المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثالث [أركان الإسلام] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَي خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَام الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (1).

(عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّه بن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنهما أشار به إلى أنه ينبغي لكل من ذكر صحابيًا أبوه صحابيٌّ أن يترضَّى عنهما.

وابن عمر هذا كان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وزهادهم، واعتزل الفتنة، فلم يقاتل مع علي ولا مع معاوية ورعًا، ثم لما بانت له الفئة الباغية. . ندم على عدم قتاله مع علي كرم اللَّه تعالى وجهه.

ولد قبل البعثة بسنة، أسلم مع أبيه بمكة وهو صغير، وقيل: قبله، وهاجر معه، وقيل: قبله، ولم يشهد بدرًا، وكان عمره عام أُحُدٍ أربعَ عشرة سنة، فاستصغره صلى الله عليه وسلم، ثم في عام الخندق بلغ خمس عشرة سنة، فأجازه صلى الله عليه وسلم، ثم لم يتخلَّف بعدُ عن سرية من سرايا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم لشقيقته حفصة رضي اللَّه تعالى عنها:"إن أخاكِ رجلٌ صالحٌ لو أنه يقوم الليل"(2) فلم يترك قيامه بعدُ.

(1) صحيح البخاري (8)، وصحيح مسلم (16/ 21). وفي نسخ المتن:(رواه) بدل (أخرجه).

(2)

أخرجه البخاري (7016) وليس عنده قوله: "لو أنه يقوم الليل" إلا أن الكُشْمِيهَني في روايته عن الفربري زاد: "لو كان يصلي من الليل" كما ذكر الإمام ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الفتح"(12/ 404)، والحديث عند مسلم (2479) بنحوه.

ص: 188

قال جابر: (ما منَّا إلا من نال من الدنيا ونالت منه إلا عمر وابنه)(1).

وأُولع بالحج أيام الفتنة وبعدها، وكان من أعلم الناس بالمناسك، وكثيرَ الصدقة، سيما بما يستحسنه من ماله، ولمَّا عرفت أرقاؤه منه ذلك. . كانوا يقبلون على الطاعة ويلازمون المسجد؛ ليعتقهم، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال:(مَنْ خدعنا باللَّه انخدعنا له)(2)، قال نافع: أعتق ألف رقبةٍ أو أَزْيد.

قيل: وحج ستين حجة، واعتمر ألف عمرة، وحمل على ألف فرسٍ في سبيل اللَّه تعالى.

مات عن ستٍّ وثمانين سنة، وأفتى في الإسلام ستين سنة، توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين شهيدًا، فإن الحجَّاج سفِهَ عليه، فقال له عبد اللَّه:(إنك سفيهٌ مسلَّطٌ)، فعَزَّ ذلك عليه، فأمر رجلًا فسمَّ زُجَّ رمحه (3)، فزحمه في الطواف ووضع الزُّج على قدمه، فمرض أيامًا، ولما دخل الحجَّاج ليعوده فسأله عن الفاعل وقال: قتلني اللَّه إن لم أقتله. . قال: (لستَ بفاعل)، قال: ولِمَ؟ قال: (لأنك الذي أمرتَ به)(4)، فأوصى أن يدفن في الحِلِّ، فلم تنفذ هذه الوصية، فدفن بذي طُوى في مقبرة المهاجرين، وقيل: بفَخٍّ.

روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديثٍ وست مئةٍ وثلاثون حديثًا، اتفق الشيخان منها على مئة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانين، ومسلمٌ بأحد وثلاثين.

(قال: سمعت رسول اللَّه) وفي نسخة: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بُني الإسلام) أي: أُسِّس، واستعمال البناء الموضوع للمحسوسات في المعاني مجازٌ، علاقته المشابهة، شبَّه الإسلامَ ببناءٍ عظيمٍ مُحكَمٍ، وأركانَهُ الآتية بقواعد ثابتةٍ محكمةٍ حاملةٍ لذلك البناء، فتشبيه الإسلام بالبناء استعارةٌ بالكناية، وإثبات البناء له استعارة ترشيحية.

(1) أخرج نحوه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(31/ 107)، وانظر "سير أعلام النبلاء"(3/ 211).

(2)

أخرجه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(31/ 133)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 294).

(3)

الزج -بالضم-: الحديدة التي في أسفل الرمح.

(4)

انظر نحوه في "سير أعلام النبلاء"(3/ 229 - 230).

ص: 189

(على) دعائم أو أركان (خمس) وهي خصاله المذكورة، قيل: المراد القواعد، ولذلك لم تلحقها التاء، ولو أراد الأركان. . لألحقها، وفيه نظر؛ لأن المعدود إذا حذف. . يجوز حذف التاء؛ نحو:{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، "من صام رمضان، وأتبعه ستًا من شوال. . كان كمن صام الدهر كله"(1)، فلا دليل فيه على أن المراد واحدٌ منهما.

نعم؛ في رواية لمسلم: "خمسة"(2)، وهي صريحةٌ في إرادة الأركان، وتقدير (خمس) وصفًا أصوبُ من تقديره مضافًا؛ لجواز حذف الموصوف إذا علم، بخلاف المضاف إليه، وفي رواية:"خمس دعائم"(3)، وهي لا تُعيِّن -بل ولا تقتضي- أن المحذوف هو المضاف إليه.

(شهادة) بجره مع ما بعده بدلًا من (خمس) وهو الأحسن، ويجوز رفعه بتقدير مبتدأ؛ أي: أحدها، أو خبر، أي: منها، وهو أَولى؛ لإيثارهم حذفه على حذف المبتدأ؛ لأن الخبر كالفضلة بالنسبة إليه.

وخُصَّتْ هذه الخمس بكونها أساسَ الدين وقواعدَه، عليها يُبنى وبها يقوم، ولم يضم إليها الجهاد مع أنه المُظْهر للدين، ومع كونه ذروةَ سنام الأمر كما يأتي، وذروة سنامه: أعلى شيء فيه؛ لأنها فروضٌ عينيةٌ لا تسقط، وهو فرض كفايةٍ يسقط بأعذارٍ كثيرةٍ، بل قال كثيرون بسقوط فرضه بعد فتح مكة. قيل: ولأنه لم يكن فُرِضَ إذ ذاك.

وأجاب بعضهم بأن فرضيته غير مستمرة؛ لزوالها بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام؛ إذ لم يبق غير ملة الإسلام، بخلاف هذه الخمسة؛ فإن فرضيتها باقيةٌ إلى قيام الساعة، ولا يلزم من كونه ذروة سنامه أنه من أركانه التي بُني عليها.

(1) أخرجه مسلم (1164)، وأبو داوود (2433)، والترمذي (759) عن سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه بنحوه.

(2)

صحيح مسلم (16) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(413) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 190

(أن لا إله إلا اللَّه) وفي روايةٍ للبخاري تعليقًا: "إيمان باللَّه ورسوله"(1)، وفي أخرى لمسلم:"على أن تعبد اللَّه، وتكفر بما دونه"(2)، وفي أخرى:"على أن توحد اللَّه"(3) قيل: الأُولى نقلٌ باللفظ، والأخريات نقلٌ بالمعنى. اهـ

ولا يتعين ذلك؛ لجواز أنه صلى الله عليه وسلم قال كلَّ لفظٍ في مجلس، أو أنه غاير ليفيد أن المدار على وجود الإيمان باللَّه ورسوله، لا خصوصية لفظ الشهادتين، على ما مر في حديث جبريل.

(وأن محمدًا عبده ورسوله) مر الكلام عليهما في الخطبة، وعلى هذه الخمس في حديث جبريل، فلا نطيل بإعادته.

(وإقام الصلاة) أصله: إقامة؛ فحذفت تاؤه؛ للازدواج مع ما بعده كما وقع في القرآن.

(وإيتاء الزكاة) إلى أهلها، فحذف للعلم به (4)، ورتبت هذه الثلاثة هكذا في سائر الروايات؛ لأنها وجبت كذلك؛ إذ أول ما وجب الشهادتان، ثم الصلاة، ثم الزكاة، قال بعضهم: وفرضها سابقٌ فرضَ الصوم السابق لفرض الحج. اهـ

لكن قال بعض المتأخرين المطلعين على الفقه والحديث: لم يتحرر لي وقت فرض الزكاة.

أو تقديمًا للأفضل فالأفضل (5)، والأوكد فالأوكد، قيل: فيستنبط منه أنه: إذا

(1) صحيح البخاري (التوحيد، باب قول اللَّه تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا}. واللفظ هنا ليس فيه موضع استشهاد، وهو: وسئل أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان باللَّه ورسوله. . . "، والرواية التي كان ينبغي الإشارة إليها ليست معلقة، بل هي موصولة، وهي عند البخاري (4515): "بني الإسلام على خمس: إيمان باللَّه ورسوله" وهي موقوفةٌ على سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما، فلعل ذلك سهو أو سبق قلم، واللَّه أعلم.

(2)

صحيح مسلم (16/ 20) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه:"أن يُعبد اللَّهُ، ويُكفَرَ بما دونه".

(3)

صحيح مسلم (16/ 19) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه:"على أن يُوحَّدَ اللَّهُ".

(4)

أي: فحذف المفعول به الثاني؛ وهو (إلى أهلها) للعلم به؛ لأن فعل (آتى) يتعدَّى إلى مفعولين.

(5)

معطوف على قوله قبل نحو سطرين: (لأنها وجبت كذلك)، وفي "حاشية المدابغي":(قوله: "أو تقديمًا" أي: أو رتبت تقديمًا. . . إلخ).

ص: 191

تعذَّر الجمع بينهما، كمن ضاق عليه وقت صلاة، وتعيَّن عليه فيه أداء زكاةٍ لضرورة المستحِق. . قدم الأوكد، وهو الصلاة. اهـ

وليس على إطلاقه، بل القياس: أن المستحِق إن لحقه ضررٌ بتقديم الصلاة. . حرم تقديمها، ووجب إعطاؤه؛ أخذًا من إيجابهم إخراجَها عن وقتها إذا عارضها إنقاذُ نحو غريق، أو خوف انفجار ميتٍ لو ترك تجهيزه لأجلها؛ لأن تداركها ممكنٌ بالقضاء، ولحوق الضرر لا يتدارك، ولو تعارضت صلاة العشاء وإدراك الحج. . وجب تقديمه وتركها؛ لأنه يشق قضاؤه بخلافها.

(وحج البيت، وصوم رمضان) فيه أن الشرع تعبَّد الناسَ في أموالهم وأبدانهم، فلذلك كانت العبادة إما بدنيةً محضةً كالصلاة، أو ماليةً كالزكاة، أو مركبةً منهما كالأخيرين؛ لدخول التكفير بالمال فيهما (1).

وفي روايات: "وصيام رمضان، وحج البيت" قيل: الأُولى وهمٌ؛ لأن ابن عمر -كما رواه مسلم- زجر من قال له: أتقدِّم الحج على الصوم؟! ثم عكس وقال: هكذا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. اهـ (2)

والصواب: أنها ليست وهمًا؛ فإنها صحَّت عن ابن عمر من طريق، قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:(والأظهر -واللَّه أعلم-: أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، مرةً بتقديم الحج، ومرةً بتقديم الصوم، ورواه أيضًا على الوجهين في وقتين، فلما ردَّ عليه الرجل وقدَّم الحج. . قال ابن عمر: لا ترد على ما لا علم لك به، ولا تتعرَّض لما لا تعرفه، ولا تقدح فيما لا تتحققه، بل تقديم الصوم (3)، هكذا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا نفي سماعه على

(1) فائدة: إن الحج يكفر الصغائر اتفاقًا، وكذا الكبائر على الأظهر كما قاله الأُبِّي وابن حجر، وأما التبعات. . فقال القرافي: لا يسقطها، وظاهر كلام ابن حجر وغيره إسقاطه إياها؛ للأحاديث الواردة في ذلك، وأجمعوا على عدم سقوط قضاء ما ترتب عليه من الصلوات والكفارات في حقوق الآدميين من دَينٍ وغيره. اهـ، وقال الزواوي في "شرح المختصر": إنه يغفر الصغائر والكبائر حتى التبعات إذا مات في الحج أو بعده ولم يمكنه أداؤها. اهـ "الفتوحات الوهبية"(ص 90)

(2)

انظر "صحيح مسلم"(16) و (16/ 22) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

كذا في النسخ، والذي في "شرح مسلم":(بل هو بتقديم الصوم).

ص: 192

الوجه الآخر، ويحتمل أنه كان سمعه بالوجهين، ثم لما ردَّ عليه الرجل. . نسي الوجه الذي رده فأنكره).

قال: (وأما قول ابن الصلاح: محافظته على ما سمعه، ونهيه عن عكسه حجةٌ لكون الواو للترتيب، وهو مذهب كثيرٍ من فقهاء شافعيين وشذوذٍ نحويين، وعلى مقابله الأصح إنما أنكر؛ لأن رمضان فُرِض في شعبان في السنة الثانية، والحج فُرِض سنة ستٍّ أو تسع، فرُتِّبا ذكرًا لترتيبهما فرضًا، ورواية تقديم الحج كأنها صدرت ممن يرى الرواية بالمعنى، فقدَّم وأخَّر نظرًا إلى جواز تأخير الأول، والأهم في الذكر. . فضعيفٌ؛ لِمَا مر من صحة الأمرين روايةً ومعنًى من غير تنافٍ بينهما، فلا يجوز إبطال إحداهما، ولأن فتح باب احتمال التقديم والتأخير في مثل هذا قدح في الرواة والروايات؛ إذ لو فُتح ذلك. . لم نثق بشيءٍ منها إلا القليل، وهو باطلٌ؛ لما فيه من المفاسد، وتعلُّقِ مَنْ يتعلق به ممن في قلبه مرض) انتهى ملخصًا (1).

وهو ظاهرٌ جليٌّ، وتعجَّبَ بعض الشارحين من إنكاره احتمال التقديم والتأخير، واعترضه بما حاصله: نص العلماء على وقوعه في القرآن صريحًا أو احتمالًا؛ نحو: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} إذ الأصل: أحوى غثاء؛ إذ الأحوى: الأخضر الضارب إلى سواد، والغثاء: اليابس المتفتت، وساق آياتٍ كثيرةً أُخر؛ منها:{الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآيةَ، ففيها تقديمٌ وتأخير؛ لاقتضاء نظمها أن السفر والمرض حدثان، وتقديرها: إذا قمتم إلى الصلاة، أو جاء أحدٌ منكم من الغائط، أو لامستم النساء. . فاغسلوا وامسحوا ما ذُكِر، فإن كنتم جنبًا. . فاطَّهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ فلم تجدوا ماءً. . فتيمموا. . . إلخ.

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ظاهرها: اشتراط العَود أيضًا في الكفارة، فيؤخر:{ثُمَّ يَعُودُونَ} عن: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} الآيةَ، فيه ذلك؛ أي: له معقباتٌ من أمر اللَّه، يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فوق اثنتين؛ أي: اثنتين فما فوق.

(1) انظر "شرح صحيح مسلم"(1/ 178)، وانظر قول الإمام ابن الصلاح رحمه اللَّه تعالى في "صيانة صحيح مسلم"(ص 146 - 147).

ص: 193

قال (1): فإذا كان هذا التقدير عند العلماء في نص القرآن. . فكيف يبعد أن يكون في غيره؟! على أنه جاء في الجملة الواحدة؛ كما في: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"(2) أي: ذى: أمه ذكاةٌ له، على رواية الرفع، ونحو ذلك كثيرٌ، فأراد الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى سدَّ بابٍ يتعذَّر سده، ويستحيل رده، فحذارِ حذارِ من الاغترار بهذا القول. اهـ

وهو في غاية السقوط؛ لأن النووي لم يمنع جواز التقديم والتأخير من حيث هو، ولا عند مقتضٍ له، وفَهْمُ ذلك من عبارته دليلٌ على مزيد عماية وغباوة، وإنما الذي يدعيه: أنَّا إذا فتحنا احتمال ذلك مع صحة النظم بدونه. . أدَّى إلى إلغاء كثيرٍ من الأدلة؛ لأنا إذا أوردناها. . يقال لنا: يحتمل أن فيها تقديمًا وتأخيرًا، وطروق الاحتمال المؤثر للدليل يسقطه.

وصحة هذه الدعوى في غاية الظهور والتحقيق، فاتضح رد تجويز ابن الصلاح لاحتمالهما في الحديث، وبان فساد ما اعتُرِض به عليه، على أن ما ساقه من الآيات إما متعين الحمل عليهما كالآية الثانية (3)، وإما غير متعيّنة كالرابعة؛ للاستغناء عنهما بحَمْل (مِن) في:{مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أنها بمعنى (الباء) والبصريون إنما يمنعون تأويل حرفٍ بحرفٍ حيث صحَّ المعنى بدون ذلك التأويل، والخامسةِ؛ لأن حكم الاثنتين (4) عُلم بالأولى من القياس على الأختين، وإما غير جائزة كالثالثة (5)؛ لأن نظمها اقتضى شرطية العود للكفارة، وبه قال الشافعي وغيره، فلا يجوز إخراج هذا النظم عن ظاهره إلا بدليل.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (ولا يعارض ما مر عن ابن عمر رواية "مستخرج أبي عوانة": أنه قال للرجل: اجعل صيام رمضان آخرهن؛ كما سمعتُ من في

(1) هذا القول للشارح المشار إليه قبل قليل بقوله: (وتعجب بعض الشارحين. . .).

(2)

أخرجه الحاكم (4/ 114)، وأبو داوود (2828)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 334) عن سيدنا جابر رضي الله عنه.

(3)

وهي آية الوضوء.

(4)

في هامش (غ): (الابنتين) وأشار بأنها نسخة.

(5)

أي: آية الظهار.

ص: 194

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لاحتمال جريان القضية لرجلين) اهـ (1)

وهذا أَولى من جواب ابن الصلاح بأن هذه لا تقاوم روايةَ مسلم السابقة (2)؛ لأنها وإن لم تقاومها فهي صحيحةٌ أيضًا، فالجمع بينهما أَولى من إلغاء إحداهما.

واستفيد من بناء الإسلام على ما مر، مع ما هو معلومٌ أن البيت لا يثبت بدون دعائمه: أن من تركها كلها. . فهو كافر، وكذا من ترك الشهادتين؛ إذ هما الأساس الكلي الحامل لجميع ذلك البناء ولبقية تلك القواعد، كما استفيد من أدلةٍ أخرى؛ كالخبر الصحيح أن:"رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد"(3)، فالمراد بـ (الإسلام) فيه: الشهادتان بدليل سياقه، بخلاف من ترك غيرهما؛ فإنه إنما يخرج عن كمال الإسلام بقدر ما ترك منها؛ لبقاء البناء حينئذٍ، ويدخل في الفسق لا في الكفر، إلا إن جحد وجوبه، وعليه حمل الأكثرون خبر مسلم:"بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"(4).

وخالف الإمام أحمد وآخرون فأخذوا بظاهره من كُفْرِ تاركها مطلقًا، وبالغ إسحاق فقال: عليه إجماع أهل العلم، وقال غيره: عليه جمهور أهل الحديث، وأجرت طائفةٌ ذلك في الأركان الثلاثة، وهو روايةٌ عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وبعض المالكية، بخلاف متعلق الإيمان السابق في حديث جبريل؛ فإن تَرْكَ واحدٍ منه كفرٌ (5).

وعُلم مما قدمته ثَمَّ في الكلام على حقيقة الإسلام والإيمان: أن من أتى بهما. . مؤمنٌ كامل، ومن تركهما. . كافر كامل، ومن ترك الإسلام وحده. . فاسق، ويسمى مؤمنًا ناقصًا، ومن ترك الإيمان وحده. . منافقٌ، ويسمى مسلمًا ظاهرًا.

(1) انظر "شرح صحيح مسلم"(1/ 179).

(2)

انظر "صيانة صحيح مسلم"(ص 146).

(3)

سيأتي تخريجه (ص 480) وهو الحديث التاسع والعشرون من أحاديث المتن.

(4)

أخرجه مسلم (82)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 365)، والإمام أحمد (3/ 389) عن سيدنا جابر رضي الله عنه.

(5)

قوله: (فإن ترك واحدٍ منه) أي: من متعلق الإيمان. وفي بعض النسخ: (منها) أي: متعلقات الإيمان؛ لأنه مفرد مضاف فيعم. اهـ "مدابغي"

ص: 195