المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ:"لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ" ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟! الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ" ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . . . حَتَّى بَلَغَ: {يَعْمَلُونَ} ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟! " قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ" ثُمَّ قَالَ:"أَلَا أُخْبِرُكَ بمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟! " قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ:"كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا" قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ وَإنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بهِ؟! فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟! " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (1).

(عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه؛ أخبرني بعمل يدخلُني الجنة، ويباعدني من النار)(2) فيه عظيم فصاحته؛ فإنه أوجز وأبلغ، ومن ثم

(1) سنن الترمذي (2616).

(2)

في النسخ كلها إلا (خ): (عن النار) والمثت منها ومن نسخ المتن و"سنن الترمذي".

ص: 480

حمد صلي اللَّه عليه وسلم مسألته، وعجب من فصاحته حيث (قال) له:(لقد سألت عن عظيم) أي: عن عملٍ عظيمٍ؛ إما لأن عظم المسبب يستدعي عظم السبب، ودخول الجنة والتباعد عن النار أمرٌ عظيمٌ، سببه: امتثال كل مأمور، واجتناب كل محظور، وذلك عظيمٌ صعبٌ قطعًا، ولولا ذلك. . لما قال اللَّه تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ، {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .

وإما من حيث صعوبته على النفوس وعدم وفائها غالبًا بما يطلب له، وفيه من الوسائل والمقاصد الواجبة والمندوبة، وأجلُّها الإخلاص؛ إذ هو روح العمل وأُسُّه المقوِّم له، وأنى به؟! فإنه لا يوجد كماله إلا للشاذِّ النادر من العاملين، ولعزته كان مما استأثر اللَّه تعالى به؛ فإنه لم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا.

وليس المراد استعظام جزائه ونتيجته فقط؛ بدليل قوله: (وإنه ليسير على من يسَّره اللَّه تعالى عليه)(1) بتوفيقه إلى القيام بالطاعات على ما ينبغي، وشَرْحِ اللَّه تعالى صدره إلي السعي فيما يكمله ويقربه من ربه تعالى مع تهيئة أسباب ذلك له:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} وهدايته إلى صفاء نفسه عن كدوراتها، فعزبت عن سائر مألوفاتها وشهواتها، وطمحت إلى أعلى أحوالها ومقاماتها، وترقَّت عن سفساف أخلاقها، وحضيض أوصافها إلى غايات الكمال، ونهايات الجلال.

ثم فسر ذلك العمل العظيم بقوله: (تعبد اللَّه) تعالى؛ أي: توحِّده في حال كونك (لا تشرك به شيئًا) أو تأتي بجميع أنواع العبادة في حال كونك مخلصًا له؛ بأن تقصد بها، وجهه تعالى وحده؛ قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .

(وتقيمُ الصلاة) هو وما بعده من عطف المغاير على المعنى الأول (2)، وعليه فيكون قد ذكر له التوحيد وأعمال الإسلام، والخاص على العام على المعنى الثاني (3).

(1) في النسخ (على من سهله) والمثبت من هامش (خ) وأشار لها بنسخة، وهي كذلك في نسخ المتن، وفي "سنن الترمذي".

(2)

قول: (على المعنى الأول) في (تَعْبُدُ) المذكور بقوله: (أي: توحده).

(3)

قول: (والخاص) أي: ومن عطف الخاص على المعنى الثاني المذكور بقوله: (أو تأتي بجميع أنواع العبادة. . .) اهـ هامش (غ)

ص: 481

(وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) مر الكلام على ذلك مستوفًى في شرح (الحديث الثاني) و (الثالث)(1).

(ثم قال) له صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك) عرضٌ؛ نحو: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} الآية؛ أي: عرضت ذلك عليك، فهل تحبه؟ وفيه غاية التشويق إلى ما سيذكره له؛ ليكون أوقعَ في نفسه، وأبلغَ في ملازمته، وأحثَّ على تفرغها لاستفادته.

(على أبواب الخير) فيه زيادة ذلك التشويق، والمراد بالخير هنا: ضد الشر.

ثم الإضافة إن كانت بيانية. . كان المراد به الأعمال الصالحة التي يتوصل بها إلى أعمال أخرى أكمل منها كما استفيد من تسميتها أبوابًا، فهو من المجاز البليغ؛ لما فيه من تشبيه المعقول بالمحسوس (2)، نظيرَ ما مر آنفًا.

وأُوثر فيها جمع القلة إشارةً إلى تسهيل الأمر على السامع؛ ليزيد نشاطه وإقباله. هذا ما ظهر لي، وهو أولى من قول بعضهم: إنما أوثر؛ لأنه ليس له جمع كثرة كآذان، وأقلام، وأقسام.

وإن كانت بمعنى (اللام). . كان المراد به الجزاء العظيم، والثواب الجسيم، وبها سائر الأعمال الصالحة.

ويدل للثاني: رواية ابن ماجه: "ألا أدلك على أبواب الجنة؟! "(3)، وللأول: تخصيصه بعضَ الأعمال بالذكر بقوله: (الصوم) أي: الإكثار من نفله؛ لأن فرضه مر ذكره قريبًا (جُنَّة) بضم الجيم، من (جنَّ) إذا استتر؛ أي: هو مِجَنٌّ وسترٌ ووقايةٌ لك من النار في الآجل، ومن استيلاء الشهوات والغفلات عليك في العاجل، وذلك باب أيُّ باب، ووسيلة أيُّ وسيلة إلى صفاء الأحوال، ووقوع أفضل الأعمال، على

(1) انظر ما تقدم (ص 148) من الحديث الثاني، و (ص 191) من الحديث الثالث.

(2)

قوله: (تشبيه المعقول) أي: الخير (بالمحسوس) أي: بالمكان الذي له أبواب.

(3)

سنن ابن ماجه (4108) من نسخة جمعية المكنز الإسلامي، والحديث في نسخة العلامة محمد فؤاد عبد الباقي رحمه اللَّه تعالى برقم (3973) إلا أنه بلفظ "الخير" بدل "الجنة".

ص: 482

نهاية الكمال، ومن ثم قال تعالى:"الصوم لي وأنا أجزي به"(1)، وقال تعالى:"يدع طعامه وشرابه من أجلي فأنا أجزي به"(2).

وفي الكتاب العزيز: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} والصائمون منهم؛ إذ الصوم: الصبر عن ملاذِّ الشهوات والمألوفات.

(والصدقة) أي: نفلها، لأن فرضها مرَّ قريبًا أيضًا (تُطفئ) أي: تمحو، استعار له لفظ الإطفاء؛ لمقابلته بقوله:(كما. . . إلخ)(3)، أو أن الخطيئة يترتب عليها العقاب الذي هو أثر الغضب المستعمل فيه الإطفاء، يقال: أطفأ غضبه؛ لما مر أنه فوران دم القلب عن غلبة الحرارة.

(الخطيئة) أي: الصغيرة المتعلقة بحق اللَّه تعالى؛ لما علم من القواعد: أن الكبيرة لا يطفئها إلا التوبة، والمتعلقة بحق الآدمي لا يطفئها إلا رضا صاحبها.

(كما يطفئ الماء النار) قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وخصت الصدقة بذلك؛ كأنه لتعدي نفعها، ولأن الخلق عيال اللَّه تعالى، وهي إحسانٌ إليهم، والعادة أن الإحسان إلى عيال الشخص يطفئ غضبه.

وسبب إطفاء الماء النارَ: أن بينهما غاية التضاد؛ إذ هي حارةٌ يابسةٌ، وهو باردٌ رطبٌ، فقد ضادَّها بكيفيتيه جميعًا، والضد يقمع الضد ويعدمه.

وبإطفاء الخطايا يتنور القلب، وتصفو الأعمال، فلذلك كانت الصدقة بابًا عظيمًا لغيرها من الأعمال الفاضلة، ومر أنها برهان؛ أي: حجة على صدق إيمان

(1) أخرجه البخاري (7492)، ومسلم (1151) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 310)، والبيهقي (4/ 304) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

قوله: (استعار له لفظ الإطفاء) أي: في قوله: (تطفئ) استعارة تصريحية تبعية، شبه المحو بالإطفاء، وأطلقه عليه، ثم اشتق من الإطفاء (تطفئ). وقال الطيبي: قوله: "الصدقة تطفئ الخطيئة" أصله: تذهب الخطيئة، كقوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ثم في الدرجة الثانية تمحو الخطيئة؛ كخبر: "وأتبع الحسنة السيئة تمحها" أي: السيئة المثبتة في صحيفة الكرام الكاتبين، وإنما قدرت الصحيفة بقرينة (تمحو) ثم قي الدرجة الثالثة تطفئ الخطيئة لمقام الحكاية عن المباعدة عن النار، فلما وضع الخطيئة موضع النار على الاستعارة المكنية. . أثبت لها على الاشعارة التخييلية ما يلائم النار من الإطفاء؛ ليكون قرينة مانعة لها من إرادة الحقيقة، وأما:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} . . فمن إطلاق اسم المسبب على السبب. اهـ هامش (غ)

ص: 483

صاحبها، وفضائلها كثيرةٌ شهيرةٌ، بينتها في كتابٍ مستقل مع ما يتعلَّق بها ويلائمها من الأحكام وغيرها (1).

(وصلاة الرجل)(2) خص بالذِّكر؛ لأن السائل رجلٌ، أو لأن الخير غالبٌ في الرجال؛ إذ أكثر أهل النار النساء، لا للاحتراز عن المرأة؛ لأنها مثله في ذلك.

(من) أي: (في) وبها عبَّر في بعض النسخ، ويحتمل كونها لابتداء الغاية -أي: الجوف مبدأ للصلاة- وللتبعيض؛ أي: صلاته بعض الجوف؛ أي: فيه.

(جوف الليل) إذ هي فيه مطلقًا أفضل منها في النهار؛ لأن الخشوع والتفرغ فيه أسهل وأكمل، ومن ثم كانت بابًا عظيمًا من أبواب الخير؛ لأنه يتوصَّل بها إلى صفاء السِّر، ودوام الشهود والذِّكر، ثم هي فيه بعد النوم أفضل منها فيه قبله، ويحصل فضل قيامه بصلاة ركعتين؛ لخبر:"من قام من الليل قدر حَلَبِ شاة. . كتب من قُوَّام الليل"(3).

واختلفوا في أفضل أجزائه، والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة: ما ذهب إليه الإمام الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه من أنه إن جزَّأه نصفين. . فالنصف الثاني أفضل، أو أثلاثًا. . فالثلث الأخير أفضل، أو أسداسًا. . فالسدس الرابع والخامس أفضل، وهذا هو الأكمل على الإطلاق؛ لأنه الذي واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه:"أفضل الصلاة صلاة أخي داوود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه"(4).

(1) وهو كتاب: "فضائل الصدقة وأحكامها وأنواعها".

(2)

قوله: (وصلاة الرجل) قال البيضاوي: هو مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: كذلك يطفئ الخطيئة، أو: هي من أبواب الخير، والأول أظهر؛ لاستشهاده صلى الله عليه وسلم بالآية، وهي متضمنةٌ للصلاة والإنفاق. نقله الطيبي، ثم قال: والأظهر: أن يقدر الخبر: (شعار الصالحين) كما في "جامع الأصول"، ويفيد فائدة مطلوبة زائدة على القرينتين؛ وهي أنهما كما أفادتا المباعدة عن النار فتفيد هذه الإدخال في الجنة؛ كما قال تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} اهـ "شبرخيتي"(ص 242)

(3)

أخرج الطبراني في "الأوسط"(4128) عن سيدنا جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تدعَنَّ صلاة الليل ولو حلب شاةٍ".

(4)

أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159/ 189) بنحوه عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 484

(ثم تلا) صلى الله عليه وسلم احتجاجًا على فضل صلاة الليل قوله تعالى: ({تَتَجَافَى}) أي: تتنحَّى وترتفع ({جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}) أي: مواضع الاضطجاع للنوم (حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ}) قيل: وهذا كنايةٌ عن الصلاة بين المغرب والعشاء، وقيل: عن انتظار العشاء؛ لأنها كانت تؤخَّر إلى نحو ثلث الليل، وقيل: عن صلاة العشاء والصبح في جماعة.

والجمهور: على أنه كنايةٌ عن صلاة النوافل من الليل، وهو الذي دلَّ عليه سياق هذا الحديث، بل والآية؛ حيث قال تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآيةَ؛ فإنه دالٌّ على أنهم أخفوا عملهم فجُوزُوا بما أُخفي لهم من قرة الأعين، وإنما يتم إخفاؤه بالصلاة في جوف الليل المصرَّح به في هذا الحديث؛ لأن المصلي حينئذٍ ترك نومه ولذته وآثر ما يرجوه من ربه عليهما، فحُقَّ له أن يُجازى بذلك الجزاء العظيم.

وفي خبر "الصحيحين": "يقول اللَّه تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} "(1).

وقد جاء: أن اللَّه تعالى يباهي بقُوَّام الليل في الظلام الملائكةَ يقول: "انظروا إلى عبادي؛ قد قاموا في ظلم الليل حيث لا يراهم أحدٌ غيري، أُشهدكم أَني قد أبحتهم دار كرامتي"(2).

(ثم قال) صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك برأس الأمر) أي: العبادة، أو الأمر الذي سألت عنه (وعموده وذروة) بضم أوله وكسره، قيل: والقياس جواز فتحه أيضًا (سَنامه) فيه من التشويق المرة بعد المرة (3) نظيرَ ما مر آنفًا (4)(الجهاد)

(1) صحيح البخاري (3244)، وصحيح مسلم (2824) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ذكره الديلمي في "الفردوس"(4030) عن سيدنا جابر رضي الله عنه بنحوه.

(3)

في (غ): (جواز فتحه أيضًا "سنامه، قلت: بلى با رسول اللَّه، قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه" فيه من التشويق. . .) وبها يكون الكلام تامًا.

(4)

أي: فإنه شوقه أولًا بقوله له: "لقد سألت عن عظيم" وثانيًا بقوله: "ألا أدلك على أبواب الخير. . . إلخ" اهـ هامش (ج)

ص: 485

سقط منه شطرٌ ثابتٌ في أصل "الترمذي" لا يتم الكلام بدونه، ومع ذلك لم يتنبه له أكثر الشراح، وكأنه انتقل نظره من "سنامه" إلي "سنامه" إذ لفظ الترمذي بعد "سنامه" المذكور: قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال:"رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذورة سنامه الجهاد" وقد وقع له ذلك في "الأذكار" أيضًا (1)، وكأنه قلَّد فيه الحافظ ابن الصلاح، فإنه لمَّا ذكر الأحاديث التي قيل: إنها أصول الإسلام أو الدين، أو التي عليها مدارهما أو مدار العلم، ذكر من جملتها هذا الحديث بالإسقاط المذكور، لكن عذره أن ابن ماجه ذكره كذلك (2)، فلا اعتراض عليه؛ لأنه لم يلتزم رواية شخصٍ بخصوصها، بخلاف المصنف؛ فإنه هنا إنما ساق لفظ الترمذي كما سيذكره (3)، ولفظه كما عرفت ليس فيه الإسقاط المذكور، ويقع في بعض نسخ المتن ذكر ذلك الإسقاط، فيحتمل أن المصنف تنبه له بعدُ فالحقه، ويحتمل أنه من فعل بعض تلامذته أو غيرهم (4).

وفي قوله: "رأس الأمر الإسلام. . . إلخ" استعارة بالكناية يتبعها استعارة ترشيحية؛ لأنه شبَّه الأمر المذكور بفحل الإبل وبالبيت القائم على عمد، وأضمر هذا التشبيه في النفس، ثم ذكر ما يلائم المشبَّه به وهو الرأس والسنام والعمود.

ووجه إيثار الإبل بالذكر: أنها خيار أموالهم، ومن ثم كانوا يشبهون بها رؤساءهم، وإنما كان الإسلام المراد به الإيمان هو الرأس؛ لأنه لا حياة لشيءٍ من الأعمال بدونه، كما أن الحيوان لا حياة له بدون رأسه، والصلاة هي العمود؛ لأنه الذي يقيم البيت ويرفعه ويهيئه للانتفاع به، والصلاة هي التي تقيم الدين وترفعه وتهيِّئُ فاعلها لِتَحلِّيه بمعالي القرب، واستغراقِهِ في أنوار الشهود.

(1) انظر "الأذكار"(1002) إلا أن الساقط من الحديث هنا ثابت فيه، فليتنبه.

(2)

سن ابن ماجه (3973).

(3)

قوله: (بخلاف المصنف؛ فإنه هنا إنما ساق. . . إلخ) أقول: قضية ذكر ابن ماجه له كذلك، وتعليل ابن الصلاح له أن معناه تام في نفسه؛ وحينئذٍ فلا اعتراض على المصنف حيث اقتصر من كلام الترمذي على ذلك إشارة إلى أنه لا يتوقف المعنى على ذكر الزيادة، وأنه يصح الإخبار بالجهاد عن الجميع؛ إذِ المجاهد لا يكون إلا مسلمًا مصليًا. فاجتمع فيه تلك الأمور، فليتأمل. اهـ "مدابغي"

(4)

ويحتمل أن الإسقاط من بعض النُّسَّاخ، أو أنها سقطت من أصل المصنف من "الترمذي" اهـ "مدابغي"

ص: 486

والجهاد هو ذروة السنام؛ لأن ذورة الشيء أعلاه، والجهاد أعلى أنواع الطاعات؛ من حيث إن به يظهر الإسلام، ويعلو على سائر الأديان، وليس ذلك لغيره من العبادات، فهو أعلاها بهذا الاعتبار وإن كان فيها ما هو أفضل منه، وعلى هذا يحمل قول بعض الشراح: الجهاد لا يقاومه شيءٌ من الأعمال، ويؤيد ما ذكرته خبر:(أنه يوزن مداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء)(1)، ومعلوم أن أعلى ما للشهيد دمه، وأدنى ما للعالم مداده، فإذا لم يف دم الشهداء بمداد العلماء. . كان غير الدم من سائر فنون الجهاد كَلَا شيءٍ بالإضافة إلى ما فوق المداد من فنون العلم.

واعلم: أنه صح أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال تارةً: "الصلاة لأول وقتها"(2)، وتارةً:"الجهاد"(3)، وتارةً:"بر الوالدين"(4) وحمل على اختلاف أحوال السائلين، فأجاب كلًّا بما هو الأفضل بالنسبة لحاله.

وأما الأفضل على الإطلاق بعد الشهادتين. . فهو الصلاة عندنا؛ فنفلها أفضل النوافل، وفرضها أفضل الفروض؛ لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة خير موضوع"(5)، وفي روايةٍ صحيحةٍ أيضًا:"واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"(6) وقيل: أفضلها الجهاد؛ لهذا الحديث، وحديث: أنهم قالوا: يا رسول اللَّه؛ ما يعدل الجهاد؟ فقال: "لا تطيقونه" ثم ذكروا سؤالهم فقال: "لا تطيقونه" ثم قال: "أيستطيع أحدكم أن يدخل بيتًا فيصوم ولا يفطر، ويصلي ولا يفتر؟ " فقالوا:

(1) ذكره الديلمي في "الفردوس"(8840) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(2)

أخرجه أبو داوود (426)، والترمذي (170) عن سيدتنا أم فروة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه ابن منده في "الإيمان"(455)، وابن عبد البر في "التمهيد"(17/ 449)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(63/ 276) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(4)

انظر "فتح الباري"(5/ 149).

(5)

أخرجه الطبراني في "الأوسط"(245) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. وقوله: (خير موضوع) أي: خير شيءٍ وضعه الشارع ليتعبد به. انتهى شيخنا، وهو بالإضافة؛ ليظهر به الاستدلال على فضل الصلاة على غيرها، وأما ترك الاضافة وإن صح. . فلا يحصل معه المقصود؛ لأن ذلك موجودٌ في كل قربة. اهـ "فتوحات الوهاب على فتح الوهاب"(1/ 493)

(6)

أخرجه ابن حبان (1037)، وابن ماجه (277) عن سيدنا ثوبان رضي الله عنه.

ص: 487

لا، فقال:"إنما مثل المجاهد كمثل الصائم القائم الذي لايفتر من صلاة ولا صيام"(1).

ويرد: بأن الحديث الذي نحن فيه لا شاهد فيه للأفضلية المطلقة؛ لِمَا تقرر في معناه، وإلَّا. . لزم أن الجهاد أفضل من الإسلام؛ لأن ذروة السنام أعلى من الرأس، ولا قائل به، وإنما غاية الأمر: أن المفضول قد يشتمل على مزيةٍ، بل مزايا لا توجد في الفاضل.

وأما الخبر الثاني. . فهو شاهدٌ لأفضلية الصلاة والصوم على الجهاد؛ لأن المشبَّه به أعلى من المشبه.

ووجه رواية ابن ماجه السابقة: أن الجهاد مقرونٌ بالهداية؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} والهداية محصلةٌ لمقصود هذا السائل؛ إذ يلزمها دخول الجنة والمباعدة من النار، فكان الجهاد رأس أمر السائل وعموده وذروة سنامه.

والكلام في المفاضلة بين فرضي عينٍ أو كفايةٍ، أو نفلينِ، لا بين فرضٍ ونفلٍ؛ لأن فرض المفضول أفضل من نفل الفاضل، وهذا محمل قول الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه:(الاشتغال بالعلم أفضل من صلاة النافلة)(2).

والكلام أيضًا في عملينِ متقاربينِ في المشقة؛ كما يدل عليه قول أئمتنا: المراد: أن جنس الصلاة أفضل من جنس الصوم، أو صرف أكثر الزمن إليها أفضل من صرف أكثره إليه، لا أن صلاة ركعتين أفضلُ من صوم يوم.

(ثم قال) صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بملاك) بفتح الميم وكسرها (3)(ذلك كله) أي: بمقصوده وجماعه، أو بما يقوم به؛ بمعنى: أنه إذا وجد. . كانت تلك الأعمال كلها على غايةٍ من الكمال، ونهايةٍ من صفاء الأحوال؛ لأنها غنيمةٌ، وكفُّ اللسان عن المحارم سلامةٌ، وهي في نظر العقلاء مُقدَّمةٌ على الغنيمة، وفي هذا إشارةٌ إلى أن جهاد النفس بقمعها عن الكلام فيما يُردِيها ويؤذيها أشقُّ عليها من

(1) أخرجه مسلم (1878)، والترمذي (1619) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

انظر: "مسند الإمام الشافعي" رحمه اللَّه تعالى (ص 337).

(3)

إلا أن الرواية بكسر الميم فقط؛ كما نقله العلامة المدابغي عن الإمام المناوي رحمهما اللَّه تعالى.

ص: 488

جهاد الكفار، وأن هذا هو الجهاد الأصغر، وذاك هو الجهاد الأكبر؛ إذ منعها هواها من أجلِّ ما اقتناه الإنسان، ومن أعظم آدابها الصمتُ وترك الكلام فيما لا يعني، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"من صمت. . نجا"(1).

(قلت: بلى يا رسول اللَّه، فأخذ) صلى الله عليه وسلم (بلسانه) أي: أمسك لسان نفسه، وهو يُذكَّر ويؤنَّث، وقد يطلق على نفس الكلام مجازًا؛ كما في قوله تعالى:{إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي: بلغتهم.

(ثم قال: كُفَّ عليك) أي: عنك، أو ضُمِّن (كف) معنى (احبس) (هذا) أي: عن الشر؛ للخبر السابق: "فليقل خيرًا، أو ليصمت"(2) وجمع بين إمساكه وقوله ذلك؛ مع أنه كان يمكنه أن يقول: كف عليك لسانك؛ لأن النفس بالحسيات آلفُ منها بالعقلبات؛ لتأخُّر زمن إدراك هذه عن زمن إدراك تلك، فكان ذكر المعنى العقلي الجلي ثم تعقيبه بالتمثيل الحسي أبلغَ وأوقعَ في النفس؛ لما فيه من زيادة القوة بنقله من الخفاء إلى الظهور على أكمل وجهٍ وأبلغه؛ وهذا هو السبب في قول إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: ليزداد قوةً يقينية بمشاهدة المعقول عيانًا؛ إذ عين اليقين أقوى من مجرد علمه.

ومن ثم كان قولك: هذا الماء والنار كيف يجتمعان أبلغ من قولك: الماء والنار كيف يجتمعان؛ لأن الإشارة إليهما أوجبت للعقل زيادة شعورٍ واستحضارٍ لهما لا يوجد عند مجرد ذكرهما من غير إشارة.

(قلت: يا نبي اللَّه (3)؛ وإنا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟!) استفهامُ استثباتٍ وتعجبٍ واستغرابٍ، ولا ينافي خفاء هذا عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حقه:"أَعْلمُكُم بالحلال والحرام معاذ"(4) لأنه إنما صار أعلَمَهُمْ بالحلال والحرام بعد هذا

(1) أخرجه الترمذي (2501)، والدارمي (2755)، والإمام أحمد (2/ 159) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.

(2)

تقدم تخريجه والكلام عليه (ص 317) وهو الحديث الخامس عشر من أحاديث المتن.

(3)

في النسخ كلها إلا (غ): (يا رسول اللَّه) والمثبت منها، ومن نسخ المتن، ومن "سنن الترمذي".

(4)

أخرجه الترمذي (3791) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

ص: 489

السؤال وأمثاله من أنواع التعلُّم والاستفهام (1)، أو المراد بالحلال والحرام: المعاملات الظاهرة بين الناس، وهذا في معاملة العبد مع ربه.

(فقال: ثكلتك) أي: فقدتك (أمك) لفقدك إدراك المؤاخذة بذلك مع ظهورها، وهذا مما غلب جريانه على السنتهم في المحاورات؛ للتحريض على الشيء والتهييج إليه من غير إرادة حقيقة معناه من الدعاء على المخاطب بموته، كـ (حَلْقَى عَقْرَى)، (تربت يمينك)(2).

(وهل) استفهام إنكارٍ بمعنى النفي؛ أي: ما (يَكُب) بضم الكاف من النوادر؛ لتعديه ثلاثيًا كـ (كببت الشيء) وقصوره رباعيًا كـ (أكب) هو.

(الناس) أي: أكثرهم؛ أي: يلقيهم (في النار على وجوههم، أو) قال: (على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) أي: ما تكلمت به من الإثم، جمع (حصيدة) بمعنى محصودة، شبَّه ما تكسبه الألسنة من الكلام الحرام بحصائد الزرع بجامع الكسب والجمع، وشبَّه اللسان في تكلُّمه بذلك بحدِّ المنجل الذي يحصد به الناس الزرع، ففيه استعارةٌ بالكناية من حيث تشبيه ذلك الكلام بالزرع المحصود واللسان بالمنجل، تتبعها استعارة ترشيحية؛ لأن الحصاد يلائم المشبه به دون المشبه.

والحصر في ذلك إضافيٌّ؛ إذ من الناس مَنْ يكبه في النار عملُه لا كلامه، لكن ذلك خرج مخرج المبالغة في تعظيم جرائم اللسان: كـ "الحج عرفة"(3) أي: معظمه ذلك، كما أن معظم أسباب النار الكلام؛ كالكفر والغيبة والنميمة ونحوها، ولأن الأعمال يقارنها الكلام غالبًا، فله حصةٌ في ترتب الجزاء عليه عقابًا وثوابًا؛ ففي الحديث الصحيح:"من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه. . أضمن له الجنة"(4)؛ وفيه: "إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من رضوان اللَّه لا يُلْقي لها بالًا يكتب له رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سخط اللَّه لا يعلم أنها تقع حيث تقع فيكتب

(1) في بعض النسخ: (من أنواع التعلم والاستفادة)، وفي (و) جمع بينهما.

(2)

قوله: (تربت يمينك) يقال: ترب الرجل إذا افتقر؛ أي: لصق بالتراب، وهذه الجملة جاريةٌ على السنة العرب، ولا يريدون بها الدعاء. اهـ "النهاية في غريب الحديث"(1/ 184)

(3)

تقدم تخريجه (ص 254) في شرح الحديث السابع.

(4)

أخرجه البخاري (6474) عن سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه.

ص: 490

له بها سخطه إلى يوم يلقاه -أو قال-: يهوي بها في النار سبعين خريفًا" (1).

وفي الحكمة: لسانك أسدك، إن أطلقته. . فرسك، وإن أمسكته. . حرسك.

ومن ثم كان أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه وكرم وجهه يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)(2).

(رواه الترمذي) في "جامعه"(وقال: حديث حسن صحيح) لكن في "الجامع" زيادة على ما ذكره المصنف هنا، ولفظه: عن معاذٍ قال: كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول اللَّه؛ أخبرني بعمل يدخلني الجنة. . . وذكره.

* * *

(1) أخرجه البخاري (6478) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(2)

أخرجه أبو يعلى (5)، والبزار (84)، والبيهقي في "الشعب"(4596).

ص: 491