الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]
عَنْ أبي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما سِبْطِ رَسُولِ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم وَرَيْحَانَتِهِ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (1)
(عن أبي محمد الحسن) كناه وسماه بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وهو (سبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي: ابن بنته فاطمة الزهراء رضي اللَّه تعالى عنهما (ورَيحانته) كما جاء في الأحاديث (2)، شبَّهه لسروره وفرحه به وإقبال نفسه عليه بريحان طيب الرائحة، تهَشُّ إليه النفس وترتاح له، وكفاه فخرًا الحديث الصحيح: أنه رقى المنبر ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب، فأمسكه والتفت إلى الناس ثم قال:"إن ابني هذا سيدٌ، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"(3) فكان كذلك؛ فإنه لما تُوفي أبوه رضي اللَّه تعالى عنه. . بايع الناس له، فصار خليفةً حقًا مدةَ ستة أشهر تكملةً للثلاثين سنةً التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مدة الخلافة، وبعدها تكون مُلكًا عضوضًا؛ أي: يعض الناس؛ لجور أهله، وعدم استقامتهم، فلما تمَّتْ تلك المدة. . اجتمع هو ومعاوية رضي اللَّه تعالى عنهما كل في جيشٍ عظيمٍ، فامتثل الحسن
(1) سنن الترمذي (2518)، وسنن النسائي (8/ 327).
(2)
منها ما أخرجه البخاري (3753) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما: "هما ريحانتاي من الدنيا" أي: سيدنا الحسن والحسين رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (2704) عن سيدنا أبي بكرة رضي الله عنه.
إشارة جدِّه صلى الله عليه وسلم ورغب عن الخلافة لمعاوية، فسلَّمها له طوعًا وزهدًا، وصيانةً لدماء المسلمين وأموالهم (1)، فإنه بايعه على الموت أكثر من أربعين ألفًا، وشرط على معاوية رضي اللَّه تعالى عنه شروطًا وفَّى له بمعظمها (2).
ومناقبه كثيرةٌ، وفضائله جمَّةٌ، ومحبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم له، ولأخيه الحسين، ولأبيهما وأمهما، وثناؤه عليهم، ونشره لغرر مآثرهم، وباهر مناقبهم. . من الشهرة عند مَنْ له أدنى ممارسة بالسُّنة بالمحل الأسنى، فإن أردت الوقوف على ذلك مبسوطًا مبينًا مستوعبًا. . فعليك بكتابي "الصواعق المحرقة" فإنه جمع فأوعى.
ولد الحسن رضي اللَّه تعالى عنه منتصفَ رمضان سنة ثلاثٍ من الهجرة على الأصح، ومات مسمومًا من زوجته بإرشاءٍ من يزيد بن معاوية لها على ذلك على ما قيل سنةَ أربع، أو خمس، أو تسع وأربعين، أو خمسين، أو أحد وخمسين، أو ثمان وخمسين، ودفن بالبقيع، وقبره مشهورٌ فيه.
وكان من الحكماء الكرماء الأسخياء، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر حديثًا، روى له أصحاب "السنن" الأربعة، وروت عنه عائشة وغيرها.
(قال: حفظت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: دع) أمر ندب؛ لما مر في (الحديث السادس) أن الأصح: ندب توقي الشبهات (3).
(ما يريبك) بفتح أوله وضمه، والفتح أفصح وأشهر، من (راب وأراب)، بمعنى شكَّكَ، وقيل:(راب) لما يتيقن فيه الريبة، و (أراب) لما يتوهم منه.
(إلى ما لا يريبك) أي: دع ما تشك فيه من الشُّبهات إلى ما لا تشك فيه من
(1) وروي عن الشعبي: أنه قال: شهدت الحسن بن علي رضي الله عنهما حين صالحه معاوية، فقال له معاوية:(قم فأخبر الناس أنك تركت لي هذا الأمر) فقام الحسن، فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه، ثم قال:(أما بعد: فإن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وإن اللَّه هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن هذا الأمر الذي اختلفتُ فيه أنا ومعاوية: إما أن يكون حقًا له فهو أحق به مني، وإما أن يكون حقًا هو لي فقد تركته له؛ إرادة صلاح الأمة وحقن دمائها، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) ثم نزل، وظهرت المعجزة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن:"إن ابني هذا سيد" اهـ "مدابغي"
(2)
قوله: (ورغب عن الخلافة. . . إلخ) ومن هنا أخذ السراج البلقيني جواز النزول عن الوظائف ولو بمال. اهـ هامش (ج)
(3)
انظر ما تقدم (ص 233) وما بعدها.
الحلال البيِّن؛ لما مرَّ في (الحديث السادس): أن من اتَّقى الشُّبهات. . فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومر الكلام على ذلك بما هو شرحٌ لهذا أيضًا؛ لرجوعهما إلى شيءٍ واحد، وهو النهي التنزيهيُّ عن الوقوع في الشبهات.
ومن ثم قيل: إنه يجب اجتنابها، وفصَّل آخرون فقالوا: تلحق الشبهة المحتملة الفاحشة بالحرام، بخلاف غيرها، فبيع نحو العِينة مشتبةٌ؛ لأنه حيلةٌ للربا، وهي فيه نافعةٌ عند قومٍ، وغير نافعة عند آخرين، فإن اللَّه تعالى لا تخفى عليه خافية، والأعمال بالنيات، وعليه قال بعضهم: نعم، إن اطلع اللَّه تعالى على نية فاعل ذلك أنها بريئةٌ من الحيلة، وأن قلبه لم ينطوِ على محرَّمٍ. . لم يعاقب، لكنه لم يستبرئ لدينه ولا لعرضه؛ لأنه يُظَنُّ به الربا، وتسوء فيه الظنون، فيطلب منه دفع هذا المريب إلى ما لا يريب.
وورد: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس"(1).
وقال أبو ذرٍّ رضي اللَّه تعالى عنه: (تمام التقوى: ترك بعض الحلال خوفًا أن يكون حرامًا)(2).
وقيل لابن أدهم رضي اللَّه تعالى عنه: ألا تشرب من ماء زمزم؟ فقال: (لو كان لي دلوٌ. . لشربت)(3) إشارة إلى أن الدلو من مال السلطان، وهو مشتبه.
ومر أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن أخبرته امرأة سوداء أنها أرضعته وزوجتَهُ: "كيف وقد قيل؟! " فطلقها ورعًا (4)، ولسودة:"احتجبي منه"(5) أي: من أخيها الملحق بأبيها شرعًا؛ لكونه فيه شَبَهٌ بيِّن بغيره، فلم تره ولم يرها ورعًا أيضًا، فعلم أن
(1) أخرجه الترمذي (2451) ، وابن ماجه (4215) عن سيدنا عطية السعدي رضي الله عنه.
(2)
أخرج الحافظ السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 61)، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 48) نحوه، وانظر "جامع العلوم والحكم"(1/ 209) لكن عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه، وسيذكره الشارح عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه (ص 352)، فيلتنبه.
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الورع"(155).
(4)
تقدم تخريجه (ص 240).
(5)
تقدم تخريجه (ص 241).
الريبة تقع في العبادة، والمعاملة، والمناكحات، وسائر أبواب الأحكام، وأن ترك الرِّيبة في ذلك كلِّه إلى يقين الحل هو الورع، وهو عميم النفع، كثير الفائدة، عظيم الجدوى في الدنيا والأخرى، وأنه إذا تعارض شكٌّ ويقينٌ. . قُدِّمَ اليقينُ، وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ، يندرج تحتها ما لا يحصى، وتفاصيل ذلك وإن كثرت لكنها لا تخفى على مَنْ عرف الفقه والقاعدة فيها التي ذكرناها.
(رواه) الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة (الترمذي) بكسر الفوقية والميم، وقيل: بضمهما، وقيل: بفتح ثم كسر، كلها مع إعجام الذال، نسبة لمدينةٍ قديمةٍ على طرف جيحون نهر ببلخ، وكان من أوعية الفقه والحديث، مات سنة تسعٍ وسبعين ومئتين، ورواه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" والحاكم (1).
(و) الإمام أحمد بن شعيب (النسائي) الخراساني، ولد سنة خمس عشرة ومئتين، رحل واجتهد وأتقن إلى أن انفرد فقهًا وحديثًا وحفظًا وإمامة، واستوطن مصر، ومات بالرملة سنة ثلاث وثلاث مئة (2).
(وقال الترمذي: حديث حسن صحيح) أي: ولا يضر توقف أحمد في أبي الحوراء راويه عن الحسن؛ فقد وثقه النسائي وابن حبان (3)، وبه يندفع قول بعضهم: إنه مجهولٌ لا يعرف.
وهذا قطعةٌ من حديثٍ طويلٍ فيه ذكر قنوت الوتر، وعند الترمذي وغيره زيادة فيه وهي:"فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة"، ولفظ ابن حبان:"فإن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة".
وقد خرجه أحمد أيضًا عن أنس (4)، والطبراني عن ابن عمر مرفوعًا (5)، وبه يرد
(1) صحيح ابن حبان (722)، والمستدرك (2/ 13) عن سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما.
(2)
في كثير من النسخ: تقديم الإمام النسائي على الإمام الترمذي رحمهما اللَّه تعالى، وفي بعضها اضطراب، وما أثبت من بعضها هو الصواب الموافق لمتن المؤلف رحمه اللَّه تعالى، واللَّه أعلم.
(3)
قال الإمام ابن حبان رحمه اللَّه تعالى في "الثقات"(2/ 135): (ربيعة بن شيبان السعدي، أبو الحوراء، يروي عن الحسن بن علي، عداده في أهل البصرة، روى عنه يزيد بن أبي مريم). وفي أكثر النسخ: (أبي الجوزاء) والصواب: ما أثبت، واللَّه أعلم.
(4)
مسند الإمام أحمد (3/ 112).
(5)
المعجم الصغير (1/ 102).
قول الدارقطني: إنما يُروى هذا من قول ابن عمر، ويُروى عن مالك من قوله.
وروي بإسنادٍ ضعيفٍ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" قال: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: "إذا أردت أمرًا. . فضع يدك على صدرك؛ فإن القلب يضطرب للحرام، ويسكن للحلال، وإن المسلم الوَرِعَ يَدَعُ الصغيرة مخافةَ الكبيرة" زاد الطبراني: قيل له: فمن الوَرِع؟ قال: "الذي يقف عند الشبهة"(1).
ثم هذا الحديث قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الدين، وأصلٌ في الورع الذي عليه مدار اليقين، ومنجٍ من ظُلَم الشكوك والأوهام المانعة لنور اليقين.
ومن ثم تنزَّه يزيد بن زريع عن خمس مئة ألف من ميراث أبيه، فلم يأخذها، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين، وكان يزيد يعمل الخوص ويتقوَّت منه إلى أن مات.
وقال الفضيل: (يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد عليَّ أمران إلا أخذت بأشدهما، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك)(2).
وقال حسان بن أبي سنان: (ما شيءٌ أهون من الورع، إذا رابك شيءٌ. . فدعه)(3) وهذا إنما يَسهُل على مثله رضي اللَّه تعالى عنه.
واحتكر المِسْوَر بن مخرمة طعامًا كثيرًا، فرأى سحابًا في الخريف فكرهه، ثم قال: أراني كرهت ما ينفع المسلمين، فآلى ألَّا يربحَ فيه شيئًا، فأخبر بذلك عمر رضي اللَّه تعالى عنه، فقال له:(جزاك اللَّه خيرًا)(4)؛ وفيه: أن المحتكر ينبغي له أن يتنزَّه عن ربح ما احتكره احتكارًا منهيًا عنه.
وسُئلتْ عاشة رضي اللَّه تعالى عنها عن أكل الصيد للمحرم، فقالت:(إنما هي أيامٌ قلائل، فما رابك. . فدعه)(5) يعني: ما اشتبه عليك هل هو حلالٌ أو حرامٌ. .
(1) المعجم الكبير (22/ 78) عن سيدنا واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
(2)
أخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(48/ 432) نحوه.
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الورع"(47).
(4)
أخرجه الإمام أحمد في "الزهد"(1140).
(5)
انظر "جامع العلوم والحكم"(1/ 282).
فاتركه؛ فإن العلماء اختلفوا في إباحة الصيد للمحرم إذا لم يصده هو، ومن ثَمَّ كان الخروج من الخلاف أفضل؛ لأنه أبعد عن الشبهة.
نعم؛ المحققون على أن ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فيه رخصةٌ ليس لها معارضٌ. . اتباعُها أَولى من اجتنابها وإن منعها من لم تبلغه (1)، أو لتأويلٍ بعيدٍ؛ مثاله: من تيقَّن الطهارة وشك في الحدث، فإنه صح أنه صلى الله عليه وسلم قال فيه:"لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا"(2) ولا سيما إن كان شكه في الصلاة، فإنه يحرم عليه قطعها وإن أوجبه بعضهم.
نعم؛ قيل: ينبغي أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، بخلاف المنهمك في المحرمات، ومن ثَمَّ قال ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق:(يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين!) قال: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا"(3).
واستأذن رجلٌ أحمدَ أن يكتب من محبرته، فقال:(اكتب، هذا ورعٌ مظلم)(4)، وقال لآخر كذلك:(لن يبلغ ورعي ولا ورعك هذا)(5).
* * *
(1) ما ثبت من الرخصة فيه أخرجه البخاري (1824)، ومسلم (1196) عن سيدنا أبي قتادة رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه (ص 241). والمراد من الصوت والريح: التيقن والتحقق كما مر؛ فإنه قد يكون أصم فلا يسمع الصوت، وأخشم فلا يشم الريح؛ أي: الرائحة. اهـ هامش (غ)
(3)
أخرجه البخاري (5994)، والترمذي (3770)، والإمام أحمد (2/ 93).
(4)
أخرجه السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء"(ص 157).
(5)
أخرجه السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء"(ص 156).