الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ:"نَعَمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1). وَمَعْنَى: "حَرَّمْتُ الْحَرَامَ": اجْتَنَبْتُهُ، وَمَعْنَى:"أَحْلَلْتُ الْحَلَالَ": فَعَلْتُهُ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
(عن أبي عبد اللَّه) ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد (جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حرام بمهملتين (الأنصاري) الخزرجي السَّلَمي بفتح السين واللام (رضي اللَّه) تعالى (عنهما) فأبوه صحابي، شهد العقبة -وهو أحد النقباء الاثني عشر- وبدرًا، واستشهد بأُحد، وأمه صحابية.
شهد جابر العقبة الثانية مع أبيه صغيرًا، رُوي عنه أنه قال:(لم أشهد بدرًا ولا أُحدًا، منعني أبي، فلمَّا قتل أبي بأُحد. . لم أتخلَّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ قط) أخرجه مسلم (2)، ولا ينافيه قول البخاري: إنه كان ينقل الماء يوم بدر (3)، وجمع بأنه شهدها صغيرًا؛ فلذلك لم يعدَّ في البدريين، وكذا يقال فيمن قال: إنه شهد أُحدًا.
استغفر له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (4)، وحضر مع عليٍّ، وقدم الشام
(1) صحيح مسلم (15/ 18).
(2)
صحيح مسلم (1813).
(3)
التاريخ الكبير (2/ 207).
(4)
أخرجه الحاكم (3/ 565)، والترمذي (3852) عن سيدنا جابر رضي الله عنه قال:(استغفر لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسة وعشرين مرة) أي: ليلة اشترى صلى الله عليه وسلم منه البعير.
ومصر، ثم لازم المدينة، وهو من الحفَّاظ المكثرين في الرواية، وممَّن طال عمره حتى كثر الأخذ عنه، وعمي آخرَ عمره.
وتوفي عن أربعٍ وتسعين سنةً، سنةَ ثلاثٍ وسبعين، وقيل: ثمان وستين (1)، يقال: إنه آخر من مات من الصحابة بالمدينة.
روي له ألفٌ وخمسُ مئة حديثٍ وأربعون حديثًا؛ اتفقا منها على ثمانيةٍ وخمسين، وانفرد البخاري بستةٍ وعشرين، ومسلم بمئةٍ وستةٍ وعشرين.
(أن رجلًا) هو النعمان بن قوقل، بقافين مفتوحتين، بينهما واو ساكنة، وآخره لام، (سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت) من الرأي؛ أي: أترى وتُفتي بأني (إذا صليت المكتوبات) الخمس، من (كتب) بمعنى فرض وأوجب (وصمت رمضان) مر في شرح (الحديث الثاني) أن الأصح عندنا: أنه لا كراهة مطلقًا في ذكره عَرِيًّا عن الشهر كما هنا (2).
(وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئًا) من التطوعات، وكأنه لم يذكر الزكاة والحج؛ لعدم فرضهما إذ ذاك، أو لكونه لم يخاطب بهما (أأدخل الجنة؟) (3) أي: من غير عقابٍ كما هو ظاهرٌ من السياق والقواعد، إذ مطلق دخولها إنما يتوقف على التوحيد فقط؛ كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وأما ما ثبت في أحاديث صحيحةٍ أيضًا من أن بعض الكبائر يمنع دخولها، كقطع الرحم، والكِبْر، والدَّيْن حتى يُقضى. . فمعناها: لا يدخلونها مع الناجين؛ لما صح: أن المؤمنين إذا جازوا على الصراط. . حُبسوا على قنطرةٍ حتى يقتصَّ منهم مظالم كانت بينهم في الدنيا (4).
(قال: نعم) تدخلها كذلك، فيه جواز ترك التطوعات رأسًا، وإن تمالأ عليه
(1) كذا في النسخ، وفي وفاته رضي الله عنه خلاف، انظر "الإستيعاب"(1/ 223)، و"الإصابة"(1/ 215)، و"تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 143).
(2)
انظر ما تقدم (ص 149).
(3)
في بعض النسخ: (أدخل الجنة) بحذف همزة الاستفهام.
(4)
أخرجه البخاري (2440) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
أهل بلدٍ. . فلا يُقاتَلون، ومن قال: يقاتلون. . يحتاج لدليل، وكونه صلى الله عليه وسلم (كان إذا سمع الأذان في بلدٍ. . لم يُغِرْ عليه، وإلَّا. . أغار)(1) لا يدل لذلك؛ لأن الأذان إذ ذاك كان علامةً على الإسلام، على أنه جرى لنا فيه قولٌ شهيرٌ: إنه فرض كفاية، فلو سُلِّم أن القتال كان على تركه. . لم يكن فيه دليلٌ على القتال على ترك السُّنة المتفق على كونها سنةً.
نعم؛ في ترك التطوعات التي شُرعت لجبر نقص الفرائض، والزيادةِ المتقرب بها إلى اللَّه سبحانه وتعالى حتى يُحِب فاعلَها، فإذا أحبَّه. . كان سمعه الذي يسمع به. . . الحديث المشهور (2). . تفويتٌ لربحها العظيم، وثوابها الجسيم، وإسقاطٌ للمروءة، وردٌّ للشهادة؛ لأن مداومة تركها تدل على نوع تهاونٍ بالدِّين.
نعم؛ إن قصد بتركها الاستخفافَ بها والرغبة عنها. . كفر، وإنما ترك صلى الله عليه وسلم تنبيهَهُ عليها تيسيرًا وتسهيلًا عليه؛ لقرب عهده بالإسلام وخشيةً من نفرته لو أكثر عليه، مع العلم بأنه إذا تمكَّن الإسلام من قلبه. . شرح اللَّه تعالى صدره، ورغب فيما رغب فيه بقية الصحابة من مثابرتهم على التطوعات؛ كمثابرتهم على الفرائض اغتنامًا لما جاء من عظيم ثوابها.
ونظير هذا: من سأله صلى الله عليه وسلم عن الصلوات، فقال له:"خمس" فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع" ثم سأله عن جملةٍ من الشرائع وهو يجيبه بالواجب فيقول: هل عليَّ غيرها؟ فيقول: "لا، إلا أن تطوع" فقال: واللَّه لا أتطوع شيئًا ولا أنقص مما فرض اللَّه تعالى عليَّ شيئًا (3)، وفي رواية: لا أزيد على هذا (4)؛ أي: شيئًا من التطوع، وليس مراده أنه لا يعمل بشيءٍ من شرائع الإسلام غير ما ذكر؛ بدليل الرواية السابقة: ولا أنقص، فقال صلى الله عليه وسلم:"أفلح إن صدق"(5)، وفي رواية:"إن تمسَّك بما أُمِر به. . دخل الجنة"(6) وسُمي
(1) أخرجه مسلم (382)، وابن خزيمة (400)، وابن حبان (4753) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(2)
سيأتي تخريجه والكلام عليه (ص 596) وهو الحديث الثامن والثلاثون من أحاديث المتن.
(3)
أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11) عن سيدنا طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه.
(4)
أخرجها البخاري (1397) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري (1891) عن سيدنا طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه.
(6)
عند مسلم (13) عن سيدنا أبي أيوب رضي الله عنه.
مفلحًا؛ لأن المحافظة على الفرائض وحدها فلاحٌ أيُّ فلاح، وضم التطوع إليها إنما هو زيادةٌ في الفلاح.
قيل: ومن المعلوم أن هذا ونحوه لا يسوغ لهم ترك الوتر، ولا ترك صلاة العيدين، ولا غير ذلك مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في جماعةٍ من المسلمين. اهـ
وهو مجرد دعوى قصد به الاستدلال على وجوب نحو صلاة العيد والوتر، ولا دليل فيه لذلك؛ إذ قوله صلى الله عليه وسلم:"لا، إلا أن تطوع". . صريحٌ في عدم وجوب الوتر والعيد وغيرهما، لا عينًا ولا كفاية، فمن ثَمَّ أخذ به الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه.
(رواه مسلم) وهو جامعٌ للإسلام أصولًا وفروعًا؛ لأن أحكام الشريعة إما قلبيةٌ، أو بدنيةٌ، وعلى التقديرين: إما أصليةٌ، أو فرعيةٌ، فهي أربعةٌ بحسب القسمة، ثم جميعها إما مأذونٌ فيه وهو الحلال، أو ممنوعٌ منه وهو الحرام.
و (اللام) في (الحلال)(1) -والمراد به: المأذون في فعله، واجبًا كان، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو مكروهًا- وفي (الحرام) للاستغراق، فإذا أحلَّ كلَّ حلالٍ وحرَّم كل حرامٍ. . فقد أتى بجميع وظائف الشرع، وذلك مستقلٌّ بدخول الجنة.
(ومعنى) قوله: (حرمت الحرام: اجتنبته، ومعنى) قوله: (أحللت الحلال: فعلته معتقدًا حله [واللَّه أعلم])(2) فيه نظر، وأوجه منه قول ابن الصلاح:(الظاهر: أنه قصد به اعتقاد حرمته، وألَّا يفعله، بخلاف تحليل الحلال؛ فإنه يكفي فيه مجرد اعتقاد كونه حلالًا وإن لم يفعله) اهـ (3)، ويوجَّه بأنا لسنا مكلَّفين بفعل الحلال من حيث ذاته، بل لمصالح تترتب على فعله، فلم يكن فعله مشترطًا في دخول الجنة، بخلاف الحرام؛ فإنا مكلَّفون باجتنابه، وباعتقاد تحريمه لذاته فيهما من غير نظرٍ لما يترتب عليه.
* * *
(1) في بعض النسخ: (واللام في الحلال للجنس. . .).
(2)
ما بين معقوفين زيادة من نسخ المتن.
(3)
انظر "صيانة صحيح مسلم"(ص 145).