الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]
عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ دُلَّنِي عَلَي عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، فَقَالَ:"ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ" حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ (1).
(عن أبي العباس) وقيل: أبي يحيى (سهل) وقيل: سعد (بن سعد الساعدي) الأنصاري الخزرجي المدني، كان يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم ابن خمس عشرة سنة (2)، ومات سنة ثمان وثمانين، وقيل: إحدى وتسعين بالمدينة، وهو آخر من مات بها من الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم على قول، وقيل: جابر كما مر.
وأحصن سبعين امرأةً، وشهد قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين. وكان اسمه حزنًا فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سهلًا (3).
(رضي اللَّه) تعالى (عنه) ينبغي (عنهما) لأن أباه صحابي، روي له مئة حديثٍ وثمانية وثمانون، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر.
(قال جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه؛ دُلَّني على عملٍ إذا عملته. . أحبني اللَّه وأحبني الناس، فقال: ازهد) من الزهد بضم أوله، وقد
(1) سنن ابن ماجه (4102).
(2)
أخرجه الحاكم (3/ 571 - 572).
(3)
أخرجه الحاكم (3/ 571).
يفتح؛ وهو لغةً: الإعراض عن الشيء احتقارًا له، من قولهم: شيءٌ زهيد؛ أي: قليل، وفي خبر:"إنك لزهيد"(1)، وفي آخر:"أفضل الناس مؤمنٌ مُزْهَد"(2) أي: قليل المال، وزهيد الأكل: قليله.
وشرعًا: أخذ قدر الضرورة من الحلال المتيقن الحل، فهو أخص من الورع؛ إذ هو ترك المشتبه، وفيهما أقوال أخر، وهذا هو زهد العارفين، وهو المراد هنا، وأعلى منه زهد المقربين؛ وهو الزهد فيما سوى اللَّه من دنيا وجنة وغيرهما؛ إذ ليس لصاحب هذا الزهد مقصدٌ إلا الوصول إليه تعالى والقرب منه، ويندرج فيه كل مقصودٍ لغيرهم (كل الصيد في جوف الفرا)(3).
وأما الزهد في الحرام. . فواجبٌ عامٌّ، وفي المشتبه فمندوبٌ عام، وقيل: واجب؛ كما مر ذلك مبسوطًا بأدلته مع بيان الرد على من اعتمد الوجوب.
(في الدنيا) باستصغار جملتها، واحتقار جميع شأنها؛ لتصغير اللَّه تعالى لها، وتحقيره إياها، وتحذيره من غرورها في آيٍ كثيرةٍ من كتابه العزيز؛ نحو:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} ، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} ، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} . . . إلى {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} لأن استصغارها واحتقارها كذلك يستلزم إهانتها، وترك ما لا قربة فيه من لذَّاتها، والإعراض عن شهواتها ورَاحاتها، والاقتصار على أدنى ما يقيم نفسه، اللهم إلا زائدًا نُدِب أخذه؛ كاتخاذ ثوبٍ ثانٍ لنحو جمعةٍ أو عيدٍ بقصد إظهار النعمة؛ لأنه تعالى يحب إظهار أثر نعمته على عبده كما في الحديث، أو راحة نُدِب فعلها كنوم القيلولة؛ للاستعانة به على قيام الليل.
فالزاهد: المستصغر المحتقر للدنيا كما تقرر، فلا يفرح بشيءٍ منها، ولا يحزن على فقده، ولا يأخذ منها إلا ما يُعينه على طاعة ربه، أو ما أُمِر بأخذه، مع دوام الذكر والمراقبة والتفكر في الآخرة، وهذا أرفع أحوال الزهد؛ إذ مَنْ وصل إليه. .
(1) أخرجه ابن حبان (6941)، والترمذي (3300) عن سيدنا علي رضي الله عنه.
(2)
ذكره العلامة المناوي رحمه الله في "فيض القدير"(2/ 50). وقوله: (مزهد) بضم الميم وسكون الزاي وفتح الهاء: قليل المال.
(3)
تقدم تخريجه (ص 93).
إنما هو في الدنيا بشخصه فقط، وأما بمعناه. . فهو مع اللَّه تعالى بالمراقبة والمشاهدة لا ينفك عنه.
واعلم: أن العلماء فسروا الدنيا بأنها ما حواه الليل والنهار، وأظلته السماء، وأقلته الأرض، واختلفوا في المزهود فيه منها، فقيل: الدينار والدرهم، وقيل: المطعم، والمشرب، والملبس، والمنكح، والمسكن، وقيل: الحياة.
والوجه كما علم مما مر: أنه كل لذةٍ وشهوةٍ ملائمةٍ للنفس مما ذكر وغيره، حتى الكلام بين مستمعين له ما لم يقصد به وجه اللَّه تعالى، وفي حديث مرفوع خرجه الترمذي وقال: غريب، وفي إسناده مَنْ هو منكر الحديث، وابن ماجه:"الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا: ألَّا تكون بما في يديك أوثق مما في يد اللَّه، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أُصبتَ بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك"(1) ولا يعارض ما مر في تفسير الزهد؛ لأن الترمذي قال: إنه غريبٌ، وفي سنده مَنْ هو منكر الحديث.
ولأن أحمد رواه موقوفًا على أبي مسلم الخولاني بزيادة: (وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء)(2) وهو الصحيح، وقد اشتمل على تفسير الزهد في الدنيا بثلاثة أمورٍ كلها من أعمال القلب دون الجوارح، ومن ثم كان أبو سليمان يقول: لا تشهد لأحدٍ بالزهد؛ لأنه في القلب.
ومنشأ أول تلك الثلاثة (3): من صحة اليقين وقوته، فإنه تعالى تكفَّل بأرزاق عباده كما في آياتٍ كثيرةٍ من كتابه، وفي حديثٍ مرفوع:"من سرَّه أن يكون أغنى الناس. . فليكن بما في يد اللَّه أوثق منه بما في يده"(4).
وقال الفضيل: (أصل الزهد الرضا عن اللَّه عز وجل (5).
(1) سنن الترمذي (2340)، وسنن ابن ماجه (4100) عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(10289)، وانظر "جامع العلوم والحكم"(2/ 179 - 180).
(3)
وهي: ألَّا يكون بما في يده أوثق مما في يد اللَّه، وأن يكون مادحه وذامه في الحق سواء. . . إلخ. اهـ هامش. (غ)
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق"(5) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(48/ 399).
والقنوع هو الزهد، وهو الغنى، فمن حقَّق اليقين. . وثق في أموره كلها باللَّه تعالى، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن التعلُّق بالمخلوقين رجاءً وخوفًا، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك. . كان زاهدًا في الدنيا حقيقةً، وكان من أغنى الناس وإن لم يكن له شيءٌ من الدنيا.
ومنشأ ثانيها: من كمال اليقين، ومن ثم روي: أن من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا"(1).
ومن كلام الإمام علي كرم اللَّه وجهه: (من زهد في الدنيا. . هانت عليه المصائب)(2).
ومنشأ ثالثها: من سقوط منزلة المخلوقين من القلب، وامتلائه من محبة الحق، وإيثار رضاه على رضا غيره، وألَّا يرى لنفسه قدرًا بوجهٍ، ومن ثم كان الزاهد حقيقةً هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها؛ ولهذا قيل: الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، وقيل لبعض السلف: من معه مالٌ هل هو زاهدٌ؟ فقال: نعم إن لم يفرح بزيادته، ولم يحزن بنقصه.
وقال سفيان الثوري: (الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء)(3)، ومن دعائه:(اللهم، زهِّدنا في الدنيا، ووسِّع علينا منها، ولا تَزْوِها عنا فترغبنا فيها)(4).
وقال أحمد: هو قصر الأمل، واليأس مما في أيدي الناس؛ أي: لأن قصره يوجب محبة لقاء اللَّه تعالى بالخروج من الدنيا، وهذا نهاية الزهد فيها، والإعراض عنها.
(1) أخرجه الترمذي (3502) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(348) عن سيدنا علي رضي الله عنه مرفوعًا، فليتنبه.
(3)
أخرجه البيهقي في "الزهد"(466)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 386).
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال"(60)، إلا أنه قال: عن سفيان الثوري رحمه اللَّه تعالى قال: (كان من دعائهم: اللهم. . .) فليتنبه
وفي حديث مرسل: يا رسول اللَّه، مَنْ أزهدُ الناس؟ فقال:"من لم ينس القبر والبلى، وترك أفضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعدَّ غدًا من أيامه، وعدَّ نفسه من الموتى"(1).
وقد قسَّم كثيرٌ من السلف الزهد إلى ثلاثة أقسام: زهد فرض؛ وهو اتقاء الشرك الأكبر ثم الأصغر، وهو أن يراد بشيءٍ من العمل قولًا أو فعلًا غير اللَّه تعالى، ثم اتقاء جميع المعاصي.
وعلى هذا: الزاهد في الحرام فقط قيل: يسمى زاهدًا، وعليه الزهري وابن عيينة وغيرهما، وقيل: لا يسماه إلا إن ضم لذلك الزهد بنوعيه الآخرين، وهما ترك الشبهات رأسًا، وفضول الحلال، ومن ثم قال بعضهم: لا زهد اليوم، لفقد المباح المحض.
وقد جمع أبو سليمان الداراني أنواع الزهد كلها في كلمةٍ واحدةٍ فقال: (هو ترك ما شغلك عن اللَّه عز وجل (2).
واعلم: أن الذم الوارد في الكتاب والسنة في الدنيا ليس راجعًا لزمانها وهو الليل والنهار؛ فإن اللَّه تعالى جعلهما خِلْفةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورًا، ولا لمكانها وهو الأرض؛ لأن اللَّه تعالى جعلها لنا مهادًا، ولا إلى ما أودعه تعالى فيها من الجمادات والحيوانات؛ لأن ذلك كله من نعمه تعالى على عباده، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وإنما هو راجعٌ إلى الاشتغال بما فيها عما خُلقنا لأجله من عبادته تعالى، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
ثم من بني آدم مَنْ أنكر المعاد، وهؤلاء هم أهل التمتع بالدنيا، على أن منهم من كان يأمر بالزهد فيها، ويرى أن كثرتها توجب الهمَّ والغمَّ، ومن ثم قال أصحابنا: لا يكفي الخطيبَ عن الوصية بالتقوى الاقتصارُ على ذم الدنيا؛ لأن ذمها معلومٌ لكل أحدٍ حتى لمنكري المعاد، وبقيتهم يقرُّون بالمعاد، لكنهم منقسمون إلى ظالمٍ لنفسه، ومقتصدٍ، وسابقٍ بالخيرات:
(1) أخرجه البيهقي في "الشعب"(10081).
(2)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(9/ 258).
فالأول -وهم الأكثرون-: هم الذين وقفوا مع زهرة الدنيا بأخذها من غير وجهها، واستعمالها في غير وجهها، فصارت أكبر همهم، وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، وكل هؤلاء لم يعرف المقصود منها، ولا أنها منزل سفرٍ يُتَزَوَّد منها إلى دار الإقامة وإن آمن به مجملًا.
والثاني: أخذها من وجهها، لكنه توسَّع في مباحاتها، وتلذَّذ بشهواتها المباحة، وهو وإن لم يعاقب عليه لكنه ينقص من درجاته في الآخرة بقدر توسُّعِهِ في الدنيا.
وصح عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: (لا يصيب أحدٌ من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند اللَّه وإن كان عليه كريمًا)(1).
وروى الترمذي: "إن اللَّه إذا أحبَّ عبدًا. . حماه الدنيا كما يَظَلُّ أحدكم يحمي سقيمه الماء"(2).
والحاكم: "إن اللَّه ليحمي عبده الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه"(3).
ومسلم: "الدنيا سجن المؤمن -أي: بالنسبة لما أمامه من النعيم الأخروي المقيم- وجنة الكافر"(4) أي: بالنسبة لما أمامه من العذاب الأليم الدائم المقيم.
والثالث: هم الذين فهموا المراد من الدنيا، وأن اللَّه سبحانه وتعالى إنما أسكن عباده فيها، وأظهر لهم لذَّاتها ونضرتها، ليبلوهم أيهم أحسن عملًا، كما نصَّ على ذلك في غير آية، قال بعض السلف: يعني مَنْ هو أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة.
ولمَّا بيَّن تعالى أنه جعل ما على الأرض زينةً لها، ليبلوهم أيهم أحسن عملًا. . بيَّن انقطاع ذلك ونفاده بقوله:{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} فمن فهم أن هذا هو مآلها. . جعل همه التزود منها لدار القرار، واكتفى من الدنيا بما يكتفي به المسافر في
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(35771).
(2)
سنن الترمذي (2036) عن سيدنا قتادة بن النعمان رضي الله عنه.
(3)
المستدرك (4/ 208) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
صحيح مسلم (2956) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
سفره، كما كان صلى الله عليه وسلم يقول:"ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكبٍ قال في ظل شجرةٍ ثم راح وتركها"(1).
ثم من أهل هذا القسم مَنِ اقتصر من الدنيا على سدِّ رمقه فقط، وهو حال كثيرٍ من الزُّهَّاد، ومنهم من فسح لنفسه أحيانًا في تناول بعض مباحاتها، لتقوى النفس به وتنشط للعمل، ومنه خبر أحمد والنسائي:"حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب"(2)، وخبر أحمد عن عائشة:(كان صلى الله عليه وسلم يحب من الدنيا النساء والطيب والطعام، فأصاب من النساء والطيب ولم يصب من الطعام)(3).
وتناولُ الشهوات المباحة بقصد التقوي على الطاعة يصيِّرها طاعات، فلا تكون من الدنيا، ومن ثم صح على ما قاله الحاكم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "نعمت الدار الدنيا لمن تزوَّد منها لآخرته حتى يرضي ربه، وبئست الدار لمن صدَّت به عن آخرته وقصرت به عن رضا ربه، وإذا قال العبد: قبَّح اللَّه الدنيا. . قالت الدنيا: قبَّح اللَّه أعصانا لربه"(4).
ثم الحامل على الزهد أشياء:
منها: استحضار الآخرة ووقوفه بين يدي مولاه، فحينئذٍ يغلب شيطانَه وهواهُ، ويصرف نفسه عن لذات الدنيا ونعيمها، وشاهده: أن حارثة رضي اللَّه تعالى عنه لمَّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصبحت مؤمنًا حقًا. . قال له: "إن لكل حقٍّ حقيقةً، فما حقيقة إيمانك؟ " قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي حجرها ومدرها، وكأنِّي انظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني انظر إلى أهل الجنة في الجنة يتنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون، قال:"يا حارثة، عرفت فالزم"(5).
(1) أخرجه الترمذي (2377)، والإمام أحمد (1/ 441) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه. قوله. (وقال): من القيلولة، وهي النوم في الظهيرة.
(2)
مسند الإمام أحمد (3/ 128)، وسنن النسائي (7/ 61) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
مسند الإمام أحمد (6/ 72).
(4)
المستدرك (4/ 312) عن سيدنا طارق بن أشيم رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(10106) عن سيدنا أنس رضي الله عنه بنحوه.
ومثل هذا هو الذي تكون الدنيا سجنه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر".
ومن ثم قال أئمتنا: لو أوصى لأعقل الناس. . صُرف للزهاد؛ أي: لأنه لا أعقل منهم، حيث آثروا الباقي على الفاني.
ومنها: استحضار أن لذاتها شاغلةٌ للقلوب عن اللَّه تعالى، ومنقصةٌ للدرجات عنده، وموجبةٌ لطول الحبس والوقوف في ذلك الموقف العظيم للحساب، والسؤال عن شكر نعيمها.
ومنها: كثرة التعب والذُّل في تحصيلها، وكثرة غبونها، وسرعة تقلُّبها وفنائها، ومزاحمة الأراذل في طلبها، وحقارتها عند اللَّه تعالى، ومن ثم قال الفضيل:(لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت عليَّ حلالًا لا أُحاسب عليها. . لتقَدَّرتها كما تُتَقَذَّر الجيفة)(1).
ومنها: استحضار أنها وما فيها ملعونةٌ، كما في الحديث الحسن:"الدنيا ملعونةٌ (2)، ملعونٌ ما فيها إلا ذكر اللَّه وما والاه، وعالمٌ، أو متعلِّم"(3)، وفي رواية:"إلا ما ابتُغِيَ به وجه اللَّه تعالى"(4) أي: أنها وما فيها مبعدٌ عن اللَّه تعالى
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 89)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/ 414). وكان سيدنا علي رضي الله عنه يقول:(الدنيا جيفة، فمن أراد شيئًا منها. . فليصبر على مخالطة الكلاب) قلت: والمراد بالدنيا: ما زادت على الحاجة الشرعية، بخلاف ما دعت الضرورة إليه. اهـ هامش (غ)
(2)
لأنها غرت النفوس بزهوتها ولذتها، وأمالتها عن العبودية إلى الهوى حتى سلكت غير طريق الهدى، أخرج أبو نعيم في "الحلية" (1/ 84 - 85) عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية رضي الله عنه فقال له: صف لي عليًا، فقال: أَوَتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، فأخذ يصف سيدنا عليًّا رضي الله عنه، ومما قاله: فأشهد باللَّه لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه يميل في محرابه، قابضًا على لحيته، ويتململُ تململَ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول:(يا ربنا يا ربنا -يتضرع إليه- ثم يقول للدنيا: إليَّ تغررتِ، إليَّ تشوفتِ، هيهات هيهات، غرِّي غيري، قد بتتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آهٍ آه من قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق) فوكفت دموع معاوية رضي الله عنه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال:(كذا كان أبو الحسن رحمه الله. . .).
(3)
أخرجه الترمذي (2322)، وابن ماجه (4112) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
عند الطبراني في (مسند الشاميين)(612) عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه.
إلا العلم النافع الدال على اللَّه تعالى وعلى معرفته وطلب قربه، وذكر اللَّه وما والاه مما يقرب إليه تعالى، فهذا هو المقصود منها.
وقد حلف طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد فيها من هذه العبادات أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم؛ لأنه حظ العبد، ومن ثم قال كثيرٌ من المفسرين في قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} : إن الحسنة (لا إله إلا اللَّه) وليس شيءٌ خيرًا منها، ففيه تقديمٌ وتأخيرٌ؛ أي: فله منها؛ أي: بسببها ولأجلها خير.
والصواب: إطلاق ما جاءت به النصوص أن الآخرة خيرٌ من الدنيا مطلقًا؛ لخبر الحاكم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما إذا أدخل أحدكم إصبعه في اليمِّ، فما خرج منه. . فهو الدنيا"(1) فهذا نصٌّ بتفضيل الآخرة على الدنيا وما فيها من الأعمال، إذ كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل، فالعلم يتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه، فإن العلم أصله العلم باللَّه تعالى وصفاته، وفي الآخرة ينكشف الغطاء، ويصير الخبر عِيانًا، والمعرفة باللَّه تعالى رؤية له ومشاهدة.
والعمل البدني القصد به: إما اشتغال الجوارح بالطاعة وكدها بالعبادة، وهذا مرفوعٌ عن أهل الجنة، وإما اتصال القلوب باللَّه تعالى وتنزيهها بذكره، وهذا حاصلٌ لأهل الجنة على أكمل الوجوه، بل لا نسبة لما حصل لقلوبهم في الدنيا من القُرْب والأُنس إلى ما يحصل لها في الجنة من المشاهدة عِيانًا، والتمتع بسماع الكلام، لا سيما في أوقات الصلوات في الدنيا، والمقربون منهم يحصل لهم ذلك مرتين بكرةً وعشيًا: وقت صلاة الصبح والعصر، ولهذا لما ذكر صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم. . حضَّ عقبه على المحافظة على صلاة الصبح والعصر، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة القرآن لا ينقطع عنهم أبدًا، فيُلهمون التسبيح كما يُلهمون النَّفَس، ويقال لقارئهم:(اقرأ وارقَ)(2) فبان بذلك أن قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} على ظاهره؛ فإن ثواب كلمة التوحيد في الدنيا أن يصل صاحبها إلى قولها في
(1) المستدرك (4/ 319) عن سيدنا المستورد رضي الله عنه.
(2)
كما في الحديث الذي أخرجه أبو داوود (1464)، والترمذي (2914) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.
الجنة على ما يختصون به من تفاصيل العلم باللَّه تعالى، وأسمائه، وصفاته، وقربه، ورؤيته، ولذة ذكره، وغير ذلك مما لا يمكن التعبير عنه.
ومنها: استحضار أن تركها موجبٌ لرفع الدرجات، وحلول الرضوان الأكبر منه تعالى في دار الكرامات.
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يحبك) بفتح آخره؛ لأنه لما كان مجزومًا جوابًا لـ (ازهد) وأُريد إدغامه. . سكنت باؤه الأولى بنقل حركتها إلى الساكن قبلها، فاجتمع ساكنان، فحرّك الأول (1) لالتقائهما بالفتح تخفيفًا.
(اللَّه) لأنه تعالى يحب من أطاعه، ومحبته مع محبة الدنيا مما لا يجتمع كما دلَّتْ عليه النصوصُ والتجربةُ والتواترُ، ومن ثَمَّ قال صلى الله عليه وسلم:"حب الدنيا رأس كل خطيئة"(2)، واللَّه لا يحب الخطايا ولا أهلها، ولأنها لهوٌ ولعبٌ واللَّه لا يحبهما، ولأن القلب بيت الرب لا شريك له، فلا يحب أن يَشْرَكه في بيته حب دنيا ولا غيره.
والحاصل: أنَّا نقطع بأن محبَّ الدنيا مبغوضٌ عند اللَّه تعالى، فالزاهد فيها محبوبٌ له تعالى، ومحبتها الممنوعة: هي إيثارها لنيل الشهوات واللذات؛ لأن ذلك يشغل عن اللَّه تعالى.
أما محبتها لفعل الخير والتقرب به إلى اللَّه تعالى. . فهو محمودٌ؛ لخبر: "نِعْمَ المال الصالح للرجل الصالح، يصل به رحمًا، ويصنع به معروفًا"(3).
وفي أثرٍ: إذا كان يوم القيامة. . جمع اللَّه الذهب والفضة كالجبلين العظيمين، ثم يقول:(هذا مالنا عاد إلينا، سعد به قومٌ، وشقي به آخرون)(4).
ثم المحبةُ -لاستحالة حقيقتها عليه تعالى من الميل النفسي منه، وهو واضحٌ، أو
(1) كذا في النسخ إلا (ح) ففيها: (فحرك الآخر)، وفي هامش (خ):(صوابه: الثاني).
(2)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(10019) عن الحسن البصري رحمه اللَّه تعالى مرسلًا، وذكر في "جامع العلوم والحكم"(2/ 203) أنه من كلام سيدنا جندب بن عبد اللَّه الصحابي رضي الله عنه.
(3)
أخرجه ابن حبان (3210)، والبخاري في "الأدب المفرد"(299)، والإمام أحمد (4/ 197) بنحوه عن سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(4)
في هامش (أ): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرقة).
إليه؛ لأنها إن فسرت بإرادتنا. . فهي حادثةٌ، والحادث لا يتعلَّق بالقديم، وإن فسرت بما يتعلق بمستلَذٍّ محسوسٍ. . فاللَّه تعالى منزهٌ عن ذلك- المرادُ بها في حقه تعالى (1): غايتها من إرادة الثواب، فتكون صفة ذاتٍ، أو الإثابةِ فتكون صفة فعلٍ، وفي حقنا طاعة اللَّه تعالى وتعظيمنا إياه، وموافقته على جميع مراداته، مع رجاء أن يثيبنا على امتثال أمره، واجتناب نهيه، وينعم علينا بنعمه التي لا تحصى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} .
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أحبوا اللَّه لما يغذوكم به من نِعَمه"(2) فلا منعم غيره، ولا محسن إلا إياه، إذ هو الخالق للمحسن وإحسانه، فكان هو الحقيق بالمحبة؛ كما أشار لذلك صلى الله عليه وسلم بقوله:"جُبلت القلوب على حبِّ مَنْ أحسن إليها"(3)، ومن محبته تعالى محبة مَنْ أحبه من نحو نبيٍّ أو ملكٍ أو ولي.
وبيَّن الأستاذ أبو القاسم القشيري قسميها المذكورين بكلامٍ نفيسٍ (4)، حاصله: (أنها منه تعالى للعبد: إرادته لإنعامٍ مخصوصٍ عليه، كما أن رحمته إرادته مطلق الإنعام، فالمحبة أخص من الرحمة، وهي أخص من الإرادة، فإرادته تعالى وإن كانت صفةً واحدةً إلا أنها تتفاوت بحسب تفاوت متعلقاتها، فعند تعلقها بالعقوبة تسمى غضبًا، وبعموم النعم رحمةً، وبخصوصها محبةً.
ومن العبد له تعالى: حالةٌ يجدها في قلبه تلطف عن العبارة (5)، وقد تحمله تلك الحالة على تعظيمه، وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه، مع الاستئناس بدوام ذكره له بقلبه، وليست ميلًا ولا اختلاطًا، كيف وحقيقة الصمدية مقدسةٌ عن اللحوق والإحاطة، والمحب بوصف الاستهلاك في المحبوب أَولى منه بوصف الاختلاط؟! وليس لها وصفٌ ولا حدٌّ أوضح ولا أقرب للفهم من لفظ المحبة) اهـ (6)
(1) قوله: (المراد) خبر لقوله: (المحبة. . .).
(2)
أخرجه الحاكم (3/ 149) والترمذي (3789) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه القضاعي في "مسنده"(599) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
أي: محبة اللَّه تعالى لعبده، أو محبة العبد لربه تعالى.
(5)
لأن الوجدانيات إنما تعرف بالوجدان لا بالحدود والتعاريف.
(6)
انظر "الرسالة القشيرية"(ص 247) وما بعدها.
ولما نقل القرطبي هذا. . ذكر معه عن بعض أرباب القلوب أنه لم يتأول محبة العبد للَّه تعالى، حيث فسَّرها بأنها الميل الدائم بالقلب الهائم، ثم قال: فهؤلاء قد صرحوا بأن محبة العبد للَّه تعالى ميلٌ من العبد وتوقان، وحالٌ يجدها من نفسه من نوع ما يجده من محبوباته المعتادة له، وهو صحيحٌ؛ لأن النفوس مجبولةٌ على الميل إلى الحسن والجمال والكمال، فبقدر ما ينكشف من ذلك يكون الميل والتعلق، حتى ربما يفضي إلى استيلاء ذلك المعنى عليه فلا يصبر عنه، ولا يشتغل بغيره.
ثم ذلك الحسن إما محسوسٌ كالصورة الجميلة المشتهاة لنيل لذَّةٍ جسمانيةٍ، وهذا قطعي الاستحالة في حق اللَّه تعالى، وإما معنويٌّ كمن اتصف بالعلم والكرم والخلق الحسن، فهذا تميل إليه النفوس الفاضلة، والقلوب الكاملة ميلًا عظيمًا فترتاح لذكره، وتهتز لسماع أحواله، وتتشوق لمشاهدته، وتلتذُّ لذلك لذةً روحانيةً لا جسمانية، كما نجد عند ذكر الأنبياء والعلماء والكرماء من الميل واللذة والرقة والأنس وإن لم نعرف صورهم المحسوسة، بل وإن عرفنا قبحها، ولا ينكر ذلك إلا أبله أو مكابر.
ويتضاعف ذلك الميل بوصول برٍّ وإحسان من المتَّصف بذلك الجمال المعنوي إلى أن يستغرق فيه، ويذهل عن جميع أشغاله وأحواله، وإذا كان هذا في حق من جماله وكماله مشوبٌ بالنقص، ومعرضٌ للزوال. . كان مَنْ لا يشاب ذلك منه بنقصٍ، ولا يعرض لزوال، مع إنعامه الذي لا يحصى. . أولى بذلك الميل، وأحقَّ بذلك الحب، وليس ذلك إلا له تعالى وحده، ثم من خصَّه بالكمال المطلق على سائر خلقه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فمن تحقق بذلك. . كان اللَّه ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، فتأهب للقائهما، واتصف بما يرضيهما، وجانب ما يسخطهما، فأقبل عليهما، وأعرض عما سواهما إلا بإذنهما. انتهى ملخصًا، قال غيره: وهذا كلامٌ لا يرده منصفٌ، ولا ينكره إلا متعسف.
(وازهد فيما عند الناس يحبك) بفتح آخره نظير ما مر (الناس) أي: لأن قلوب غالبهم مجبولةٌ مطبوعةٌ على حب الدنيا، ومن نازع إنسانًا في محبوبه. . كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه. . أحبه واصطفاه، ومن ثم قال إمام الأئمة الشافعي رضي اللَّه
تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلَّبه ومثواه:[من الطويل]
ومن يَذُقِ الدنيا فإنِّي طَعِمْتها
…
وسِيقَ إلينا عذبُها وعذابُها
فما هي إلا جيفةٌ مستحيلةٌ
…
عليها كلابٌ همُّهُنَّ اجتذابها
فإن تجتنِبْها كنت سِلْمًا لأهلها
…
وإن تجتذِبْها نازعتك كلابُها (1)
قال بعضهم: ولا يبعد عندي أن الزاهد في الدنيا يحبه الإنس والجن، أخذًا بعموم لفظ (الناس) إذ كان يطلق لغةً على الجن والإنس.
وأخرج الطبراني وغيره خبر: "ازهد فيما في أيدي الناس تكن غنيًا"(2).
وقال الحسن: (لا يزال الرجل كريمًا على الناس ما لم يطمع فيما في أيديهم، فحينئذٍ يستخفُّون به، ويكرهون حديثه، ويبغضونه)(3).
وقال أيوب السختياني: (لا يَنْبُل الرجل حتى يعفَّ عما في أيدي الناس، ويتجاوز عما يكون منهم)(4).
وكان عمر يقول في خطبته: (إن الطمع فقرٌ، وإن اليأس غنى)(5).
وسأل ابن سلامٍ كعبًا بحضرة عمر رضي اللَّه تعالى عنهم: ما يذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد أن حفظوه وعقلوه؟ قال: يذهبه الطمع وشره النفس، وتَطَلُّبُ الحاجات إلى الناس، قال:(صدقت)(6).
وقد تكاثرت الأحاديث بالاستعفاف عن مسألة الناس، إذ مَنْ سألهم ما بأيديهم. . كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوبٌ لنفوسهم، بل لا أحبَّ إليها منه، ومن طلب محبوبك منك. . كرهته، وأما من زهد فيما بأيديهم. . فإنهم يحبونه ويكرمونه ويسودونه، كما قال أعرابيٌّ لأهل البصرة: (من سيدكم؟ قالوا: الحسن، قال: بِمَ
(1) انظر "ديوان الإمام الشافعي" رحمه اللَّه تعالى (ص 32).
(2)
انظر "المعجم الأوسط"(4424) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 20) بنحوه.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "مداراة الناس"(34).
(5)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 50).
(6)
ذكره الحافظ في "الإصابة"(3/ 299) وعزاه لابن أبي الدنيا، وأخرجه الدارمي (595، 604) بنحوه، وفيه أن السائل عمر رضي الله عنه.
سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم، فقال: ما أحسن هذا!) (1).
(حديث حسنٌ، رواه) أبو عبد اللَّه محمد بن يزيد (ابن ماجه) القزويني صاحب "السنن" ولد سنة تسع ومئتين، ومات سنة ثلاث وسبعين ومئتين.
واعترض تحسينه رواية ابن ماجه بأن في سندها من قال أحمد فيه: إنه منكر الحديث ليس بثقة، وابن معين: ليس حديثه بشيءٍ، والبخاري وأبو زرعة: منكر الحديث، وأبو حاتم: متروك ضعيف، وابن عدي وغيره: وضَّاع، وابن حبان في "الضعفاء": كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات، لا يحل الاحتجاج بخبره (2).
ويجاب بأن ابن حبان ذكره في كتاب "الثقات" ولو سُلِّم أنه ضعيفٌ. . فهو لم ينفرد به، بل رواه آخرون غيره، فالتحسين إنما جاء من ذلك وإن قيل: إن هؤلاء كلهم ضعفاء، إذ غاية الأمر أنه حسنٌ لغيره لا لذاته، وكلاهما يحتج به، بل بعض رواته هؤلاء وثَّقه كثيرون من الحفَّاظ.
(وغيره) كالعقيلي، وابن عدي، وابن أبي حاتم، والخطيب (بأسانيد حسنة) لغيرها لا لذاتها بالنظر لما قررته (3).
وهو أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام، وقد مرت (4).
وفي روايةٍ مرسلةٍ: أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه، دلني على عملٍ يحبني اللَّه عليه ويحبني الناس عليه، فقال:"أما العمل الذي يحبك اللَّه عليه. . فالزهد في الدنيا، وأما العمل الذي يحبك الناس عليه. . فانظر هذا الحطام فانبذه إليهم" أي: لا تأخذه، كناية عن ترك مالهم جملةً، وخرَّجها ابن أبي الدنيا أيضًا (5).
وقد تضمن الحديث الحثَّ على التقليل من الدنيا، والآيات المشيرة إلى ذمها
(1) انظر "جامع العلوم والحكم"(2/ 206)، و"فيض القدير"(1/ 481).
(2)
انظر "جامع العلوم والحكم"(2/ 174 - 175) فقد فصَّل الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى ذلك أتم التفصيل.
(3)
انظر "ضعفاء العقيلي"(2/ 357)، و"الكامل في الضعفاء"(3/ 31).
(4)
تقدم الكلام عنها (ص 302) ولم يُذْكَر هناك أن هذا الحديث منها، فليتنبه.
(5)
أخرجه ابن منده في "مسند إبراهيم بن أدهم رحمه الله"(17)، وابن أبي الدنيا في "مداراة الناس"(33).
وطلب التقليل منها كثيرةٌ جدًا، ومن ثم ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"(1).
وروي مرفوعًا وموقوفًا، متصلًا ومرسلًا:"حب الدنيا رأس كل خطيئة"(2)، وفي "المسند"، و"صحيح ابن حبان": أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحبَّ دنياه. . أضرَّ بآخرته، ومن أحب آخرته. . أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى (3).
وقد ذمَّ اللَّه تعالى من يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة بقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)} ، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} ، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي: المال {لَشَدِيدٌ} ، وذمُّ محبتها مستلزمٌ لمدح بغضها.
ونقل غير واحدٍ من الشراح عن "الأربعين الودعانية" -زاد بعض محققيهم قوله: "الموضوعة"- خبر: "ارغب فيما عند اللَّه يحبك اللَّه، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس، إن الزاهد في الدنيا يريح قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة، والراغب في الدنيا يتعب قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة، ليجيئنَّ أقوالم يوم القيامة لهم حسنات كأمثال الجبال، فيؤمر بهم إلى النار" قيل: يا رسول اللَّه، أَوَ يصلون؟ قال:"كانوا يصلون، ويصومون، ويأخذون وهَنًا من الليل، لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيءٌ من الدنيا. . وثبوا عليه".
ونقل بعضهم خبر: "أيها الناس، اتقوا اللَّه حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وأيقنوا من الدنيا بالفناء، ومن الآخرة بالبقاء، واعملوا لما بعد الموت، فكأنكم بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل، أَلَا وإن من في الدنيا ضيفٌ، وكل ما فيها عاريةٌ، وإن الضيف مرتحل، والعارية مردودة، والدنيا عرضٌ حاضرٌ، يأكل منها البَرُّ والفاجر، والدنيا مبغَّضةٌ لأولياء اللَّه تعالى، محبَّبةٌ لأهلها، فمن شاركهم في محبوبهم. . أبغضوه".
(1) سيأتي تخريجه (ص 612) وهو الحديث الأربعون من أحاديث المتن.
(2)
تقدم تخريجه (ص 508).
(3)
مسند الإمام أحمد (4/ 412)، وصحيح ابن حبان (709) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وخبر أحمد والترمذي وابن ماجه: "من كانت الآخرة همه. . جمع اللَّه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتَتْه الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه. . شتت اللَّه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له"(1).
وروى الترمذي: "لو كانت الدنيا تعدِلُ عند اللَّه جناح بعوضةٍ. . ما سقى كافرًا منها شربة ماء"(2).
واعلم: أن من أهل الزهد في الدنيا مَنْ يحصل له بعض فضولها، فيمسكها ليتقرب بها إلى اللَّه تعالى، ومن ثم قال أبو سليمان:(كان عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه تعالى عنهما خزانتين من خزائن اللَّه تعالى في أرضه، ينفقان في طاعته، وكانت معاملتهما للَّه بقلوبهما وعلومهما)(3).
ومنهم مَنْ لا يمسكها اختيارًا أو مع مجاهدة للنفس (4). وفضل ابن السماك والجنيد الأول، لتحقق يقينه بمقام السخاء والزهد، وابنُ عطاء الثاني؛ لأن له عملًا ومجاهدةً.
ومنهم مَنْ لا يحصل له شيءٌ من الفضول، وهو زاهدٌ في تحصيله مع القدرة أو بدونها، والأول أفضل، ولهذا قال كثيرٌ من السلف:(إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس)(5).
واختلف العلماء أيما أفضل، طلبها لفعل الخير، أو تركها؟ فرجَّحت طائفةٌ الأولَ، وطائفةٌ الثاني (6).
* * *
(1) مسند الإمام أحمد (5/ 183)، وسنن ابن ماجه (4105) عن سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه، وسنن الترمذي (2465) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(2)
سنن الترمذي (2320) عن سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(9/ 262).
(4)
في كثير من النسخ: (ومنهم من لا يمسكه).
(5)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(9/ 272).
(6)
انظر تفصيل ذلك في "جامع الحلوم والحكم"(2/ 196).