الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقررة، فجميع الأوامر والنواهي مخصوصةٌ بها في ذهن كل عالمٍ بذلك معتقدًا له، فلا خصوصية لهذا الحديث بها، على أن التعبير بالخير وبالسكوت في مقابلته الدال على أنه خيرٌ أيضًا دليلٌ على ذلك التخصيص؛ لأن المكره عليه منهما يصير خيرًا؛ أي: مباحًا، وعند النسيان هو خيرٌ أيضًا؛ لارتفاع العقاب، فلا يحتاج مع ذلك إلى دعوى تخصيص.
تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]
التزام الصمت مطلقًا، واعتقاده قربة إما مطلقًا أو في بعض العبادات كالصوم والحج منهيٌّ عنه؛ ففي خبر أبي داوود:"لا صُمات يومٍ إلى الليل"(1)، وخرج الإسماعيلي النهي عنه في الاعتكاف، وروي أيضًا في الصوم.
وآثر (يصمت) على (يسكت) لأنه أخص؛ إذ هو السكوت مع القدرة، وهذا هو المأمور به، وأما السكوت مع العجز لفساد آلة النطق. . فهو الخرس، أو لتوقفها. . فهو العِيُّ، وكلا هذين لا يحسن الأمر معه بالسكوت.
(ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر. . فليكرم جاره) بالإحسان إليه، وكفِّ الأذى عنه، وتحمُّل ما يصدر منه، وبالبشر في وجهه (2)، وغير ذلك من وجوه الإكرام التي لا تحْفى رعايتها على الموفَّقين، قال تعالى:{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وهو -أعني الجار- عرفًا: من بينه وبينه دون أربعين دارًا من أيِّ جانبٍ كان من جوانب الدار.
وفي (مراسيل الزهري): أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه جارًا له، فأمر صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن ينادي:"أَلَا إن أربعين دارًا جارٌ"(3) وبه أخذ جمعٌ من السلف.
(1) سنن أبي داوود (2873) عن سيدنا علي رضي الله عنه.
(2)
يقال: هو حسن البشر؛ أي: طلق الوجه، فالبشر: طلاقة الوجه. اهـ هامش (ب).
(3)
أخرجه أبو داوود في "المراسيل"(350)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 276) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
وقيل: هو في المسجد مَنْ سمع الأذان أو الإقامة منه، فيقدر كذلك في الدور، وقيل: مَنْ ساكنك في محلةٍ أو بلدٍ. . فهو جارك، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض، أدناها الزوجة والقريب، وهو المراد بالجار ذي القربى في الآية، والجار الجنب فيها: الأجنبي، وقيل: الأول المسلم، والثاني الكافر، وقيل: الأول القريب المسكن منك، والثاني البعيد المسكن، وكأن قائله نظر لخبر عائشة: يا رسول اللَّه؛ إن لي جارينِ، فإلى أيِّهما أُهدي؟ قال:"إلى أقربهما منكِ بابًا"(1)، وقيل: الثاني الزوجة.
"فالجيران ثلاثة: كافرٌ، فله حقٌّ واحدٌ بالجوار، ومسلمٌ، فله حقان: الجوار، والإسلام، ومسلم قريب، فله ثلاثة حقوق: الجوار، والإسلام، والقرابة"، وهذا حديثٌ له طرقٌ متصلةٌ ومرسلة، لكن لا تخلو كلها عن مقال (2).
والأحاديث في حقوق الجار كثيرة؛ ففي "الصحيحين": "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"(3).
وروى مسلم عن أبي ذرٍّ رضي اللَّه تعالى عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: "إذا طبختَ مرقًا. . فأكثِرْ ماءه، ثم انظر إلى أهل بيتٍ من جيرانك فأصبهم منها بمعروف"(4)، وفي رواية:"فأكثر ماءها (5)، وتعاهد جيرانك"(6).
وروى البخاري في "الأدب": "كم من جارٍ متعلقٌ بجاره يوم القيامة يقول: يا رب؛ هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه"(7).
(ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر. . فليكرم ضيفه) الغنيَّ والفقيرَ بالبشر في
(1) أخرجه البخاري (2259).
(2)
قوله: (وهذا حديث له) عائدٌ على قوله: (فالجيران ثلاثة: كافر. . .) وقد ذكره الحافظ الهيثمي رحمه اللَّه تعالى في "مجمع الزوائد"(8/ 167) عن سيدنا جابر رضي الله عنه بنحوه، وعزاه للبزار.
(3)
صحيح البخاري (6015)، وصحيح مسلم (2625) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
صحيح مسلم (2625/ 143).
(5)
يعني: لا تجعل ماء قِدرك قليلًا لتكون مرقك كثيرة اللذة؛ فإنك حينئذٍ لا تقدر على تعاهد جيرانك، بل اجعل ماء قِدرك كثيرًا؛ ليبلغ منه نصيبٌ إلى جيرانك وإن لم يكن لذيذًا. اهـ هامش (غ)
(6)
صحيح مسلم (2625/ 142).
(7)
الأدب المفرد (111) عن سيدنا أبن عمر رضي الله عنهما.
وجهه، وطيب الحديث معه، وبالمبادرة بإحضار ما تيسَّر عنده من الطعام من غير كلفةٍ ولا إضرارٍ بأهله، إلا أن يرضوا وهم بالغون عاقلون، وقد بينتُ في الكتاب الآتي حديث الأنصاري المشهور (1)، الذي أثنى اللَّه ورسوله عليه وعلى امرأته بإيثارهما الضيف على أنفسهما وصبيانهما، حيث نَوَّمَتْهم بأمره حتى أكل الضيف (2).
والجواب عما اقتضاه ظاهره من تقديمهما ما يحتاج إليه الصبيان: بأن الضيافة لتأكدها والاختلاف في وجوبها مقدمةٌ، وبأن الصبيان لم تشتد حاجتهم للأكل، وإنما خشيا أن الطعام لو جِيء به للضيف وهم مستيقظون. . لم يصبروا عن الأكل منه وإن كانوا شباعًا على عادة الصبيان، فيشوشوا على الضيف، فنُوِّموا لذلك (3)، وهذا ظاهرٌ، خلافًا لمن توقف فيه.
والضيف لغةً: يشمل الواحد والجمع، مِن (أضفته وضَيَّفته): إذا أنزلته بك ضيفًا، و (ضِفته وتضيَّفته): إذا نزلت عليه ضيفًا.
ومعنى الحديث: أن من التزم شرائع الإسلام. . تأكَّد عليه إكرام جاره وضيفه وبرهما لعظيم حقهما، كما أعلم به صلى الله عليه وسلم، وأكَّد على عظيم رعايته في أحاديث كثيرة، بيَّنتُها في كتابي "حقائق الإنافة في الصدقة والضيافة" فإنه جمع في ذلك من الأحاديث النبوية والأحكام الفقهية ما تقر به العيون، وينتفع به المتقون؛ إذ الصدقة لا سيما للجار والضيافة من مكارم أخلاق المؤمنين، ومن محاسن الدين، وسنن النبيين، ومن ثَمَّ قال صلى الله عليه وسلم:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وقد مر، وفيه إشارة ما إلى ما بالغ به بعضُ الأئمة من إثبات الشُّفعة له.
ورُوي: أن إبراهيم صلى اللَّه عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم كان يُسمَّى أبا الضيفان (4)، وكان يمشي الميل والميلين في طلب من يتغدَّى معه (5).
(1) الكتاب الآتي هو: "حقائق الإنافة في الصدقة والضيافة"، انظر ذلك مفصلًا فيه (ص 151 - 152).
(2)
أخرجه البخاري (3798)، ومسلم (2054) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
هذا الجواب للإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "شرح المهذب"(6/ 227) اهـ هامش (ب).
(4)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 335)، والبيهقي في "الشعب"(9171)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(6/ 173) عن عكرمة رحمه اللَّه تعالى.
(5)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(9173) عن عطاء رحمه اللَّه تعالى.
وقد قال أحمد بوجوب الضيافة؛ لأحاديث ظاهرة في ذلك، وفي أن الضيف يستقل بأخذ ما يكفيه من غير رضا من نزل عليه أو على نحو بستانه أو زرعه (1)، وقد بينتها مع تأويلها في ذلك الكتاب (2)، لكن خالفه الجمهور، وحملوا تلك الأحاديث على غير ظاهرها، كحمل الوجوب على أول الإسلام؛ فإنها كانت واجبةً حين إذ كانت المواساة واجبةً، فلما ارتفع وجوب المواساة. . ارتفع وجوب الضيافة، أو على التأكيد كما في:"غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلم"(3) والاستقلال بالأخذ من غير رضا على المضطر، لكنه بعد ذلك يغرم بدل ما أكله، أو على مال أهل الذمة المشروط عليهم ضيافة مَنْ مرَّ بهم؛ لأدلة أخرى:
منها: "لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيب نفس"(4).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "جائزته يوم وليلة"(5)، والجائزة: الصلة والعطية المتطوع بها.
وأيضًا: التعبير بالإكرام ظاهر في التطوع؛ إذ لا يستعمل في الواجب.
ثم المخاطب بها عندنا أهل البادية والحضر، لكن في أحاديث بينتها ثَمَّ أيضًا أنها مختصَّةٌ بأهل البادية، وبها أخذ مالك؛ لتعذُّر ما يحتاج إليه المسافر في البادية، وتيسُّر الضيافة على أهلها غالبًا، بخلاف أهل الحضر؛ لتيسر مواضع النزول وبيع الأطعمة، قال القاضي:(وخبر: "الضيافة على أهل الوبر، وليست على أهل المدر". . موضوعٌ) انتهى (6)، وفيه
(1) انظر "المغني" لابن قدامة (13/ 353).
(2)
أي: كتاب "حقائق الإناقة"، انظر (ص 63 - 71) منه.
(3)
أخرجه البخاري (858)، ومسلم (846) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 100)، والدارقطني في "سننه"(3/ 26)، وأبو يعلى في "مسنده"(1570) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري (6135)، ومسلم (48/ 15) في كتاب اللقطة، باب الضيافة ونحوها، عن سيدنا أبي شريح العدوي رضي الله عنه.
(6)
إكمال المعلم (1/ 286)، والحديث أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(284) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما، وانظر "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي رحمه اللَّه تعالى (2/ 19)، و"الكامل في الضعفاء" للإمام ابن عدي رحمه اللَّه تعالى (1/ 273)، و"التمهيد"(21/ 44)، و"لسان الميزان"(1/ 306). ولفظ الحديث في النسخ كلها معكوس إلا في (خ) والمثبت منها من "إكمال المعلم" وسائر =
نظر، فقد ذكرت في ذلك الكتاب له طرقًا كثيرة (1).
قيل: يحتمل تخصيص إكرام الجار والضيف بغير الفاسق والمبتدع والمؤذي ونحوهم، فهؤلاء لا يكرمون بل يُهانون ردعًا لهم عن فجورهم، ويحتمل جعلهم من ذوات الجهتين، فيكرمون من حيث الجوار والضيافة، ويهانون من حيث الفجور؛ لأن الكافر يُرْعَى حقُّ جواره ونحوه، فالمسلم على نحو فسقه أَولى، وجاء:"في كل كبد حرَّى أجر"(2) قال بعضهم: حتى نحو الحية والكلب العقور يطعم ويسقى إذا اضطر إلى ذلك، ثم يقتل. اهـ
والوجه: هو الاحتمال الثاني كما يصرح به كلام أئمتنا (3)، ولا ينافيه قولهم: يحرم الجلوس مع الفسَّاق إيناسًا لهم؛ لأن هذا فيه إعانةٌ على فسقهم، كما يدل عليه تقييدهم القعودَ معهم بالإيناس؛ أي: من حيث الفسق، فأفهم أنه معهم لا للإيناس كذلك جائز، وما ذكره من إطعام العقور فيه نظر؛ لوجوب قتله فورًا (4)، فلا حاجة لإطعامه، كما يدل عليه قول أئمتنا: لو اسْتَطْعم من يُراد قتله بحقٍّ. . لم يطعم، بخلاف ما لو استسقى فإنه يُسقَى؛ لقلة زمنه.
(رواه البخاري ومسلم) وهو من القواعد العميمة العظيمة؛ لأنه بيَّن فيه جميع أحكام اللسان الذي هو أكثر الجوارح فعلًا، فهو بهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه: إنه ثلث الإسلام؛ لأن العمل إما بالقلب، وإما بالجوارح، وإما باللسان، وهو ظاهرٌ وإن لم أَرَ من صرَّح به.
ثم رأيت بعضهم قال: إن جميع آداب الخير تتفرع منه، وأشار فيه إلى سائر خصال البر والصلة والإحسان؛ لأن آكدها رعاية حق الجوار والضيف، وبهذا
= المصادر. وفي بعض النسخ: (قال القاضي حسين) والصواب: أنه القاضي عياض رحمهما اللَّه تعالى؛ كما في هامش (ب) واللَّه أعلم.
(1)
انظر "حقائق الإناقة"(ص 64) فقد عزاه الشارح إلى القضاعي.
(2)
أخرجه ابن حبان (542)، وابن ماجة (3686)، والإمام أحمد (4/ 175) عن سيدنا سراقة بن جعشم رضي الله عنه.
(3)
أي: جَعْلُهم من ذوات الجهتين.
(4)
المصرح به في كتب الفقه: أنه يسن قتله، ولعل كلام الشارح محمولٌ على ما إذا تعيَّن القتل طريقًا لدفع ضرره، فحينئذٍ يجب قتله فورًا. اهـ هامش (ج).
الاعتبار يصح أن يقال فيه: إنه نصف الإسلام؛ لأن الأحكام إما أن تتعلق بالحق، أو بالخلق، وهذا أفاد الثاني؛ لأن وصلة الخلق تستلزم رعاية جميع حقوقهم، ومن ثَمَّ كان المقصود من الأمرين الأخيرين هو المقصود السابق في حديث:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1) من الألفة والاجتماع، وعدم التفرق والانقطاع؛ لأن الناس جيران بعضهم لبعض، فإذا اكرم كلٌّ منهم جاره. . ائتلفت القلوب، واتفقت الكلمة، وقويت شوكة الدين، واندحضت جهالات الملحدين، وإذا أهان كلٌّ جاره. . انعكس الحال، ووقعوا في هُوة الاختلاف والضلال، وكذلك غالب الناس؛ إما ضيف، أو مضيف، فإذا كرم بعضهم بعضًا. . وجد ما مر من الصلاح والائتلاف، وإذا أهان بعضهم بعضًا. . وجد الفساد والخلاف.
* * *
(1) تقدم تخريجه (ص 304) وهو الحديث الثالث عشر من أحاديث المتن.