الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرويهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ:"يَا عِبَادِي؛ إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُم، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أَطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِر لَكُمْ، يَا عِبَادِيَ؛ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ. . مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. . مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِركُمُ، وَإنْسَكُم وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ. . مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي؛ إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا. . فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ. . فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
(1) صحيح مسلم (2577).
(عن أبي ذر رضي اللَّه) تعالى (عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه) أي: روينا عنه أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي حال كونه مندرجًا في جملة الأحاديث القدسية؛ وهي التي يرويها (عن ربه أنه) تعالى (قال: يا عبادي) هو كعبيد، وعُبْدان بضم أوله وكسره، وتخفيف الباء، وعِبِدَّان بكسر أوَّلَيْه وتشديد ثالثه، وعِبِدَّاء بمد وقصرٍ، ومَعْبوداء، وعُبُد كسُقُف، وأعابد، ومعبدة جمع لـ (عبد).
وهو هنا وفيما يأتي وفي نظائر ذلك يتناول الأحرار والأرقَّاء من الذكور، وكذا من النساء إجماعًا، لكن لا وضعًا، بل بقرينة التكليف، وقد قال الأصوليون: إن خص الخطابُ الذكورَ كالرجال أو الإناث كالنساء. . فواضح، وإلَّا كـ (مَنْ، والأناسي، والناس). . يتناولهما، وفي نحو المسلمين والمؤمنين خلافٌ، والأشبه: أنه لا يتناول النساء وضعًا، بل بقرينةٍ أو عُرفٍ.
(إني حرمت) من التحريم؛ وهو لغةً: المنع، فسمَّى تعالى تَقَدُّسَه عن الظلم تحريمًا؛ لمشابهته الممنوع في تحقق العلم.
(الظلم) وهو لغةً: وضع الشي في غير محلِّه (على نفسي) أي: تعاليتُ عنه وتقدستُ؛ لاستحالته عليه تعالى؛ إذ هو: التصرُّف في حق الغير بغير حقٌّ، أو مجاوزةُ الحد، وكلاهما محالٌ؛ إذ لا ملك ولا حق لأحدٍ معه، بل هو الذي خلق المالكين وأملاكهم، وتفضَّل عليهم بها، وحدَّ لهم الحدود، وحرَّم وأحلَّ، فلا حاكم يتعقَّبه، ولا حق يترتب عليه، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
وما ذكر من استحالة الظلم عليه تعالى هو قول الجمهور، وقيل: بل هو متصوَّر منه (1)، لكنه لا يفعله عدلًا منه، وتنزُّهًا عنه؛ لأنه تعالى تمدَّح بنفيه في قوله تعالى:{وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي: ظالم، والحكيم لا يتمدَّح إلا بما يصح منه، ألا ترى أن أعمًى لو تمدَّح بأنه ألا ينظر للمحرمات. . استُهزئ به؟!
وأيضًا: قوله "حرمت الظلم على نفسي" حقيقته: أني منعتُ نفسي منه،
(1) قوله: (متصور منه) أي: كما في تعذيب المطيع، وإثابة العاصي. اهـ هامش (ج)
وإنما يمنع الحكيم نفسه ممَّا يقدر على فعله، ألا ترى أن آدميًا لو قال: منعت نفسي من صعود السماء. . استُهزئ به؟!
وأيضًا: فهو تعالى عامل عباده معاملة مستأجرٍ لأجرائه بقوله لأهل الكتاب: "هل ظلمتكم من أجوركم شيئًا؟ " قالوا: لا، قال:"فذلك فضلي أوتيه من أشاء"(1) والمستأجر يصح منه ظلم الأجراء.
وأيضًا: ترك الظلم مع إمكانه والقدرة عليه أمدحُ من تركه مع استحالته والعجز عنه؛ كما أن ترك الفعل للزنا أمدح له بالعفاف من ترك الخصيِّ والعِنِّين له. اهـ
وهو غير سديدٍ كان نقله بعض الشارحين وأقره؛ لِمَا تقرر أن حقيقة الظلم: وضعُ الشيء في غير محلِّه بالتصرف في ملك الغير، أو مجاوزةُ الحدِّ، ومع النظر لهذا يجزم كلُّ مَنْ له أدنى بصيرةٍ باستحالته عليه تعالى؛ إذ لا يُتَعَقَّلُ وقوع شيءٍ من تصرفه تعالى في غير محله، وكأن مدعي تصوره منه سبحانه وتعالى يفسره بما هو ظلمٌ عند العقل لو خُلِّي ونفسه من حيث عدمُ مطابقتِه لقضيته، فحينئذٍ يكون لكلامه نوعُ احتمال، بخلاف ما إذا فسره بالأول (2)؛ فإن دعوى تصوره منه حينئذٍ في غاية السقوط.
ويجاب عمَّا احتج به من التمدُّح بنفيه ومنع نفسه منه بأن هذا خارجٌ عن قضية الخطاب العادي، المقصود به زجرُ عباده عنه، وإعلامهم بامتناعه عليهم بالأَولى، فهو على حدِّ:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وهذا فنٌّ بليغٌ من أساليب البلاغة، لا ينكره إلا كل جامد الطبع، فامتنع قياسه على قول الأعمى: لا أبصر، والآدميِّ: منعت نفسي من صعود السماء، بل شتَّان ما بينهما؛ فإن كلًّا من هاتين المقالتين محض سَفْساف ولغو، بخلاف قوله تعالى:"إني حرمت الظلم على نفسي" الذي وطَّأ به لقوله تعالى: "وجعلته بينكم محرمًا" ثم وطَّأ بهما لقوله تعالى: "فلا تظالموا" فاتضح أن هذا السياق في غاية البلاغة، وأنه لا ينافي استحالة الظلم عليه تعالى، وأن
(1) أخرجه البخاري (2268)، والترمذي (2871) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
الأول: هو قوله: (الظلم وضع الشيء في غير محله، أو مجاوزة الحد) والئاني: هو قوله: (بما هو ظلم عند العقل. . . إلخ) اهـ هامش (ج)
مَنْ فهم تنافيًا بينهه، وفسَّر الظلم بغير معناه المتعارف. . كان لكلامه أدنى احتمال، وإلَّا. . كان كلاما، بالهذيان أشبه، فتأمل ذلك؛ فإنه نفيسٌ، ثم رأيت بعضهم أجاب:(بأن للَّه تالالى في خلقه نصرُّفَين: ظاهرًا، وباطنًا، فتصرفه الظاهر ينهى عنه شرعًا، وتصرفه الباطن يقضي به ويخلقه حقيقة، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن) اهـ، وهذا صحيح، لكنه لا يدفع تلك الشُّبَه، بخلاف ما ذكرته؛ فإنه الذي يدفعها ويدحضها.
وفسَّر بعضهم الظلم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} يؤيد قولي السابق: (وكأن مدعي تصؤُره منه تعالى يفسِّره بما هو ظلم عند العقل. . . إلخ) فقال: (الهضم: أن ينقص من أجر حسناته، والظلم: أن يعاقب بذنوب غيره، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن، وهذا مما يدل على أن اللَّه تعالى قادرٌ على الظلم، ولكن لا يفعله فضلًا منه، وقد فسَّره كثيرون بأنه: وضع الشيء في غير موضحه، وأما من يفسره بالتصرف في ملك الغير. . فيقول: إنه مستحيلٌ عليه تعالى) اهـ (1)
وهو صريحٌ فيه، ذكرته، وكونُه تعالى خالقًا لأفعال عباده وفيها الظلم لا يقتضي وصفَه تعالى به؛ لأنه إنما يوصف بما قام به من صفاته وأفعاله، ومنها خلق أفعالهم لا ذواتها، فلم يوصف بشيءٍ منها.
قيل: وفيه منع سؤال اللَّه تعالى ألَّا يحكم له على خصمه إلا بالحق؛ لأنه الواقع، فلا فائدة لسؤاله، ورُدَّ بقوله تعالى:{قل رب احكم بالحق} (2) وهو تعالى لا يأمر بما لا يجوز الدعاء به، ولا فرق بين الحصر وغيره.
وأُجيب بأن معناه: عاملهم بعَنلِك دون فضلك، فيكون دعاءً عليهم، قيل: وقريبٌ من هذا قول، بعضهم في {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. . . إلى {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: من الاعتداء بالدعاء التأمينُ عند قراءة هذه الآية؛ لأن اللَّه تعالى
(1) انظر "جامع العلوم والحكم"(2/ 35).
(2)
قرأ حفص عن عاصم رحمهما اللَّه تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} ، وقرأ الباقون {قُلْ رَبِّ} بغير ألف، والمراد: قل أنت يا محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ "الحجة للقراءة السبعة"(5/ 264)
قال: قد فعلت، بخلافه في:{وَاعْفُ عَنَّا} . . . إلخ؛ فإنه يؤمِّن.
ورُدَّ: بأن الذي في "مسلم": أنه تعالى قال: "نعم" في الجميع (1).
قيل: (وقضية هذا الحديث: جواز إطلاق النفس على اللَّه تعالى) انتهى، وهو ظاهرٌ حيث كان من باب المقابلة (2)؛ كما في:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وكما هنا (3)؛ فإن معناه: حرَّمته على نفسي، فنفوسكم بالأَولى، كما أفاده قوله:"وجعلته بينكم محرمًا".
أما إطلاقه في محلٍّ لا مقابلة فيه. . فلا يظهر جوازه؛ لإيهامه حقيقة النفس وهي محالةٌ على اللَّه تعالى.
فإن قلت: قد صح إطلاق الذات عليه تعالى في قول خبيب عند إرادة قتله: (وذلك في ذات الإله. . .)(4) والجنب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} والنفس مثلهما.
قلت: لا نسلِّم أنها مثلهما؛ لأن ذات الشيء حقيقته، فلا إشعار فيها بحدوثٍ ألبتة، وأما الجَنْب. . فالمراد به: الأمر؛ إذ التفريط إنما يكون فيه، فالإتيان بلفظهِ قرينةٌ ظاهرةٌ على أنه لم يرد بالجنب حقيقتَه، وأما النفس. . فإنها تُشعِر بالتنفُّس والحدوث، فامتنع إطلاقها عليه سبحانه وتعالى إلا في حيز المقابلة؛ إذ هو قرينةٌ
(1) تقدم تخريجه (ص 98) في شرح المقدمة.
(2)
قال: الشيخ الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية"(ص 210): (وقضية هذا الحديث: جواز إطلاق النفس على اللَّه تعالى على غير وجه المشاكلة، وهو الصحيح كما قال إمام الحرمين؛ بدليل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، وادعاء أنه مشاكلة تقديرية تكلُّفٌ، وقول أهل المعاني: إنها لا تطلق عليه إلا مشاكلة؛ كقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} غير صحيح كما قال السبكي، وجمع بعض المحققين بين القولين فقال: النفس لها معنيان: الذات، وهذا يصح إطلاقه من غير مشاكلة، والجسمُ، وهذا لا يطلق عليه إلا مشاكلة).
(3)
أي: فإن هذه مشاكلة تقديرية؛ لأنها إما تحقيقية كما في الآية، أو تقديرية كما هنا. اهـ هامش (ج)
(4)
هذا جزء من أحد بيتين له رضي الله عنه؛ وهما بتمامهما: (من الطوبل)
فلسْتُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مسلمًا
…
على أيِّ جنبٍ كان في اللَّهِ مصرعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإن يشأْ
…
يباركْ على أَوْصال شِلْوٍ مُمَزَّعِ
أخرجه البخاري (3989) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. والشِّلْوُ: مفرد أشلاء؛ وهي: أعضاء الجسم بعد بلائه، وممزَّع: مُقطَّع.
ظاهرةٌ على أن المراد بها في حقه تعالى غير حقيقتها وما يتبادر منها.
وأيضًا: ففي إطلاقها عليه تعالى إيهامُ شمول قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} لذلك، تعالى اللَّه عن ذلك علوًا كبيرًا.
ولقد بالغ بعض العلماء فجعل: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} راجعًا لعيسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم، والأصل: ولا أعلم ما فيها، ثم أوقع الظاهر موقعَ المضمر، فصار معناه: ولا أعلم ما في مخلوقتك. اهـ، وهو وإن كان فيه تكلُّفٌ إلا أنه مُؤَيِّدٌ لما ذكرته، فتأمل ذلك؛ فإنه مهمٌّ كان لم أَرَ من عرَّج عليه.
(وجعلته بينكم محرمًا) أي؛ حكمت بتحريمه عليكم، وهذا مجمعٌ عليه في كل ملةٍ؛ لاتفاق سائر الملل على مراعاة حفظ الأنفس، فالأنساب، فالأعراض، فالعقول، فالأموال، والظلم قد يقع في هذه أو بعضها، وأعلاه الشرك؛ قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وهو المراد بالظلم في أكثر الآيات؛ قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
ثم تليه المعاصي على اختلاف أنواعها، وروى الشيخان:"الظلم ظلماتٌ يوم القيامة"(1)، ورويا أيضًا:"إن اللَّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه. . لم يفلته" ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} (2).
وروى البخاري: "من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه (3). . فليتحلَّله منها؛ فإنه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درهمٌ من، قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسناتٌ. . أُخذ من سيئات أخيه، فطُرحت عليه"(4).
(فلا تظالموا) بتشديد الظاء كما روي، والأشهر: تخفيفها، وأصله: تتظالموا، أُدغم أحد المثلين في الآخر، أو حذف؛ أي: لا يظلمْ بعضكم بعضًا (5)؛
(1) صحيح البخاري (2447)، وصحيح مسلم (2579) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
صحيح البخاري (4686)، وصحيح مسلم (2583) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3)
في النسخ كلها إلا (غ) و (و): (من كانت منه مظلمة. . .) والمثبت منهما ومن "صحيح البخاري".
(4)
صحيح البخاري (6534) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
قوله: (أدغم أحد المثلين) يعني الظاءين؛ أي: بعد إبدال التاء الثانية ظاءً، وفي بعض النسخ:(إحدى التاءين) ولا يستقيم مع قوله: (في الأخرى)، وفي قوله:(أو حذف) تسمُّحٌ؛ لأن الضمير إن رجع إلى أحد =
فإنه لا بد من اقتصاصه تعالى للمظلوم من ظالمه، كما استفيد من هذا السياق العجيب المومى إليه بقوله تعالى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} أي: فيحب تعالى منه الجهر بذكر ما ظُلِم به ليُشاع، حتى إذا عُوقب الظالم. . عرف الناس أنه لم يوقع تعالى ذلك به إلا انتصارًا للمظلوم؛ لينكفَّ غيره عن الظلم، ويعلم أن مِن وراء الظالمين طالبًا لا يُردُّ بأسه، وقد يُمهل الظالم زيادةً في استدراجه؛ ليزداد عقابه {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} فإمهاله عين عقابه، وهذا أَولى وأظهر من القول بأن حكمة إمهاله: أن المظلوم لا يستحق على الظالم إلا أن يمكنه سيده، إذ الحكم في الجناية على العبد لسيده والخلق كلهم، وأُروش جنايتهم ملكٌ وحقٌّ للَّه تعالى، فله الإمهال، وله الاقتصاص. انتهى؛ لأن هذا وإن كان حقًا إلا أن الحكمة به لم تظهر.
ولما ذكر تعالى ما أوجبه من العدل، وحرَّمه من الظلم على نفسه وعلى عباده. . أتبعه بذكر إحسانه إليهم، وغناه عنهم، وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعةٍ لأنفسهم، ولا دفع مضرة عنهم إلا أن يكون هو الميسر لذلك، مشيرًا إلى ذلك الجلب والدفع إما في الدين، أو الدنيا، فصارت أربعة أقسام، وهي: الهداية، والمغفرة، وهما جلب منفعة، ودفع مضرة في الدين (1)، والإطعام، والكسوة، وهما جلب منفعةٍ، ودفع مضرةٍ في الدنيا.
وأهم هذه الأقسام طلب الهداية؛ فلذا افتتح به فقال: (يا عبادي؛ كلكم ضالٌّ) أي: غافلٌ عن الشرائع قبل إرسال الرسل، فهو على حدِّ:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أي: غافلًا عما سيوحيه إليك، فهداك إليه بالوحي، فهو على حدِّ:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ، أو ضالٌّ عن الحق لو ترك وما يقتضيه طبعه من الراحة من التكاليف، وإهمال النظر المؤدي إلى معرفة اللَّه تعالى، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه (إلا من هديته) أي: وفَّقته للإيمان بما
= المثلين -يعني الظاءين-. . لا يصح؛ لأن المحذوف إنما هو تاء من التاءين بلا إدغامها ظاءً، وإن رجع إلى إحدى التاءين. . كان صحيحًا إلا أنه لا يلائم ما قبله فتأمل، والمراد: أننا أبدلنا التاء الثانية ظاءً، وأدغمنا الظاء في الظاء، أو حذفنا إحدى التاءين. اهـ "مدابغي"
(1)
أي: في كل واحدة منهما جلب منفعة، ودفع مضرة. اهـ هاهش (ج)
جاءت به الرسل على المعنى الأول؛ قال اللَّه تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ، أو للخروج عن مقتضى طبعه إلى النظر المؤدِّي إلى معرفة اللَّه تعالى، وامتثال ما جاء من عنده على المعنى الثاني.
وبيانه: أنه في تعالى خلق النفوس بقواها وطباعها، وما أرصد لها من الأهواء والشياطين مائلةً إلى الضلال، فمن أراد ضلالَه. . أرسله على سجيته، وتخلَّى عنه، ومن أراد هدايته. . عارضه بأسباب الهدى، فصدَّه عن الضلال فاهتدى، فينبغي لمن رأى عنده آثار هدًى أن يعلم أنه من اللَّه تعالى؛ حتى يزداد شكره وحمده؛ ليزداد هداه بصادق وعد قوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} وعلى كِلا ذينكَ المعنيين: فلا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولودٍ يولد على الفطرة"(1) لأن ذلك ضلالٌ طارئٌ على، الفطرة الأُولى، كما يرشد إليه ما روي:"خلق اللَّه تعالى الخلق على معرفته، فاغتالتهم الشياطين"(2).
هذا واختلف، في المراد بالفطرة هنا، فقيل: هي ما أُخذ عليهم في أصلاب آبائهم، فتقع الولادة عليها حتى يحصل التغيير بالأبوين، وقيل: ما قضي على المولود من سعادةٍ أو شقاوةٍ، فيصير إليها، وبه صرح ابن المبارك فقال: يولد على ما يصير إليه من له سعادة أو شقاوة، فمن علم اللَّهُ تعالى أنه يصير مسلمًا. . ولد على فطرة الإسلام، ومن علم أنه يصير كافرًا. . ولد على الكفر، وقيل: معرفة اللَّه تعالى والإقرار به وإن عبد معه غيره.
والأصح: أن معناه: أن كل مولودٍ يولد متهيئًا للإسلام، فمن كان أبواه أو أحدهما مسلمًا. . استمرَّ عليه في أحكام الدنيا والآخرة، وإن كانا كافرين. . جرى عليه حكمهما، فيتبعهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى قوله:"فيهودانه، وينصرانه، ويمجسانه" أي: يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإذا بلغ مستمرًا على الكفر. . حكم له به (3).
(1) أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرج نحوه ابن حبان في "صحيحه"(653)، والإمام أحمد (4/ 162) عن سيدنا عياض بن حمار رضي الله عنه.
(3)
كذلك بأن يصداق، عمَّا وُلد عليه، ويُزَيِّنان له الملَّة المبدلة، ولا ينافيه:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لأنه خبرٌ بمعنى النهي. اهـ هامش (غ)