الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (1): "مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ هَكَذَا (2).
(عن أبي هريرة رضي اللَّه) تعالى (عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: من حسن) وجه الإتيان به أن ترك ما لا يعني ليس هو الإسلامَ، ولا جزأه، بل صفته وحسنه، وصفة الشيء ليست ذاته ولا جزأه؛ لأنه: الانقياد لغةً، والأركان الخمسة شرعًا، فهو كالجسم، وترك ما لا يعني كالشكل واللون له، كذا قيل، وفيه ما فيه؛ لأن الإسلام ليس شرعًا: الأركان الخمسة فقط، بل جميع الأعمال الظاهرة الشاملة للترك والفعل، فكان الترك جزءًا منه.
فالوجه أن يقال: فائدة الإتيان به الإشارة إلى أنه لا عبرة بصور الأعمال فعلًا وتركًا إلا إذا اتصفت بالحسن؛ بأن وجدت شروط مكملاتها فضلًا عن مصححاتها، وجعَلَ تَرْكَ ما لا يعني من الحسن مبالغةً، مع الإشارة لما قررته.
(إسلام المرء) آثره على الإيمان؛ لأنه كما مر: الأعمال الظاهرة (3)، والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها؛ لأنها حركاتٌ اختياريةٌ يتعاقبان فيها اختيارًا، وأما الباطنة الراجعة للإيمان. . فهي اضطراريةٌ تابعةٌ لما يخلقه اللَّه تعالى في النفوس ويوقعه فيها.
(1) في نسخ المتن: (قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكذا في "الترمذي".
(2)
سنن الترمذي (2317).
(3)
انظر ما تقدم (ص 144).
(تركه ما لا يعنيه)(1) بفتح أوله، من (عناه الأمر): إذا تعلَّقت عنايته به، وكان من غرضه وإرادته، والذي يعني الإنسان من الأمور: ما يتعلَّق بضرورة حياته في معاشه مما يشبعه من جوعٍ، ويُرويه من عطشٍ، ويستر عورته، ويُعف فرجه، ونحو ذلك مما يدفع الضرورة، دون ما فيه تلذذٌ واستمتاعٌ واستكثارٌ، وسلامتِهِ في معاده، وهو الإسلام والإيمان والإحسان على ما مر بيانه، وذلك يسير بالنسبة إلى ما لا يعنيه، فإذا اقتصر على ما يعنيه. . سلم من سائر الآفات، وجميع الشرور والمخاصمات، وكان ذلك من الفوائد الدالة على حسن إسلامه، ورسوخ إيمانه، وحقيقة تقواه، ومجانبته لهواه؛ لاشتغاله بمصالحه الأخروية، وإعراضه عن أغراضه الدنيوية الشهَوية، من التوسع في الدنيا، وطلب المناصب والرياسات، وحب المحمدة والثناء، والفضول في الكلام والأفعال المباحة، وغير ذلك مما لا يعود عليه منه نفعٌ أُخروي؛ فإنه ضياعٌ للوقت النفيس، الذي لا يمكن أن يعوض فائته فيما لم يُخلَق لأجله.
فمَنْ عبد اللَّه تعالى على استحضار قربه من اللَّه تعالى، أو قرب اللَّه تعالى منه، ومشاهدته ذلك بقلبه. . فقد حسن إسلامه كما مر، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه منه، ويتولَّد من هذين الاستحياءُ من اللَّه تعالى، وتركُ كل ما يستحيى منه.
وروى الترمذي وغيره مرفوعا: "الاستحياء من اللَّه تعالى أن يحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى (2)، وليذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك. . فقد استحى من اللَّه تعالى حق الحياء"(3).
(1) قوله: (من حسن إسلام المرء) خبرٌ مقدم، و (تركه ما لا يعنيه) مبتدأٌ مؤخر، وهذا من المواضع التي يجب فها تقديم الخبر؛ لئلا يعود الضمير فيه على المتأخر لفظًا ورتبةً، لما في المبتدأ من ضمير يعود على متعلق الخبر، فهو من باب:(على التمرة مثلها زبدًا) وقوله: (ولكن ملء عينٍ حبيبُها). اهـ "مدابغي"
(2)
المشهور: التعبير بـ (وعى) في الرأس، و (حوى) في البطن، وسيذكره أيضًا هكذا (ص 370 و 385)، فلعل ما هنا رواية أو سبق قلم، فراجعه. اهـ هامش (غ)
(3)
سنن الترمذي (2458) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه:"أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى" ولعل الشارح رحمه اللَّه تعالى تبع الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(1/ 289).