الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رِسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا. . فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ. . فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ. . فَبِقَلْبِه وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ"(1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه) تعالى (عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى) أي: علم، إذ لا يشترط في الوجوب الآتي رؤية البصر، بل المدار على العلم أبصر أم لا، أو (رأى) مستعملة في حقيقتها من الإبصار، ويكون حكم المعلوم غير المبصر مقيسًا على حكم المبصر بجامع أن القصدَ دفعُ مفسدة المنكر مطلقًا.
نعم؛ مَن علمَ اختلاءَ جماعةٍ بمنكرٍ، فإن كان نحو قتلٍ أو زنًا ممَّا لا يستدرك. . لزمه الهجوم لإزالته وإن كان فيه تسوُّر جدارٍ، وإن كان غير ذلك. . فلا؛ لأنه تجسُّسٌ وقد نُهينا عنه.
(منكم) أي: معشر المكلفين القادرين من المسلمين (2)، فهو خطابٌ لجميع الأمة حاضرها حينئذٍ بالمشافهة، وغائبها بطريق التبع، أو لأن حُكمه صلى الله عليه وسلم على الواحد حكمٌ على الجماعة كما قال.
(1) صحيح مسلم (49).
(2)
قوله: (من المسلمين) الأَولى: إسقاطه، فإن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، معاقبون على تركها. اهـ "مدابغي"
(منكرًا) وهو: ترك واجب، أو فعل حرام (1)، صغيرةً كان أو كبيرةً، خلافًا لما قد يتوهم من كلام الإمام الآتي.
(فليغيره) وجوبًا بالشرع لا بالعقل -خلافًا للمعتزلة- على الكفاية إن علم به أكثرُ من واحدٍ، وإلَّا. . فهو فرض عينٍ، وذلك للكتاب والسنة والإجماع أيضًا (2)، ومخالفةُ بعض الرافضة فيه لا يعتدُّ بها قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والآيات في هذا كثيرة.
وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليعمَّنَّكم اللَّه بعذابٍ من عنده"(3).
وفي حديثٍ آخر: "إن اللَّه لا يُعذِّب العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا عُمل المنكر جهارًا. . استحقوا العقوبة كلهم"(4) والأحاديث في ذلك كثيرةٌ أيضًا.
(بيده) إن توقَّف تغييره عليها؛ ككسر أواني الخمر وآلات اللهو بشرطه الآتي، وكمنع ظالمٍ من نحو ضربٍ.
(فإن لم يستطع) الإنكار بيده بأن خشي إلحاق ضررٍ ببدنه أو أخذ مالٍ له، وليس من عدم الاستطاعة مجرد الهيبة، وعلى ذلك حمل خبر الترمذي وغيره:"ألَا لا يمنعنَّ رجلًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه"(5) وسيأتي لذلك مزيد.
(1) قوله: (أو فعل حرام) وإن لم يأثم فاعله، كأن رأى صبيًا يزني بصبيةٍ أو يلوط بصبيٍّ؛ أي: يقع منه صورة الزنا واللواط، فيؤمر بالكف نهيًا عن المنكر وإن كان الفاعل لا يتعلَّق به تكليف. قال الأستاذ البكري في "شرح العباب" في شروط الصلاة: وظاهر أن هذا في صبي له نوع تمييز، وأن المجنون مثله. اهـ، فلا يشترط في النهي عن المنكر أن يكون المتلبس به عاصيًا، فيشتمل ما مر، ونحوه كقتال الباغي المتأول، وقتل الصائل من صبي أو مجنون إذا لم يمكن دفعهما إلا بالقتل، فتأمل. اهـ "مدابغي"
(2)
سقطت كلمة: (والسنة) من النسخ جميعها إلا من (غ).
(3)
أخرجه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(330). والمعنى: واللَّهِ، لا بد من حصول أحد هذين الأمرين إما أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر، وإما أن يعمكم اللَّه تعالى بعذاب من عنده، وفي رواية:"أو ليسلطنَّ اللَّه تعالى عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم" اهـ هامش (غ)
(4)
أخرجه الإمام أحمد (4/ 192)، والطبراني في "الكبير"(17/ 138) بنحوه عن سيدنا العرس بن عميرة رضي الله عنه.
(5)
سنن الترمذي (2191) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(فبلسانه) أي: بقوله المرتجَى نفعُهُ (1) من نحو صياحٍ، واستغاثةٍ، وأمر من يفعل ذلك، وتوبيخٍ، وتذكيرٍ باللَّه تعالى وأليم عقابه، مع لينٍ أو إغلاظٍ حسب ما يكون أنفع، وقد يبلغ بالرفق والسياسة ما لا يبلغ بالسيف والرياسة (2).
فعلم أنه يجب التغيير بنفسه أو بإعانة غيره إن عجز، سواء أكان الآمر ممتثلًا ما أمر به أو نهى عنه أم لا.
نعم؛ صح (3): (أنه صلى الله عليه وسلم رأى في النار قومًا يدورون كما تدور الرحى، فسأل جبريل عنهم فقال: كانوا يأمرون بالمعروف ولا يفعلونه، وينهون عن المنكر ويفعلونه)(4).
وصح أيضًا: "يُلقى العالم في النار فتندلق أقتابه، فيقال: لِمَ ذلك؟ فيقول: كنتُ آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله"(5).
وسواء أعلِمَ عادةً أن كلامه لا يؤثر أم لا؛ على ما في "الروضة" للمصنف (6)، لكن خالفه كثيرون فقالوا أخذًا من أحاديث مصرحةٍ بذلك: إذا علم ذلك. . سقط الوجوب عنه، ونقل الإمام عليه الإجماع، لكنة ليس في محله، بل ظاهر كلام المصنف: أن الإجماع على الأول (7)؛ فإنه نقله عن العلماء، وهذه الصيغة تفيد
(1) وسيأتي من كلامه [قريبًا، انظر هامش 7] ما يرد هذا القول، وأنه لا فرق بين أن يرجى نفعه أو لا. اهـ "مدابغي".
(2)
وحكى التاج السبكي عن أبيه: أنه كان يجتمع ببعض الأمراء وكان الأمير يلازم الحرير، فقال: يا أمير؛ بكم الذِّراع من هذا؟ فقال: بدينار، فقال: في الصوف ما يساوي كل ذراع منه دنانير، ومماليكك وخدمك يشاركونك في لبس الحرير، ولا يليق بشهامتك أن يساووك، فاعدل إلى الصوف؛ فإنه أعلى وأغلى مع ما فيه من السلامة من العقاب الأخروي، فاستحن كلامه، ولو قال له ابتداءً: هذا حرام. . لم يفد. اهـ "مدابغي"
(3)
قوله: (نعم؛ صح. . . إلخ) قصد بهذا الاستدراكِ دفْعَ ما يتوهم مما قبله أنه لا إثم على الآمر الذي لم يمتثل ما أمر به، والناهي الذي لم ينته عما نهى عنه، ولو قال: ولا يعارض هدا العموم ما صح. . . إلخ؛ لأن تعذيبهم إنما هو على فعل المنكر لا على إنكاره، كما عبَّر به غيره من الشُّراح. . لكان أولى. اهـ "مدابغي"
(4)
أخرج ابن حبان في "صحيحه"(53)، وأبو يعلى (3992) عن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك؛ يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟! ".
(5)
أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989) عن سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما بنحوه.
والأقتاب: الأمعاء والأحشاء.
(6)
روضة الطالبين (10/ 219).
(7)
اعتمده الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة"(9/ 217) حيث قال: (وإن ظن أنه لا يمتثل كما في "الروضة" وإن نوزع بنقل الإجماع على خلافه).
الإجماع أو الأكثر منهم، وقد صرح بعض أئمة الحنابلة بنقله عن أكثر العلماء.
وسواءٌ أكان الفاعل أباه أم غيره، وسواءٌ هلا أكان الآمر والناهي واليًا أم غيره إجماعًا؛ أخذًا بعموم (مَن) الشامل لذلك جميعه.
نعم؛ إن خشي من عدم استئذان الإمام مفسدةً راجحةً أو مساويةً من انحرافه عليه بأنه افتأت عليه. . لم يبعد وجوب استئذانه حينئذٍ.
ويشترط لجوازه ألَّا يؤدي إلى شهر سلاح، ومن ثم قال إمام الحرمين:(ويسوغ لآحاد الرعية أن يصدَّ مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتالٍ وشهر سلاحٍ، فإن انتهى إلى ذلك. . رُبِط بالسلطان، قال: وإذا جار والي الوقت وظهر ظلمه ولم ينزجر حين زُجر عن سوء صنيعه بالقول. . فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه. انتهى، قال المصنف: وما ذكره من خلعه غريبٌ، ومع هذا فهو محمولٌ على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدةٍ أعظم منه)(1).
ولوجوبه تارةً وجوازه أخرى: ألَّا يخاف على نَفْسٍ (2)، أو نحو عضوٍ، أو مالٍ له أو لغيره وإن قلَّ مفسدةً فوق مفسدة المنكر الواقع.
وإيجابُ بعض العلماء الإنكار بكل حالٍ وإن قُتل المنكِرُ ونيل منه. . غلوٌّ مخالفٌ لظاهر هذا الحديث وغيره، ولا حجة لهم في خبر:"يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقول اللَّه تعالى له: ما منعك إذا رأيتَ كذا وكذا أن تنكره؟ فيقول: يا رب؛ خشيتُ الناس، فيقول اللَّه تعالى: أنا كنت أحق أن تخشى"(3)؛ لأن المراد بالخشية فيه: مجرد رعايتهم مع القدرة؛ إذ لو وجب الإنكار مطلقًا. . لم يتأتَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لم يستطع"، وإذا جاز التلفظ بالكفر عند الخوف والإكراه كما في الآية. . فليجز ترك الإنكار لذلك بالأَولى؛ لأن الترك دون الفعل في القبح.
وألَّا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد فيما هو فيه عنادًا (4).
(1) انظر "شرح صحيح مسلم"(2/ 25).
(2)
أي: يشترط ألَّا يخاف على نفس. . . إلخ.
(3)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 30)، وابن ماجه (4008) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
(4)
قوله: (وألا يغلب) أي: ويشترط ألا يغلب.
ثم إن كان المأمور به أو المنهي عنه ظاهرًا كالصلاة والشرب. . لم يختصَّ بالعلماء، وإلَّا. . اختص بهم أو بمن علمه منهم، وأن يكون المُنكَر مجمعًا عليه، أو يعتقد فاعله تحريمه، أو حله وضعفت شبهته جدًا كنكاح المتعة؛ أي: ولا يعلم ذلك إلا بإخباره عن نفسه فيما يظهر، فمن رأى شخصًا يعلم أن مذهبه شافعي يشرب نبيذًا. . لم يجز له أن ينكر عليه؛ لاحتمال أنه قلَّد أبا حنيفة في شربه، ويحتمل خلافه تعويلًا على ظاهر حاله وأصل بقائه على مذهبه المعهود له قبل ذلك.
ويؤيد الأول عموم قول المصنف وغيره: (لا إنكار في المختلف فيه؛ لأن كل مجتهدٍ مصيبٌ على المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى الأصح أن المصيب واحدٌ، والمخطئ غير متعينٍ لنا والإثم موضوعٌ عنه)(1).
وعبارة القرطبي: (ما صار إليه إمامٌ وله وجهٌ ما في الشرع لا يجوز لمن رأى خلافه أن ينكره، وهذا لا يختلف فيه) اهـ (2)
وإنما لم ينكر على الحنفي ذلك بالقول مع حدِّنا له به؛ لأن حده ليس من باب إنكار المنكر، بل لأن الحاكم يلزمه الحكم بما يراه، وأيضًا فأدلة تحليل النبيذ واهيةٌ جدًا، بخلاف نكاحه بلا وليٍّ، ومن ثم لم نحدَّه به، وهذا أَولى من جوابٍ لابن عبد السلام عن ذلك كما بينته في "شرح الإرشاد".
والأَوْلى أمرُ أو نهيُ فاعلِ مختلَفٍ فيه يَرَى إباحته برفقٍ وتلطُّفٍ على وجه النصيحة؛ لأن الخروج من الخلاف سنة اتفاقًا إن لم يقع في خلافٍ آخر، أو يترك سنةً ثابتةً.
فعلم أن الأمر بالمعروف في المستحب مستحبٌّ، لكن بشرط كونه برفقٍ على وجه الإرشاد والنُّصح.
وعلى الإمام أن ينصب محتسبًا يأمر وينهى وإن لم يختص ذلك به، فيتعيَّن عليه ذلك دون غيره بالولاية، سواء أتمحَّض حقًا للَّه تعالى عامًا -كإقامة الجمعة بشروطه،
(1) انظر "شرح صحيح مسلم"(2/ 23).
(2)
انظر "المفهم"(1/ 232 - 233).
وليس له على الأصح حمل الناس على مذهبه مجتهدًا كان أو مقلدًا، فلم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا يُنكِر أحدٌ على غيره مجتَهَدًا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصًا أو إجماعًا أو قياسًا جليًا، ويأمر الناس حتمًا كما في "الروضة" وإن خالف فيه كثيرون بصلاة نحو العيد (1) - أم غير عامٍّ، فمن فوَّت صلاةً وقال: نسيانًا. . أمره بالمراقبة، ولا يعترض على من أخَّرها ما دام من الوقت ما يسعها جميعها، وينهى أئمة المساجد المطروقة عن التطويل، وينهى أيضًا عن تغيير هيئة عبادة، كجهرٍ بسريةٍ أو عكسه، وعن تصدُّرٍ لتدريسٍ أو وعظٍ بلا أهلية، والقضاة عن تعطيل الأحكام، والخونة عن معاملة النساء.
أم كان محض حق آدمي عامًا فيأمر أهل المكنة إن تعذَّر بيت المال بنحو بناء سورٍ احتيج إليه، وإعانة أبناء السبيل المجتازين.
أو خاصًا فينهى مدينًا موسرًا عن مطله، وجارًا عن تعدٍّ في جدار جاره، ويأمر بالحق بطلب مستحقه ولا ضرب له ولا حبس.
أم اجتمع فيه الحقَّانِ فيأمر بإنكاح الأكفاء، وإيفاء العُدد، والرفق بالمماليك، وينهى عن كشف عورته بحمامٍ ويأمر بسترها، ومَنْ رآه واقفًا مع امرأةٍ بشارعٍ غير مطروقٍ بالذهاب عنها، ويقول له: إن كانت أجنبيةً. . فاتقِ اللَّه تعالى، وإن كانت محرمك. . فصُنْها عن مواقف التُّهَم.
ويرفق بجاهلٍ أو ظالمٍ خاف من أمره أو نهيه، ويحرم التجسُّس والبحث واقتحام الدور بالظنون ما لم يغلب على ظنه بنحو إخبار ثقةٍ خلوةَ جماعةٍ أو واحدٍ بمنكرٍ لا يتدارك، كقتلٍ أو زنًا، فلا يحرم، بل يلزم ذلك مَنْ أمِن على نفسه وماله.
واعلم: أن فرض الكفاية إذا لم يقم به أحدٌ. . أثم كل من علم به وتمكَّن منه، وكذا من جهله وكان يمكنه البحث عنه لقربه منه فتركه؛ إذ يلزمه البحث بما يليق به، ويختلف بكبر البلد وصغرها.
وإذا قام الكل بفرض الكفاية ولو مرتبًا. . كان كلٌّ منهم مثابا عليه، فلا مزية
(1) روضة الطالبين (10/ 217).
لبعضهم على بعض، والقيام به مع عدم تعيُّنه أفضل منه مع تعيُّنه.
نعم؛ القيام بفرض عينٍ لذاته أفضل منه بفرض الكفاية ما لم يتعيَّن على خلافٍ فيه، ولا ينافي ما تقرر من الوجوب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآيةَ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سُئِل عنها فقال: "ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، ورأيت أمرًا لا يد لك به. . فعليك بنفسك. . ." الحديث (1).
ففيه تصريحٌ بأن الآية محمولةٌ على ما إذا عجز المنكِر عن إزالة المنكَر، ولا شك في سقوط الوجوب حينئذٍ، على أن معناها عند المحققين: إنكم إذا فعلتم ما كُلِّفتم به. . لا يضركم تقصير غيركم، نحو:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، ومما كُلِّفنا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثلهما المخاطب. . فلا عتب حينئذ؛ لأن الواجب الأمر والنهي لا القبول.
(فإن لم يستطع) الإنكار بلسانه. . (فبقلبه)(2) ينكر بأن يكره ذلك به، ويعزم أنه لو قدر عليه بقولٍ أو فعلٍ. . أزاله؛ لأنه يجب كراهة المعصية، فالراضي بها شريكٌ لفاعلها، فإن كان رضاه بها لاستحلالها. . كفر إن أُجمع عليها وعُلمت من الدين بالضرورة، أو لغلبة الهوى والشهوة. . فسق ولم يكفر، وهذا واجبٌ عينًا على كل أحد، لقدرة كل أحدٍ عليه، بخلاف اللَّذَيْنِ قبله.
فعلم من الحديث وما قررته فيه أنه يجب تغيير المنكر بكل طريقٍ أمكنه، فلا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته بيده، ولا كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان.
ويرفق في التغيير بمن يخاف شره وبالجاهل، فإن ذلك أدعى إلى حصول المقصود، ومن ثم سُنَّ أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل، وقد قال
(1) أخرجه ابن حبان (385)، وأبو داوود (4341)، والترمذي (3058) عن سيدنا أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. وشرائط الأمر بالمعروف ثلاثة: صحة النية من إعلاء كلمة اللَّه وإعلاء كلمة الدين، والثاني: معرفة الحجة، والثالث: الصبر على ما يصيبه من المكروه. اهـ هامش (غ)
(2)
تنبيه: ظاهر كلامهم أن الأمر والنهي بالقلب من فروض الكفاية، وفيه نظرٌ ظاهر، بل الوجه: أنه فرض عين؛ لأن المراد منهما الكراهة والإنكار به، وهذا لا يتصور قيه أن يكون إلا فرض عين، فتأمله، فإنه مهم نفيس. اهـ هامش (غ)
الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: (من وعظ أخاه سرًا. . فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانيةً. . فقد فضحه وشانه)(1).
ويستعين عليه بغيره إن لم يخف فتنةً من إظهار سلاح وحرب ولم يمكنه الاستقلال، فإن عجز. . رفعه للوالي، فإن عجز. . أنكره بقلبه، ومن قدر على إراقة خمرٍ غير محترمةٍ لمسلمٍ. . لزمه إراقتها، وكذا كل نبيذٍ مسكرٍ، ولا يجوز كسر الإناء إلا إذا لم تمكنِ الإراقة إلا به، أو ضاق الإناء وخاف إدراك الفسقة ومنعه أو ضاع به وقته وتعطَّل شغله، وللولاة كسرها مطلقًا زجرًا وتأديبًا، ولا يجوز إراقة خمر ذميٍّ لم يظهر شربها ولا بيعها بين أظهرنا، بل يجب ردها عليه ولو بمؤنة، وكذا المحترمة لمسلم، وهي التي عصرت بقصد الخَلِّيَّة أو لا مع قصدٍ على الأصح.
ويجب كسر نحو آلة لهوٍ لكن بتفصيلها لتعود كما كانت قبل الصنعة، فإن رضَّها أو أحرقها. . ضمن ما فوق المشروع إلا إن تعذَّر المشروع لنحو دفع مَنْ بيده أو غيره مما مر في إناء الخمر، وإذا أمكن المحتسب إلزام مالكه. . كسره، فينبغي أن يأمره به ولا يباشره، لعسر الوقوف على المشروع.
وللصبي إزالة المنكر ويثاب عليه كالبالغ، وليس ذلك لكافرٍ، وللولاة كسره مطلقًا زجرًا.
(وذلك) أي: الإنكار بالقلب للعجز عنه بغيره (أضعف الإيمان) أي: خصاله، فالمراد به: الإسلام أو آثاره ومقتضياته وثمراته، فالمراد به: حقيقته من التصديق بما مر في حديث جبريل (2)، وفي رواية:"وهو أضعف الإيمان، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(3)، وكون ذلك أضعفه: أنه لم يبق وراء هذه المرتبة مرتبةٌ أخرى، ومنه يُستفاد: أن عدم إنكار القلب للمسلم دليلٌ على ذهاب الإيمان منه.
ومن ثم قال ابن مسعود: (هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر)(4) أي:
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(9/ 140).
(2)
انظر ما تقدم (ص 150 - 151) من شرح الحديث الثاني.
(3)
عند مسلم (50) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(9/ 107).
لأن ذلك فرضٌ لا يسقط عن أحدٍ بحال، والرضا به من أقبح المحرمات، أو أن ذلك أقل ثمرة.
قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (وقد ضُيِّع الإنكار من أزمان متطاولة، ولم يبقَ منه في هذه الأزمنة إلا رسومٌ قليلةٌ جدًا، وهو بابٌ عظيمٌ به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث. . عمَّ العقابُ الصالحَ والطالحَ، وإذا لم يأخذوا على أيدي الظالم. . يوشك أن يعمهم اللَّه تعالى بعقابه -أي: كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيِّروا فلا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم اللَّه بعقاب" رواه أبو داوود (1)، وفي روايةٍ:"إلا أصابهم اللَّه بعقابٍ قبل أن يموتوا"(2)، وفي أخرى:"إلا عمهم اللَّه بعقاب"(3)، وفي أخرى:"فإذا فعلوا ذلك -أي: عدم الإنكار مع القدرة عليه-. . عذب الخاصة والعامة"(4) - {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
فينبغي لطالب الآخرة والساعي في رضا اللَّه تعالى أن يعتني بهذا الباب؛ فإن نفعه عظيم، ولا يهاب من ينكر عليه لارتفاع مرتبته؛ فإنه تعالى قال:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} والأجر على قدر النصب، ولا يحابي نحو صديقٍ؛ فإن حقَّ الصديق أن ينصح صديقه ويهديه إلى مصالح آخرته، ويُنقذه من مضارِّها، ويسعى في عمارة آخرته وإن نقصت دنياه، بخلاف العدو، فإنه الذي يسعى في فساد الآخرة وإن حصل به صورة نفعٍ دنيوي؛ ولذا كانت الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم أولياء المؤمنين، وإبليس لعنه اللَّه تعالى عدوهم.
ومما يتساهل فيه الناس أنهم يرون من يبيع المعيب فلا يبينونه للمشتري ولا ينكرونه على البائع، وهم مسؤولون عنه، والدين النصيحة، ومن لم ينصح. . فقد غشَّ، وقد نصَّ العلماء على أنه يجب على مَنْ علم ذلك أن ينكر على البائع ويعرِّف المشتري.
(1) سنن أبي داوود (4338) عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه.
(2)
سنن أبي داوود (4339) عن سيدنا جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه.
(3)
أخرجها الإمام أحمد (4/ 364)، وابن ماجه (4009) عن سيدنا جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه.
(4)
أخرجها الإمام أحمد (4/ 192)، وابن المبارك في "الزهد"(1352) عن سيدنا عدي بن عميرة رضي الله عنه.
وإنما أطلت الكلام في هذا الباب؛ لعظم فائدته، وكثرة الحاجة إليه، وكونه من أعظم قواعد الإسلام) انتهى ملخصًا (1).
وهو حسنٌ نافعٌ، لكن أين الآن من يقبل النصيحة وقد اتُّبِع الهوى، وغلب الشح، وأُعجب كل ذي رأيٍ برأيه؟! فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، اللهم، وإذا أردت بالناس فتنةً. . فاقبضنا إليك غير مفتونين، واحفظ علينا الإيمان إلى أن نلقاك وأنت راضٍ عنا بكرمك، إنك رؤوف رحيم، وهَّاب كريم.
(رواه مسلم) بسنده عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد مروان، فقام إليه رجلٌ فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا. . فقد قضى ما عليه، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"من رأى منكم منكرًا. . فليغيره بيده. . ." الحديث.
وبه يعلم بطلان ما نقل: أن عثمان أو عمر فعل ذلك، لتصريحه بحضرة جمعٍ من الصحابة بأنه منكر، المستلزمِ أنه لم يعمل به أحدٌ قبل مروان، وإلَّا لو سبقه إليه أحد ذينك الإمامينِ. . لم يسمِّه أبو سعيد منكرًا، ومن ثم حكى بعضهم الإجماع على تقديم الصلاة على الخطبة يوم العيد، ولم يلتفت إلى خلاف بني أمية بعد إجماع الخلفاء والصدر الأول.
وإنما تأخر عن تغييره حتى أنكره ذلك الرجل، لاحتمال أنه لم يحضر أول ما شرع مروان في أسباب تقديم الخطبة، ثم دخل وهما في الكلام، أو أنه كان حاضرًا، لكنه خاف على نحو نفسه أو غيره فتنةً لو أنكر، ولم يخف ذلك الرجل لنحو قوة عشيرته أو خاف وخاطر، وذلك جائزٌ، بل مندوبٌ، أو أن أبا سعيدٍ همَّ بالإنكار فبدره ذلك الرجل فعضده أبو سعيد.
ولا تعارض روايةَ مسلم تلك روايتُه كالبخاري: أن أبا سعيد هو الذي أخذ بيد مروان حين رآه يصعد المنبر وكانا جاءا معًا، فردَّ عليه مروان بمثل ما ردَّ هنا على
(1) انظر "شرح صحيح مسلم"(2/ 24 - 26).
الرجل (1)؛ لاحتمال أنهما قضيتان، إحداهما لأبي سعيد، والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد.
وأقولُ: سلَّمنا أن القضية واحدةٌ، لكنه يحتمل أن أبا سعيد لمَّا أخذ بيد مروان وردَّ عليه. . قام إليه ذلك الرجل وعضده بقوله: الصلاة قبل الخطبة، فرد عليه مروان بمثل ما ردَّ به على أبي سعيد، فعضده أبو سعيد ثانيًا بسياقه الحديث.
قال القرطبي بعد أن ذكر نحو ما تقرر في قضية مروان: (فيه أن سنن الإسلام لا يجوز تغيير شيءٍ منها ولا من ترتيبها، وأن ذلك منكرٌ يجب تغييره بإنكاره ولو على الملوك إذا قدر عليه ولم يَدْعُ إلى منكرٍ أكثر منه) اهـ (2)
وهذا الحديث يصلح أن يكون ثلث الإسلام؛ لأن الأحكام ستة: الواجب، والمندوب، والمباح، وخلاف الأَوْلى، والمكروه، والحرام. والمستفاد منه حكم الأول، وهو أنه يجب الأمر به، والأخير، وهو أنه يجب النهي عنه.
وعبَّر بعضهم بأنه نصفٌ، وبيَّنه بأن أعمال الشريعة إما معروفٌ يجب الأمر به، أو منكرٌ يجب النهي عنه؛ أي: وهو إنما بيَّن الثاني، وهو غير سديدٍ؛ لأن ما عدا الأول والأخير مما ذكر لا يجب الأمر به ولا النهي عنه كما مر، على أنه كما بيَّنَ الثاني؛ أعني: وجوب النهي عن المنكر. . بيَّنَ الأول؛ لأن المنكر يشمل ترك الواجب، وفعل الحرام كما مر، فتغيير الأول بالأمر بالواجب، والثاني بالنهي عن الحرام، فعليه: كان المناسب أن يقال: إنه كل الإسلام لا نصفه.
* * *
(1) صحيح البخاري (956)، وصحيح مسلم (889).
(2)
المفهم (1/ 232).