رحمهما اللَّه تعالى، قالوا: لأنهم أرواحٌ منزَّهةٌ عن الشر بسائر مبادئه وغاياته، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يتعلمون منهم، وقُدِّموا في القرآن والسنة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الذكر (3).
والجواب: أن ذلك التنزيه هو المقتضي لمفضوليتهم؛ لأن غيرهم لمَّا اكتسب الفضائل والكمالات العلمية والعملية مع ما رُكِّب فيهم من الشهوة والهوى، وسُلِّط
(1) الملأ الأعلى: أهل السماوات، والحضيض الأدنى: أهل الأرض.
(2)
قوله: (أبلغَ ردٍّ) بالنصب اسم (إن) مؤخرًا. اهـ "مدابغي".
(3)
انظر "المنهاج في شعب الإيمان"(1/ 309) وما بعدها.
عليهم من الشيطان وجنوده، وقام بهم من العوائق والموانع والأشغال الضرورية المانعة عن اكتساب شيءٍ من تلك الكمالات. . كان اكتسابهم لها مع ذلك أشق وأدخل في الإخلاص، فكانوا أفضل.
والتعلم منهم؛ لأنهم واسطةٌ في التبليغ، والعادة قاضية بأن المرسل إليه في نحو ذلك أفضل من الرسول.
والتقديم في الذكر؛ لتقدُّمهم في الوجود.
وأما قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} الآيةَ (1). . فإن العادة في مثله وإن اقتضت الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما في: (لا يستنكف من هذا وزير ولا سلطان). . فلا دلالة فيه؛ لأنه ردٌّ على النصارى حيث استعظموا المسيح عن العبادة؛ لإثباتهم له البُنُوَّة لكونه مجردًا لا أب له، ويحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، فردَّ عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك ولا من هو أعلى منه في هذا المعنى، وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن اللَّه سبحانه وتعالى على أفعالٍ أقوى وأعجب من إبراء ذينك، فالترقي والعلو إنما هو في أمر التجرد وإظهار الآثار القوية، لا في مطلق الشرف والكمال، فلا دلالة في الآية على أفضلية الملائكة.
ومعنى تفضيل البشر عليهم: أن خواصَّهم -وهم الأنبياء لا غير- أفضل من خواص الملائكة؛ وهم جبريل، وإسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وحملة العرش، والمقربون، والكروبيون، والروحانيون (2)، وخواصُّهم أفضل من عوام البشر إجماعًا، بل ضرورةً، وعوام البشر وهم الصلحاء دون الفسقة -كما قاله البيهقي وغيره- أفضل من عوامهم (3).
(1) وسبب نزول هذه الآية: أن نصارى نجران قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تعيب صاحبنا بقولك: إنه عبد للَّه، فأنزل اللَّه تلك الآية ردًا عليهم، وكان الأنسب للمصنف أن يذكرها جوابًا رابعًا ردًا على المعتزلة؛ لكن فصله عن الأجوبة الثلاثة لطول الكلام عليه. اهـ هامش (هـ)
(2)
قوله: (الكروبيُّون) هم ملائكة العذاب، وفي "القاموس":(الكروبيون بالراء مخففة: سادة الملائكة). وقوله: (الروحانيون) بضم الراء: هم ملائكة الرحمة، ورأيت بهامشٍ: نسبةً إلى الرَّوح التي هي الرحمة كما ورد: "الريح من روح اللَّه" أي: من رحمته، وقضيته: أنه بفتح الراء. اهـ هامش (غ)
(3)
لقد فصَّل الإمام السيوطي رحمه اللَّه تعالى هذه المسألة في كتاب "الحبائك في أخبار الملائك"(ص 245 - 249) أتم التفصيل، فراجعها تغنم.
(المكرَّمُ) على سائر الرسل (بالقرآن) مصدر (قرأ) إذا جمع؛ لجمعه السور المختلفة وعلوم الأولين والآخرين، وقيل: إذا أَلَّف؛ لحسن نظمه وتأليفه.
(العزيزِ) الممتنع -لرصانة مبانيه، ووصولها إلى أعلى درجات الفصاحة والبلاغة، وصحة معانيه، واشتمالها على أشتات العلوم وبدائع الحكم، وغير ذلك مما لا يحيط به إلا المتفضل بإنزاله سبحانه وتعالى عن الطعن فيه (1)، والإزراء عليه؛ لأنه تعالى تكفَّل بحفظ عن تعنُّت المعاندين (2)، وكيد الجاحدين، فهو كريمٌ عليه، ممتنعٌ من الشيطان وجنوده.
(المعجزةِ) وهي من حيث هي: الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتحدي، الدالُّ على صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسمي معجزةً؛ لعجز البشر عن الإتيان بمثله، فعلم أنه لا بد فيها من أن تكون خارقةً للعادة، وأن تقترن بالتحدي، وهو طلب المعارضة والمقابلة؛ وقال المحققون: هو دعوى الرسالة، وأن يأمن المتحدي من أن يعارض بمثل ما أتى به، وأن يقع ما يأتي به على وفق دعواه.
فخرج الخارقُ من غير تحدٍّ، فيسمى كرامة، والخارقُ المتقدم على التحدي كإظلال الغمام -فإنه لم يقع له صلى الله عليه وسلم إلا قبل النبوة خلافًا لمن وهِمَ فيه- فيسمى إرهاصًا؛ أي: تأسيسًا للنبوة، والمتأخر عنه؛ نحو ما رُئي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من نُطْقِ بعضِ الموتى بالشهادتين وشبهه مما تواترت به الأخبار (3)، فيسمى كرامة، والخارقُ الذي لا تؤمن معارضته، فيسمى سحرًا (4).
(1) قوله: (عن الطعن) متعلق بقوله: (الممتنع) إذ الأصل: (الممتنع عن الطعن فيه لرصانة مبانيه وصحة معانيه) اهـ "مدابغي"
(2)
قوله: (لأنه تعالى تكفَّل بحفظه) كان الظاهر أن يقول: (ولأنه تعالى) فيكون من عطف العلَّة على العلة؛ لما علمت من أن قوله: (لرصانة) علةٌ مقدمةٌ على المعلول، ولا يصح تعلق جر في جر بعاملٍ واحدٍ.
(3)
روى أبو نعيم في "الحلية"(4/ 367)، والبيهقي في"الدلائل" (6/ 454) -واللفظ له- عن ربعي بن حِراش قال: أُتيت فقيل لي: إن أخاك قد مات، فجئت فوجدت أخي مسجى عليه ثوب، فأنا عند رأسه أستغفر له وأترحم عليه إذ كشف الثوب عن وجهه، فقال: السلام عليك، فقلت: وعليك، فقلنا: سبحان اللَّه! أبعد الموت؟! قال: بعد الموت، إني قدمت على اللَّه عز وجل بعدكم، فتُلقيت بروح وريحان وربٍّ غير غضبان، وكساني ثيابًا خضرًا من سندس. . . إلخ، ثم قال البيهقي:(هذا إسنادٌ صحيحٌ لا يشك حديثيٌّ في صحته)، وانظر "سبل الهدى والرشاد"(10/ 453).
(4)
قوله: (والخارق) أي: وخرج الخارق الذي لا تؤمن معارضته. اهـ "مدابغي"
وجوَّز قومٌ قلبَ الأعيان وإحالة الطباع به كصيرورة الإنسان حمارًا، ومنعه آخرون، قالوا: وإلَّا. . لم يكن فرقٌ بين النبي والساحر، ويردُّ بوضوح الفرق بينهما؛ فإنَّ قَلْبها عند التحدي لا يمكن معارضته؛ لاطِّراد العادة الإلهية بأن مدعي النبوة كاذبًا لا يظهر على يديه خارقٌ كذلك مطلقًا، وعند عدمه يمكن المعارضة بتعلم ذلك السحر، فظهر أن قيد اللتحدي لا بد منه، لكنه لا يشترط عند كل معجزة (1)؛ لأن أكثر معجزاته صلى الله عليه وسلم صدر من غير تحدٍّ، بل قيل: إنه لم يتحدَّ بغير القرآن وتمنِّي الموت، وإنما الشرط وقوعها ممن سبق منه دعوى التحدي، فتأمل ذلك؛ لتدفع به ما أطال به النقَّاش في "تفسيره" من إبطال اشتراط ذلك وتزييفه.
والخارقُ المكذِّب للمتحدي به (2)؛ كما وقع لمسيلمة اللعين أنه تفل في بئرٍ ليكثر ماؤها فغار، ولا يَرِد ما سيقع على يد الدجال من الخوارق العجيبة؛ لأنه مدَّعٍ للربوبية لا الرسالة، فالعقل يستقل بكذب دعواه، فلا يؤثر فيه ظهور تلك على يديه، بخلاف مدعي الرسالة؛ فإن العقل لا يستقل بكذبه، فلم يمكن ظهور خارقٍ على يديه.
ثم هذه الشروط جميعها موجودةٌ في القرآن، فكان معجزةً، بل هو أظهر وأعجب حتى من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؛ لأنه دعاهم إلى معارضته بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، ففروا إلى سفك دمائهم، وسبي حريمهم، وجَلائهم عن وطنهم، ولم يدَّعِ أحدٌ منهم القدرة على ذلك مع كونهم أهل البلاغة، وأرباب الفصاحة، ورؤساء البيان، والمتقدمين في اللَّسَن، فهذا أعجب مِن عجزِ مَنْ شاهد المسيح يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص؛ لأنهم لم يطمعوا فيه، ولا تعاطوا نحوه، وقريش كانوا يتعاطون الفصاحة والبلاغة، فعَجْزُهُم مع ذلك عن المعارضة، وفرارهم إلى ما ذُكِر .. دليلٌ قاطعٌ على نبوة المتحدي به، ومن ثَمَّ نادى عليهم صلى الله عليه وسلم بعجزهم قبل المعارضة بقوله عن اللَّه سبحانه وتعالى:{وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} الآيةَ، فلولا عِلْمه بأنه على بينةٍ من ربه،
(1) قوله: (لكنه لا يشترط. . . إلخ) لا حاجة إليه إلا إذا اشترط بالفعل، والمختار خلافه، فتكون أكثر معجزاته مقرونةً بالتحدي بالقوة لا بالفعل، فلا حاجة لهذا الاستدراك. اهـ "مدابغي"
(2)
أي: وخرج الخارق المكذب. . . إلخ، فهو معطوفٌ على قوله قبل قليل:(فخرج الخارق من غير تحدٍّ).
وأنه لا يقع فيما أخبر به خُلف، وإلَّا. . لم يأذن له عقله الذي هو أكمل العقول بالقطع في شيءٍ أنه لا يكون وهو يكون.
ثم وجوه إعجاز القرآن لا تنحصر:
فمنها: إيجازه وبلاغته، ومن ثَم لمَّا سمع أعرابيٌّ قوله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . . سجد، وقال:(سجدت لفصاحة هذا الكلام!)(1).
ولمَّا سمع الأصمعي من جارية خماسيّةٍ أو سداسيّةٍ فصاحةً (2)، فعجب منها. . فقالت:(أَوَ يُعدُّ هذا فصاحةً بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآيةَ؛! فجمع فيها بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبِشارتين)(3).
وقد قال بعض بطارقة الروم لما أسلم لعمر: (إن آية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} جمعت ما أُنزل، على عيسى عليه الصلاة والسلام من أحوال الدنيا والآخرة)(4).
ومنها: خروجه عن جنس كلام العرب نظمًا ونثرًا، وخُطبًا وشعرًا، ورجزًا وسجعًا، فلا يدخل في شيء منها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم؛ ومن ثَمَّ لم يهتدوا لمثله حتى يأتوا به.
ومنها: أن قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجُّه، بل لا يزال مع تكريره وترديده غضًّا طريًا، تتزايد حلاوته، وتتعاظم محبته، يُؤنَس به في الخلوات، ويُستراح بتلاوته من
(1) ذكر ذلك الإمام الصالحي رحمه اللَّه تعالى في "سبل الهدى والرشاد"(9/ 578)، والحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الإتقان في علوم القرآن"(2/ 813).
(2)
قوله: (من جارية خماسية أو سداسية) في "المصباح": قولهم: غلام خماسي ورباعي، معناه: طوله خمسة أشبار أو أربعة أشبار، قال الأزهري: وإنما يقال: خماسي أو رباعي فيمن يزداد طولًا، ويقال في الرقيق والوصائف: سداسي أيضًا، وفي الثوب: سباعي؛ أي: طوله سبعة أشبار. اهـ هامش (غ)
(3)
ذكر القصة الإمام الصالحي رحمه اللَّه تعالى في "سبل الهدى والرشاد"(9/ 578). وقوله: (فجمع فبها بين أمرين) وهما: أرضعيه وألقيه (نهيينِ) وهما: لا تخافي ولا تحزني، (وخبربن) وهما: أوحينا، و: فإذا خفت، (وبشارتين) وهما: إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين. اهـ "مدابغي"
(4)
ذكره الإمام القرطبي رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره"(12/ 295) مفصلًا، وفيه:(إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرًا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرًا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند اللَّه فأسلمت) ثم ذكر الآية.
شدائد الأزمات، ومن ثَمَّ وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه:"لا يَخلق على كثرة الردِّ، ولا تنقضي عِبَره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنتهِ الجن حين سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} "(1).
ومنها: ما فيه من الإخبار بما كان مما علموه ومما لم يعلموه، وشهادته على اليهود بأنهم لا يتمنون الموت، وعلى قريش بأنهم لا يأتون بمثل شيءٍ منه.
ومنها: اشتماله على علوم الأولين والآخرين، مع كون الآتي به أقام بينهم أربعين سنةً قبل تكلُّمه به أميًا لا يحسن نظم كتاب، ولا عقد حساب، ولا يتعلَّم سحرًا، ولا ينشد شعرًا، ولا يحفظ خبرًا، ولا يروي أثرًا، إلى أن اكرمه اللَّه سبحانه وتعالى بهذه المعجزة العظمى التي لم يأت بمثلها رسولٌ غيره، كيف وجميع كتبهم يمكن أدنى الفصحاء أن يأتي بمثلها؟! إذ لا إعجاز في لفظها.
ومن ثَمَّ صح عنه صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أُوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيت وحيًا يوحى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"(2)؛ وذلك لأن إكرامه صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزة (المستمرةِ) الدائمة (على تعاقب) أي: توالي (السنين) يستلزم بالضرورة كثرتهم؛ لمشاهدة أهل كل زمنٍ لها، فيحملهم ذلك على الإيمان به، بخلاف باقي معجزات الرسل؛ لانقطاعها بموتهم، وباقي معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه لولا تصديق القرآن لها. . لما آمن بها إلا قليلٌ؛ لانقطاع وجودها، وعدم إحساس الناس بها.
(و) المكرم (بالسُّنن) جمع سُنَّةٍ؛ وهي لغةً: الطريقة، واصطلاحًا: أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله.
ووجه إكرامه صلى الله عليه وسلم بها: أنها إنباءٌ عن وحيٍ أو إلهامٍ من اللَّه سبحانه وتعالى، أو اجتهاد حقًّ مطابقٍ للواقع، وما ينطق عن الهوى.
(1) أخرجه الترمذي (2906)، والدارمي في "سننه"(3374)، والبزار في "منسده"(836)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(30628) عن سيدنا علي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152) بنحوه عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(المستنيرة) أي: ذات النور المكني به عما تضمنته واشتملت عليه من هداية الضالين، وإيقاظ الغافلين.
ثم استنارتُها وإن ظهرت لكل أحدٍ إلا أنها لا تتم ولا تتضح كمالَ الاتضاح إلا (للمسترشدين) أي: طلاب الرشاد، وهو ضد الغي.
(المخصوصُ)(1) من بيز، سائر الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام (بجوامع الكلم) كما قال صلى الله عليه وسلم في خبر:"أُعطيت خمسًا لم يعطهُنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي"(2) وذكر منها: "وأوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا"(3) أي: أوتيت الكلم الجوامع؛ لقلة لفظها، وكثرة معانيها، وفي خبر "الصحيحين":"بعثت بجوامع الكلم"(4)، وفي خبر أحمد:"أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه"(5).
ولا يختص بالقرآن، خلافًا لمن زعمه، فقد جمعَ الأئمةُ -كابن السني، والقضاعي، وابن الصلاح، وآخرين- من كلامه المفرد الموجزِ البديعِ الذي لم يُسبَقْ إليه دواوينَ (6)، وفي "الشفا" منه ما يشفي العليل (7).
(1) قوله: (المخصوصُ) بالرفع نعتٌ ثالثٌ لـ (عبده) وقول ملا علي قاري: عطف على (المكرم). . سهوٌ. اهـ "مدابغي"
(2)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) عن سيدنا جابر رضي الله عنه، وليس فيه ما سيذكره المصنف رحمه اللَّه تعالى.
(3)
أخرجه بنحوه الضياء المقدسي في "المختارة"(115)، والبيهقي في "الشعب"(1367)، وعبد الرزاق في "المصنف"(10163) عن سيدنا عمر رضي الله عنه، دون ما سبق مما ذكره الشارح رحمه اللَّه تعالى.
(4)
البخاري (2977)، ومسلم (523/ 6) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
مسند الإمام أحمد (2/ 172) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(6)
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(1/ 56): (وقد جمع العلماء جموعًا من كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة، فصنف الحافظ أبو بكر ابن السني كتابًا سماه: "الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة"، وجمع القاضي أبو عبد اللَّه القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابًا سماه: "الشهاب في الحكم والآداب"، وصنف على منواله قومٌ آخرون، فزادوا على ما ذكره زيادةً كثيرةً، وأشار الخطابي في أول كتابه "غريب الحديث" إلى يسيرٍ من الأحاديث الجامعة، وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح مجلسًا سماه: "الأحاديث الكلية").
(7)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم (ص 115 - 124).
ومما ليس فيه:
1 -
"إنما الأعمال بالنيات" فإن تحته كنوزًا من العلم كما يأتي (1).
2 -
"الولد للفراش وللعاهر الحجر"(2).
3 -
"كل الصيد في جوف الفَرا"(3) وهو بفتح الفاء: حمار الوحش.
4 -
"الحرب خدعة"(4) أي: بتثليث أوله.
5 -
إياكم وخضراءَ الدمن؛ المرأة الحسناء في المنبت السوء" (5).
6 -
"ليس الخُبْر كالمعاينة"(6).
7 -
المجالس بالأمانة" (7).
8 -
"البلاء موكَّلٌ بالمنطق"(8) وزَعْمُ ابنِ الجوزي وضعَه مردودٌ (9)
(1) انظر ما سيأتي (ص 119) من شرح الحديث الأول.
(2)
أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه الرامهرمزي في "أمثال الحديث"(82)، والديلمي في "الفردوس"(8457) عن نصر بن عاصم الليثي رحمه اللَّه تعالى مرسلًا.
(4)
أخرجه البخاري (3030)، ومسلم (1739) عن سيدنا جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما. قال العسكري: أراد بالحديث أن المماكرة في الحرب أنفع من الطعن والضرب، وفي المثل السائر: إذا لم تغلب. . فاخلب؛ أي: فاخدع. قال النووي: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهدٍ وأمانٍ .. فلا يحل، ويكون الخداع بالتورية، واليمين، وإخلاف الوعد، فينبغي قدح الفكر وإعمال الرأي في الحرب حسب الاستطاعة؛ فإنه فيها أنفع من الشجاعة، وهذا الحديث عُدَّ من الحِكم والأمثال. اهـ "مدابغي"
(5)
أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(957)، والرامهرمزي في "أمثال الحديث"(84) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وانظر "تلخيص الحبير"(3/ 145).
(6)
أخرجه ابن حبان (6213)، والحاكم (2/ 321)، والإمام أحمد (1/ 215) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما.
(7)
أخرجه أبو داوود (4869)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 247)، والإمام أحمد (3/ 342) عن سيدنا جابر رضي الله عنه.
(8)
أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(227) عن سيدنا حذيفة رضي الله عنه.
(9)
انظر كتاب "الموضوعات"(2/ 277)، وذكره العلامة ابن عراق رحمه اللَّه تعالى في "تنزيه الشريعة"(2/ 296)، والحافظ السخاوي رحمه الله في "المقاصد الحسنة"(305) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما.
9 -
"الحياء خيرٌ كله"(1).
10 -
"الخيل في نواصيها الخير"(2).
11 -
"من غشنا. . فليس منا"(3).
12 -
"المستشار مؤتمن"(4).
13 -
"الندم توبة"(5).
14 -
"الدالُّ على الخير كفاعله"(6).
15 -
"كل معروفٍ صدقة"(7).
16 -
"حبك الشيء يعمي ويصم"(8) وليس بموضوع، بل حسن، خلافًا لمن وهم فيه (9).
17 -
"زر غبًا تزدد حبًا"(10).
(1) أخرجه مسلم (37/ 61)، وأبو داوود (4796)، والإمام أحمد (4/ 426) عن سيدنا عمران بن حصين رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (2849)، ومسلم (1871) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه مسلم (101)، والحاكم (2/ 9)، والإمام أحمد (2/ 417) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه أبو داوود (5128)، والترمذي (2822)، وابن ماجه (3745) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه ابن حبان (612)، وابن ماجه (4252)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 154) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.
(6)
أخرجه الضياء في "المختارة"(2193)، والترمذي (2670)، وأبو يعلى في "مسنده"(4296) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه.
(7)
أخرجه البخاري (6021) عن سيدنا جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، ومسلم (1005) عن سيدنا حذيفة رضي الله عنه.
(8)
أخرجه أبو داوود (5130)، والإمام أحمد (5/ 194)، والقضاعي في "الشهاب"(219) عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه.
(9)
قال الحافظ السخاوي رحمه اللَّه تعالى في "المقاصد الحسنة"(381): (وقد بالغ الصغاني فحكم عليه بالوضع، وكذا تعقبه العراقي، قال: إن ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب، إنما سُرق له حلي فأنكر عقله، وقد ضعفه غير واحد، ويكفينا سكوت أبي داوود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن).
(10)
أخرجه الحاكم (3/ 347)، والطبراني في "الكبير"(4/ 21) عن سيدنا حبيب بن مسلمة رضي الله عنه، والقضاعي في "الشهاب" (629) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. وقوله:(زر غبًا) أي: وقتًا بعد وقتٍ.
18 -
"من يشادَّ هذا الدين .. غلبه"(1).
19 -
"القناعة مالٌ لا ينفد، وكنزٌ لا يفنى"(2).
20 -
"الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودُّد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم"(3).
21 -
"النساء حبائل الشيطان"(4).
22 -
"حسن العهد من الإيمان"(5).
23 -
"منهومان لا يشبعان: طالب علمٍ وطالب دنيا"(6).
24 -
"اليمين حنثٌ أو ندم"(7).
25 -
"جفَّ القلم بما أنت لاقٍ"(8).
(وسماحة الدين) كما قال صلى الله عليه وسلم: " بُعثت بالحنيفية السمحة" أي: السهلة، رواه الطبراني في "الكبير"، وكذا أحمد في "مسنده" وزاد:"ولم أُبعث بالرهبانية والبدعة"(9).
(1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"(1179)، والحاكم (1/ 312) عن سيدنا بريدة رضي الله عنه. وفي النسخ كلها إلا (غ):(ومن شاد) وهو عند البخاري (39) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه القضاعي في "الشهاب"(63) عن سيدنا أنس رضي الله عنه، والطبراني في "الأوسط"(6918)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 191) بدون:"وكنز لا يفنى"، وأخرجه اليهقي في "الزهد" (104) عن سيدنا جابر رضي الله عنه بلفظ:"القناعة كنز لا يفنى" وقال: (هذا إسناد فيه ضعف).
(3)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(6740)، والبيهقي في "الشعب"(6148)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(57/ 179) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه القضاعي في "الشهاب"(55)، وذكره الديلمي في "الفردوس"(3665) عن سيدنا زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(5)
أخرجه الحاكم (1/ 15 - 16)، والطبراني في "الكبير"(23/ 14)، والبيهقي في "الشعب"(8701) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
(6)
أخرجه الحاكم (1/ 92)، والبيهقي في "الشعب"(9798)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(41/ 286) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(7)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(5587) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.
(8)
أخرجه البخاري (5076)، والنسائي (6/ 59) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(9)
المعجم الكبير (8/ 222)، ومسند الإمام أحمد (5/ 266) عن سيدنا أبي أمامة رضي الله عنه.
ورُويا أيضًا أنه قيل له: يا رسول اللَّه؛ أيُّ الأديان أحبُّ إلى اللَّه؟ قال: "الحنيفية السمحة"(1).
وروى أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس؛ إن دين اللَّه يسرٌ" قالها ثلاثًا (2)، وأنه قال صلى الله عليه وسلم:"خير دينكم أيسره" قاله ثلاثًا (3)، وأنه قال لمَّا نظرت عائشة رضي الله عنها إلى لعب الحبشة:"لتعلم يهودُ أن في ديننا فسحةً، إني أُرسلت بحنيفية سمحة"(4).
وروى عبد الرزاق: "أحب الأديان إلى اللَّه الحنيفية السمحة" قيل: وما هي الحنيفية السمحة؟ قال: "الإسلام الواسع"(5).
وصح عن أُبيٍّ رضي اللَّه تعالى عنه: أقرأني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إن الدين عند اللَّه الحنيفية السمحة، لا اليهودية، ولا النصرانية)(6) وهذا مما نُسخ لفظه وبقي معناه؛ لحديث البخاري (7): "الدين يسر"(8) فلا أسمح من دينه صلى الله عليه وسلم كما يفيد ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم} أي: كتعين قرض الجلد إذا أصابه بولٌ، وقتل النفس في التوبة، والقَوَد في القتل (9)، ولا تجزئ الدية، وكان من أذنب منهم. . أصبح ذنبه مكتوبًا على بابه، فيقام عليه حدُّه (10).
(1) مسند الإمام أحمد (1/ 236)، والمعجم الكبير (11/ 227) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 69)، وأبو يعلى في "مسنده"(6863) عن سيدنا عروة الفُقَيمي رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(341)، والإمام أحمد (5/ 32) عن سيدنا محجن الأسلمي رضي الله عنه.
(4)
أخرجه أحمد (6/ 116) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
(5)
مصنف عبد الرزاق (238) عن محمد بن واسع رحمه اللَّه تعالى عن رجلٍ.
(6)
أخرجه الحاكم (2/ 224)، والترمذي (3793)، وأحمد (5/ 131) عن سيدنا أبي بن كعب رضي الله عنه.
(7)
قوله: (لحديث البخاري) باللام في أكثر النسخ، وهو يتعلق بقوله:(بقي) على أنه علة له؛ أي: فبقي معناه لحديث البخاري: "الدين يسر" اهـ "مدابغي"
(8)
أخرجه البخاري (39) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(9)
القَوَد: القصاص؛ وهو: قتل القاتل بالمقتول.
(10)
أخرج الإمام ابن جرير رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره"(7849) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: =
ولمَّا قرأ الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} . . . إلخ. . أجاب اللَّه تعالى دعاءهم بقوله: (وقد فعلت) رواه مسلم (1).
(صلوات اللَّه وسلامه عليه) مر معناهما (2)، وأتى بالصلاة بعد الحمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بحمد اللَّه والصلاة عليَّ. . فهو أبتر ممحوقٌ من كل بركة"(3) وسنده ضعيفٌ، لكنه في الفضائل، وهي يعمل فيها بالضعيف.
وفي حديث: "من صلى على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في كتابٍ. . صلَّت عليه الملائكة غدوةً ورواحًا ما دام اسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك الكتاب"(4)، وقد نازع ابن القيم في رفعه، وقال:(الأشبه: أنه من كلام جعفر بن محمد لا مرفوعًا)(5).
(وعلى سائر) أي: باقي، من (السؤر) بالهمز: بقية نحو الماء، ويأتي -خلافًا للحريري- بمعنى الجميع (6)، من سور المدينة؛ لأنه جامعٌ محيطٌ بها.
= (كانت بنو إسرائيْل إذا أذنبوا. . أصبح مكتوبًا على بابه الذنب وكفارته، فأُعطينا خيرًا من ذلك هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}).
(1)
أخرجه مسلم (126) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما.
(2)
انظر ما تقدم (ص 76).
(3)
قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "نتائج الأفكار"(3/ 281 - 282): (أخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي نزيل بغداد من رواية يونس بن يزيد عن الزهري)، ثم قال:(وإسماعيل ضعيفٌ جدًا، وقد خُولف في وصله عن يونس، وإنما رواه يونس عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا أو معضلًا).
(4)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1856)، والخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث"(ص 36)، وابن بشكوال في "القربة إلى رب العالمين"(42)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(6/ 80 - 81) بنحوه عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر "الدر المنضود" للشارح رحمه اللَّه تعالى (ص 255 - 256).
(5)
انظر "جلاء الأفهام"(ص 90). وقوله: (الأشبه) أي: الأقرب إلى الصحة والصواب، وقوله:(لا مرفوعًا) كذا في النسخ بنصب (مرفوعًا) وصوابه: الرقع، وغاية ما يتكلف له أن يقال: إن (لا) عاملة عمل (ليس) واسمها محذوف؛ أي: ليس هو مرفوعًا، أو إنه خبر (يكون) المحذوفة؛ أي: لأنه يكون مرفوعًا. اهـ "مدابغي"
(6)
انظر "درة الغواص في أوهام الخواص"(ص 9 - 10)، وكذلك فعل ابن الأثير في "النهاية" (2/ 327) فقد قال:(والناس يستعملونه كثيرًا في معنى الجميع، وليس بصحيح)، وكذا صاحب "القاموس" في مادة =
(النبيين والمرسلين) مرَّ حدهما وما بينهما من العموم والخصوص (1).
(وآل) أصله: أهل؛ لتصغيره على (أُهيل)، أُبدلت هاؤه همزة، ثم هي ألفًا، وقيل:(أَوَل)، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، والأصح: جواز إضافته إلى الضمير.
(كلٍّ) أي: كل واحدٍ من النبيين، فحذف المضاف إليه؛ لدلالة السياق عليه.
وآل النبي صلى الله عليه وسلم عند الإمام الشافعي: مؤمنو بني هاشم والمطلب، كما دلَّ عليه مجموع أحاديث صحيحة، لكن بالنسبة إلى الزكاة والفيء دون مقام الدعاء، ومن ثم اختار الأزهري وغيره من المحققين أنهم هنا كل مؤمنٍ تقي؛ لحديثٍ فيه (2).
وآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وغيرهما.
(وسائر الصالحين) وهم القائمون بحقوق اللَّه وحقوق العباد، فدخل الصحابة كلهم؛ لثبوت وصف الصلاح والعدالة لجميعهم، ودخل غيرهم ممَّن اتَّصف بذلك، جعلنا اللَّه تعالى منهم، آمين (3).
* * *
= (سار)، وقد صحيح الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى جواز كونه بمعنى الجميع. انظر "تهذيب الأسماء واللغات"(3/ ق 1/ 140 - 141).
(1)
انظر ما تقدم (ص 75 - 76).
(2)
أخرج الطبراني في "الأوسط"(3356) عن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَنْ آل محمد؟ فقال: "كل تقي"، قال عنه الإمام الهيثمي رحمه اللَّه تعالى في "المجمع" (10/ 272):(فيه نوح بن أبي مريم، وهو ضعيف)، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح ":(11/ 161): (سنده واهٍ جدًا)، وذكره الديلمي في "الفردوس"(1692).
(3)
فائدة: يجب على النبي أن يخبر بنبوته على الراجح، وأما الرسول. . فيجب عليه أن يخبر برسالته اتفاقًا، بخلاف الولي فإنه لا يطلب منه إظهار ولايته فضلًا عن الوجوب أو الندب. اهـ هامش (ج)