الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتأخرون، ولم يخض في شيءٍ منها السلفُ الصالحون، ومن ثَمَّ اختار الغزالي وغيره في العوام الذين لا أهلية فيهم لفهمها أنهم لا يخوضون فيها؛ أي: يحرم عليهم ذلك إن خافوا منه تمكُّنَ شبهةٍ منهم يعسر زوالها من قلوبهم.
تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]
مر أن الأظهر أن الإيمان والإسلام متلازما المفهوم (1)، فلا ينفك أحدهما عن الآخر وإن اختلف المفهومان، أو مترادفان، فلا يوجد شرعًا إيمانٌ من غير إسلامٍ ولا عكسه كما مر عن أهل الحق، وأن الإسلام يطلق على الأعمال شرعًا، كما يطلق على الانقياد لغةً وشرعًا، وأن الإيمان يُطلق عليها شرعًا باعتبار أنه يتعلق بها.
إذا تقرر ذلك. . فحيث ورد ما يدل على تغايرهما؛ كما في هذا الحديث وقولِهِ تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} الآيةَ؛ فهو باعتبار أصل مفهومهما، فأصح التفسيرين ما قاله ابن عباس وغيره: أنهم لم يكونوا منافقين، بل كان إيمانهم ضعيفًا (2)، ويدل عليه:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى آخره الدالُّ على أن معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم، وحينئذٍ يؤخذ من الآية أنه يجوز نفي الإيمان عن ناقصه.
ومما يصرح به: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(3)، وفيه قولان لأهل السنة: أحدهما هذا، والثاني: لا ينفى عنه اسم الإيمان من أصله، ولا يطلق عليه مؤمن؛ لإيهامه كمال إيمانه، بل يقيد، فيقال: مؤمنٌ ناقصُ الإيمان.
وهذا بخلاف اسم الإسلام؛ لأنه لا ينتفي بانتفاء ركني من أركانه؛ بل ولا بانتفاء جميعها ما عدا الشهادتين؛ وكأن الفرق: أن نفيه يتبادر منه إثبات الكفر مبادرةً ظاهرة، بخلاف نفي الإيمان.
(1) أي: بالنسبة لأحد مَعْنَيَي الإسلام الذي هو الاستسلام والانقياد كما مر، فلا تغفل. اهـ "مدابغي"
(2)
قال الإمام ابن كثير رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره"(4/ 219): (فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقامًا أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك، وهذا معنى قول ابن عباسِ رضي الله عنهما، وإبراهيم النخعي وقتادة. . .).
(3)
أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
وحيث ورد ما يدل على اتحادهما؛ كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآيةَ. . فهو باعتبار تلازم المفهومين أو ترادفهما، ومن هنا قال كثيرون: إنهما على وِزان الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما. . دخل فيه الآخر، ودلَّ بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، وإن قرن بينهما. . تغايرا (1)؛ كما في خبر أحمد:"الإسلام علانية، والإيمان في القلب"(2).
وحيث فسَّرنا الإيمان بالأعمال. . فهو باعتبار إطلاقه على متعلقاته؛ لما مر أنه تصديقٌ بأمورٍ مخصوصة.
ومنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} اتفقوا على أن المراد به هنا: الصلاة.
ومنه: حديث وفد عبد القيس: "هل تدرون ما الإيمان؟ " قالوا: لا، قال:"شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمُسًا من المغنم"(3)، ففسَّر فيه الإيمان بما فسَّر به الإسلام في حديث جبريل الذي نحن فيه، فاستفيد منهما إطلاق الإيمان والإسلام على الأعمال شرعًا باعتبار أنها متعلق مفهوميهما المتلازمين، وهما التصديق والانقياد.
فتأمل ذلك حق التأمل؛ ليندفع به عنك ما أطال به الشُّراح هنا مما لا طائل تحت أكثره، ومنه: دعوى الاضطراب في حديث وفد عبد القيس؛ ومعارضته لحديث جبريل، وبينوا ذلك بوجوهٍ لا حاجة إليها بعد ما قررناه.
ثم رأيت بعضهم وافق ما ذكرته فقال: قد يتوسع فيطلق الإيمان على الإسلام كما في حديث وفد عبد القيس؛ لأنه يكون عنه غالبًا وهو مظهره، وقد صح: "الإيمان
(1) الفقير والمسكين صنفان إذا قُرِن بينهما كما في الزكاة، وصنفٌ واحدٌ إذا أُفرد كلٌّ منهما كما في الكفارات.
(2)
مسند الإمام أحمد (3/ 134) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (7556)، ومسلم (17/ 24) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.
قال القسطلاني: واستشكل قوله: (أمرهم بأربع) مع ذكر خمسة، قال أبو عبد اللَّه الأبي: وأتم جوابٍ في المسألة ما ذكره ابن الصلاح من أن قوله: (وأن تعطوا. . . إلخ) معطوف على (أربع) أي: أمرهم بأربعٍ وبإعطاء الخمس. انتهى، ومنه يظهر قول الشارح فيما نقله عن بعضهم، وهذا أَولى من دعوى اضطراب متنه من جهة أنه أمرهم بأربع ولم يأمرهم إلا بالإيمان وحده وفسره بخمس. انتهى، فالضمير في (وفسره) للإيمان كما عرف. اهـ "مدابغي"
بضع وسبعون شعبة، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة أن لا إله إلا اللَّه" (1)، وهذا أولى من دعوى اضطراب متنه من جهة أنه أمرهم بأربع ولم يأمرهم إلا بالإيمان وحده، وفسره بخمس.
ويطلق الإسلام على مسمى الإسلام والإيمان؛ ومنه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، وخبر أحمد: أي الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان"(2)، وخبر ابن ماجه: ما الإسلام؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وتشهد أني رسول اللَّه، وتؤمن بالأقدار كلها، خيرها وشرها، حلوها ومرها"(3).
وقد أُطلق الإيمان كذلك أيضًا كما روي: "الإيمان اعتقاد بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان"(4) وهذه الإطلاقات الثلاثة تجَوُّزٌ وتوسُّع، وبها ينزاح كثيرٌ من الإشكال الناشئ عن ذلك الاستعمال.
ومنه -أعني: ما أطالوا به- أن الجواب بقوله: "أن تؤمن باللَّه. . . إلخ" فيه تعريف الشيء بنفسه، ثم ردوه بأن الإيمان لغة: مطلق التصديق، وشرعًا: تصديقٌ بأمورٍ مخصوصةٍ، فكأنه قال: الإيمان شرعًا: هو التصديق لغةً وزيادة، وهي: التصديق بتلك الأمور الخاصة.
ومنه: أن مسماهما لغةً غيره شرعًا، ففيه إثبات الحقائق الشرعية (5)، وهو الراجح، على أن الخلاف هنا لا طائل تحته؛ لاتفاقهم على أنه يستفاد من الأسماء الشرعية زيادة على أصل الوضع، وأما كون تلك الزيادة هل صيرتها موضوعًا شرعًا أو لا وإنما هي صفات على وضعها اللغوي (6)، والشارع إنما تصرَّف في شروطها وأحكامها. . فالأمر فيه قريبٌ وإن كان الراجح الأول؛ لتصرُّف الشارع فيها بالتخصيص كالإسلام والإيمان؛ لأنهما يعمان لغةً: كل انقيادٍ وتصديقٍ، لكن الشارع
(1) أخرجه مسلم (35/ 58)، وابن حبان (166)، والترمذي (2614) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
مسند الإمام أحمد (4/ 114) عن سيدنا عمرو بن عبسة رضي الله عنه.
(3)
سنن ابن ماجه (87) عن سيدنا عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(4)
انظر "سنن ابن ماجه"(65) فهو بنحوه عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(5)
في بعض النسخ: (ففيه إعمال الحقائق الشرعية).
(6)
قوله: (صفات) هكذا في النسخ، ولعله:(باقية) تحرفت على الناسخ. اهـ "مدابغي"
قصرهما على انقيادٍ وتصديقٍ مخصوصٍ، فهو نظير جعلِ العربِ الدابةَ لغةً: لكل ما دبَّ على وجه الأرض، ثم خصَّصها عُرْفُهم بذوات الأربع.
واعلم: أن مسائل الإيمان والإسلام والكفر والنفاق عظيمةٌ جدًّا، فيتعين على كل أحدٍ الاعتناءُ بتحقيقها؛ فإن اللَّه سبحانه وتعالى علَّق بها السعادة والشقاوة، والاختلافُ في مسمياتها أولُ اختلافٍ وقع في هذه الأمة بين الصحابة والخوارج المكفرين لعصاة الموحدين، ثم حدث خلاف المعتزلة وقولهم: إن مرتكب الكبيرة لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، فيخلد في النار (1)، ثم خلاف المرجئة وقولهم: إن الفاسق كامل الإيمان.
وهنا مسائل تتعلق بالإيمان، وتمس الحاجة إلى معرفتها، وهي أربع:
الأولى: في قبوله الزيادة والنقص، أنكرهما أبو حنيفة وأتباعه، واختاره من الأشاعرة إمام الحرمين وآخرون، قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:(وعليه أكثر المتكلمين) وأثبتهما جمهور الأشاعرة؛ قال المصنف: (وهو مذهب السلف والمحدثين)(2).
قال الفخر الرازي وغيره: والخلاف مبنيٌّ على أن الطاعة إن أخذت في مفهومه. . قبلهما، وإلَّا. . فلا؛ لأنه اسمٌ للتصديق الجازم مع الإذعان، وهذا لا يتغير بضم طاعةٍ ولا معصيةٍ إليه.
ورُدَّ: بأن القائلين بهما معترفون بأنه مجرد التصديق، وحمَلَهُم على ذلك ظواهرُ الكتاب والسنة؛ نحو:{زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} ، وغير ذلك مما ذكره
(1) قوله: (ثم حدث خلاف المعتزلة. . . إلخ) فإن قيل: فما الفرق بين قول الخوارج وقول المعتزلة في هذه المسألة؛ حيث إن كلًّا من الفريقين يقول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار؟ قلنا: الفرق أن المعتزلة يقولون: هو مخلَّدٌ في النار لكن يعذب عذابًا دون عذاب الكفر، والخوارج حكموا بكفره وتعذيبه عذاب الكفار؛ لأنهم يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فتأمل. اهـ هامش (غ)
(2)
انظر "شرح صحيح مسلم"(1/ 148). وحاصلها: أنه اختلف في الإيمان هل يزيد وينقص أم لا؟ على أقوال؛ فقيل: لا يزيد ولا ينقص، وقيل: يزيد وينقص بناءً على أن الأعمال داخلة فيه فيقبل ذلك بحسبها، وقيل: نفس التصديق يقبل الزيادة قوةً وضعفًا، وقيل: زيادة هي دوام حضوره بتوالي أشخاصه، والخلاف في إيمان غير الأنبياء والملائكة، أما هم. . فإيمانهم لا يقبل النقص. . . إلخ. اهـ "مدابغي"
البخاري وغيره، قالوا: ولا مانع عقلًا من قبول التصديق لهما؛ لأن اليقين الأخص من التصديق متفاوت القوة (1)، ألا ترى إلى ما بين أجلى البديهيات ككون الواحد نصف الاثنين، وأخفى النظريات القطعية ككون العالم حادثًا، وأيضًا فكل أحدٍ يقطع بأن تصديقنا ليس كتصديق أبي بكر، وبأن تصديقه ليس كتصديق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والمانعون لهما يقولون: نحن لا نمنعهما إلا بالنسبة لذات التصديق دون آثاره الخارجة عنه، وتفاوت اليقين السابق ليس تفاوتًا في شدةٍ وضعفٍ، بل في ظهور انكشافٍ أو تقدُّمٍ أو تأخرٍ، قالوا: وزيادته في الأدلة هي زيادة إشراقه في القلب وثمراته، كدوام حضوره بتوالي أشخاصه؛ إذ هو عَرَضٌ لا يبقى زمانينِ، وتواليهما لاستمرار شهود موجَبه مع شهود الجلال والكمال (2)، وهذا يختص كماله بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويشاركهم أكابر المؤمنين في نوعٍ منه، فثبت لهم أعداد من الإيمان لا تثبت لغيرهم.
وقضية ذلك: أن استمرارَ حضور الجزم زيادةُ قوةٍ في ذاته وليس كذلك، فإن أراد الأولون هذا بقولهم (3) بزيادة قوته. . فلا خلاف في المعنى؛ لاتفاق الفريقينِ على ثبوت التفاوت في الإيمان بهذا الأمر المعين، وإنما الخلاف حينئذٍ في أن هذا المعيَّن؛ هل هو داخلٌ في ماهية التصديق أو خارجٌ عنها؟ ولا عبرة به؛ لأنه ليس خلافًا في نفس التفاوت؛ قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (قال محققو أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يقبلهما، والإيمان الشرعي يقبلهما بزيادة ثمراته، وهي الأعمال ونقصها، قالوا: وفي هذا توفيقٌ بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة واللغة، وهو وإن كان ظاهرًا حسنًا فالأظهر -واللَّه أعلم-: أن نفس التصديق يزيد
(1) قوله: (لأن اليقين الأخص من التصديق) أي: فالتصديق من بابٍ أولى، وفي كلامه الجمع بين (أل) و (من) وهو ممنوع، وأُجيب بأن (أل) زائدة. اهـ "مدابغي"
(2)
قوله: (موجَبه) بفتح الجيم؛ أي: مقتضاه وهو المؤمن به، ورأيت بهامشٍ:(موجِبه) بكسر الجيم حضور القلب. . . إلخ، وهو غير ظاهر، بل الظاهر تفسير الموجب بالكسر الدليل، فتأمل. اهـ هامش (غ)
(3)
قوله: (فإن أراد الأولون هذا) أي: زيادة إشراقه في القلب وثمرته. . . إلخ. اهـ "مدابغي"
بكثرة النظر وتظاهر الأدلة (1)؛ إذ لا يمكن إنكار أن إيمان الصديقين أقوى من إيمان نحو المؤلفة، ومن ثَمَّ قال البخاري: عن ابن أبي مُليكة: أدركت ثلاثين صحابيًا كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحدٍ يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل) انتهى ملخصًا (2).
وإن كانت زيادة إشراقه غير زيادة قوته. . فالخلاف ثابت، لا يقال: تقرر أن الإيمان لا يتحقق بدون القطع وعدم التردد، وقول سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} يقتضي عدم الاطمئنان قبل ذلك، فلا قطع؛ لأنا نقول: ليس المراد ظاهره، بل هو مؤولٌ بأمورٍ، أحسنها ما قاله العز بن عبد السلام: أنه قاطعٌ بالإحياء عن دليله، لكنه اشتاق إلى مشاهدة كيفية هذا الأمر العجيب، الذي هو جازمٌ بثبوته، فهو كمن علم ببستانٍ في غاية النُّضرة والخضرة، فنازعته نفسه في مشاهدته، فإنها لا تسكن ولا تطمئن إلا إن شاهدته، فطلب بذلك سكونَ قلبه عن المنازعة إلى رؤية تلك الكيفية المطلوب رؤيتها (3)، أو أنه طلب العلم البديهي بعد العلم الاستدلالي.
الثانية: قال جمعٌ من الحنفية: الإيمان مخلوقٌ، وكلام أبي حنيفة صريحٌ فيه، وقال آخرون منهم: غير مخلوق، وهما متفقان على أن أفعال العباد كلَّها مخلوقةٌ للَّه سبحانه وتعالى، وبالغ جمعٌ منهم فكفَّروا مَنْ قال بخلقه؛ لما يلزم عليه من خلق كلامه سبحانه وتعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى قال:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فالمتكلم بها قاطعٌ بكلامه بما ليس بمخلوق، كما أن قارئآيةٍ يصير قارئًا لكلامه سبحانه وتعالى حقيقة.
ورُدَّ: بأن هذا جهلٌ وغباوةٌ؛ إذ الإيمان وفاقًا: التصديق بالجَنان، أو مع الإقرار باللسان، وكل منهما فعل العبد، وهو مخلوقٌ للَّه سبحانه وتعالى، وأيضًا: فقد قال الفقهاء: لا يكون المقروء قرآنًا إلا بالقصد، وأيضًا يلزمهم أن كل ذاكرٍ، بل كل
(1) هذا هو المعتمد؛ كما في "المدابغي".
(2)
انظر "شرح صحيح مسلم"(1/ 148 - 149)، وكلام ابن أبي مُليكة في "صحيح البخاري" في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
(3)
انظر "الفتاوى الموصلية" للعز بن عبد السلام رحمه اللَّه تعالى (ص 112 - 113).
متكلمٍ وافق كلامه أجزاءً من القرآن قد قام به ما ليس بمخلوقٍ من معاني كلامه تعالى، وذلك مما لا يقوله ذو لبٍّ، وأيضًا: المتلفظ بالشهادتين لم يقصد به قراءة، بل إقرار بالتصديق.
والحاصل: أن الواجب اعتقاده أن كل ما قام بقارئ القرآن حادثٌ؛ لأنه إن قام به مجرد التلفظ والملفوظ (1)؛ لعدم فهمه لما يقرأه. . فظاهر؛ إذ التلفظ أمرٌ اعتباري، وهو حادثٌ؛ لأنه مسبوق بما يعتبر به، والملفوظ سبقه العدم، فيستحيل قدمه، وإن قام به مع ذلك الفهم والتدبر. . فهو إنما يحدث في نفسه صورة معاني نظم القرآن، وغايتها أن تدلَّ على المعنى القائم بذاته سبحانه وتعالى، وليست هو (2)؛ للقطع بحدوثها وبعدم انفكاكه عن الذات الواجب الوجود، ولتغايرهما؛ إذ هو مدلولٌ لفعل القارئ، صفةٌ للكلام النفسي، والقائم بنفس القارئ هو صفةٌ للعلم بتلك المعاني النظمية، لا للكلام؛ بدليل أن القائم بقارئ:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ليس طلب إقامتها، بل العلم بأنه سبحانه وتعالى طلب ذلك.
قيل: وهذا ينافيه قولهم: القراءة -وهي أصوات القارئ- حادثةٌ؛ لوجوبها تارةً وحرمتها أخرى (3)، والمقروء بالألسنة، المكتوب في المصاحف، المسموع بالأسماع، المحفوظ في الصدور. . قديمٌ؛ لاقتضاته قيام المعنى القديم بنفس الإنسان؛ لأن المحفوظ مودعٌ في قلبه.
ورُدَّ: بأنهم لم يريدوا بهذا اللفظ ظاهره؛ لتصريحهم بما يدل على أنهم تساهلوا فيه إذ قالوا عقبه: ليس المقروء المذكور حالًّا في قلبٍ ولا لسانٍ ولا مصحفٍ، فأرادوا بالمقروء: المعلوم بالقراءة، والمكتوب: المفهوم من الخط، والمسموع: المفهوم من الألفاظ المسموعة، فالحالُّ في القلب هو نفس فهمه والعلم به، لا متعلقهما؛ إذ هو المعنى القديم القائم بذاته سبحانه وتعالى.
وقد نقل بعض أهل السُّنة أنهم منعوا من إطلاق القول بحلول كلامه سبحانه وتعالى
(1) في هامش (ب): (لعله: لا الملفوظ).
(2)
قوله: (وليست) أي: صورة معاني نظم القرآن (هو) أي: المعنى القائم بذاته تعالى، وفيه استعارة ضمير الرفع لضمير النصب؛ إذ كان القياس: وليست إياه. اهـ هامش (غ)
(3)
أي: لوجوب القراءة تارة كما في الصلاة، ولحرمتها أخرى كما في حال الجنابة.
في لسانٍ أو قلبٍ أو مصحفٍ ولو مع إرادة اللفظ؛ لئلا يسبق الوهم إلى إرادة النفسي القديم.
ثم ما مر من القول بعدم خلق الإيمان لم ينفرد به الحنفية، بل نقله الأشعري عن أحمد وجماعةٍ من أهل الحديث ومال إليه، لكن وجَّهه بغير ما مر، وهو أن المراد بالإيمان حينئذٍ: ما دلَّ عليه وصفُه تعالى بالمؤمن، فإيمانه هو تصديقه في الأزل بكلامه القديم لإخباره بوحدانيته، وليس تصديقه هذا محدثًا ولا مخلوقًا، تعالى أن يقوم به حادث؛ بخلاف تصديقه لرسله بإظهار المعجزة، فإنه من صفات الأفعال، وهي حادثةٌ عند الأشاعرة، قديمةٌ عند الماتريدية.
وبذلك علم أنه لا خلاف في الحقيقة؛ لأنه إن أُريد بالإيمان المكلف به. . فهو مخلوقٌ قطعًا، أو ما دل عليه وصفه سبحانه وتعالى بالمؤمن. . فهو غير مخلوقٍ قطعًا.
الثالثة: منع جماعةٌ منهم أبو حنيفة وأصحابه: أنا مؤمنٌ إن شاء اللَّه، وإنما يقال: أنا مؤمن حقًّا، وأجازه آخرون (1).
قال السبكي: (وهم أكثر السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والشافعية والمالكية والحنابلة، ومن المتكلمين الأشعرية والكُلَّابية (2)، وهو قول سفيان الثوري) اهـ (3)
(1) قال الشيخ الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية"(ص 100): يجوز عند الأشاعرة أن يقال: أنا مؤمنٌ إن شاء اللَّه؛ نظرًا للمآل، وهو مجهول الحصول في المستقبل، ووافقهم الشافعي على ذلك، ولا يجوز ذلك عند الماتريدية؛ نظرًا للحال، ووافقهم إمامنا مالك والأمام أبو حنيفة وأحمد؛ لأن الإيمان يجب فيه الجزم، ولا جزم مع التعليق، وقال ابن عبدوس -من أتباع مالك- بوجوب التعليق؛ لما في تركه من الجزم الذي فيه تزكية النفس، وقد قال تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} ، وقد نظم ذلك بعض شيوخنا مع زياده فقال:[من الرجز]
من قال إني مؤمنٌ يمنعُ مِنْ
…
مقاله: إن شاء ربي يا فطِنْ
وذا لمالكٍ وبعض تابعيهْ
…
يوجب أن يقول هذا يا نبيهْ
ومثل ما لمالكٍ للحنفي
…
والشافعي جَوَّزَ هذا فاعرفِ
وامنعه إجماعًا إذا أراد بهْ
…
أَلشكَّ في إيمانه يا منتبهْ
كعدمِ المنعِ إذا به يُرادْ
…
تبركٌ بذكرِ خالقِ العبادْ
فالخُلفُ حيثُ لم يردْ شكًا ولا
…
تبرُّكًا فكُنْ بذا محتفلا
(2)
الكُلَّابية -بضم الكاف وبالموحدة-: نسبة إلى سعيد بن كُلاب، أحد مشايخ أهل السنة، أقدم من الشيخ أبي الحسن الأشعري. اهـ هامش (ب)
(3)
فتاوى السبكي (1/ 53).
وفي "شرح مسلم": (عن أكثر أصحابنا المتكلمين: لا يقول: أنا مؤمنٌ مقتصرًا عليه، بل يضم إليه: "إن شاء اللَّه تعالى"، وعن الأوزاعي وغيره: التخيير، وهو حسنٌ صحيحٌ؛ إذ مَنْ أطلق. . نَظَرَ إلى أنه جازمٌ في الحال، ومَنْ قال: إن شاء اللَّه. . إما للتبرك، أو للجهل بالخاتمة، والكافر في التقييد بـ "إن شاء اللَّه" كالمسلم) انتهى ملخصا" (1).
وليس الخلاف فيمن يأتي بـ (إن شاء اللَّه) شاكًا في ثبوت الإيمان له حالًا؛ لأنه كافر، بل هو فيمن هو جازمٌ به حالًا، غير أن بقاءه على الموت عليه غير معلومٍ له.
ووجه جوازه: أنه ليس القصد بالاستثناء فيه إلا التبرك؛ اتباعًا لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فإنه يعمُّ طلب الاستثناء حتى في قطعيِّ الحصول، وقد صرَّح به فيه (2) في:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} مع أن خبره تعالى قطعيُّ الصدق؛ تعليمًا وتأديبًا لعباده في صرف الأمور كلِّها إلى مشيئته.
ووجه ربطه بالمشيئة: أن المعتبر في النجاة هو الموت على الإيمان، وهذا غير معلوم، وهو أمرٌ مستقبَلٌ، فصح ربطه بها لا تعليقًا، بل تبركًا واتباعًا وفَرَقًا من سوء الخاتمة (3).
وأما توجيهُ منعه بأنَّ تركَهُ أَبعدُ عن التهمة بعدم الجزم به في الحال الذي هو كفر، وبتقدير أنه قصد غير التعليق، فربما اعتادت نفسه التردُّد في الإيمان؛ لكثرة إشعار النفس بواسطة الاستثناء بتردُّدها في ثبوت الإيمان واستمراره. . فجوابه: أنه لا تهمة مع القرائن القطعية بانتفائها.
وأيضًا: إشعار اللفظ بما مر إنما هو بالنظر للتعليق، وليس الكلام فيه؛ إذ الفَرْض أنه إنما قصد التبرك؛ لما مر، على أنه لو فرض أنه أطلق فلم يقصد تعليقًا ولا تبركًا. .
(1) انظر "شرح صحيح مسلم"(1/ 150).
(2)
أي: وقد صرح بالاستثناء في قطعي الحصول في قوله تعالى. . . إلخ.
(3)
في بعض النسخ: (وخوفًا من سوء) وهما بمعنًى.
فالذي يظهر: أنه لا إثم عليه أيضًا؛ لأن الفرض أنه جازمٌ بالإيمان في الحال، وإيهام لفظه تدفعه قرائن أحواله.
الرابعة: الإيمان باقٍ حكمًا شرعيًا مع النوم والغفلة والإغماء والجنون والموت وإن ضادت التصديق والمعرفة، ونظير ذلك بقاء نحو النكاح وسائر العقود في هذه الأحوال.
(قال: فأخبرني عن الإحسان)(أل) فيه للعهد الذهني المذكور في الآيات الكثيرة؛ نحو: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، و {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} فلمَّا كثر تكرره وعظم ثوابه. . سأل عنه جبريل؛ ليُعلِمهم بعظيم ثوابه وكمال رفعته.
وهو مصدر: أحسنت كذا وفي كذا؛ إذا أحسنتَهُ وكملتَهُ (1)، متعديًا بهمزة، من (حسن كذا)، وبحرف الجر كـ (أحسنت إليه) إذا فعلتَ معه ما يحسن فعله، والمراد هنا: الأول؛ إذ حاصله راجعٌ إلى إتقان العبادات بأدائها على وجهها المأمور، مع رعاية حقوق اللَّه تعالى فيها، ومراقبته، واستحضار عظمته وجلاله ابتداءً واستمرارًا، وهو على قسمين (2):
أحدهما: غالبٌ عليه مشاهدة الحق؛ كما (قال) صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد اللَّه) من (عبد): أطاع، والتعبد: التنسك، والعبودية: الخضوع والذل (كأنك تراه) وهذا من جوامع الكلم؛ لأنه جمعَ -مع وجازته- بيانَ مراقبةِ العبد ربَّه في إتمام الخضوع والخشوع وغيرهما في جميع الأحوال، والإخلاصِ له في جميع الأعمال، والحث عليهما (3)، مع بيان سببهما الحامل عليهما؛ لملاحظة أنه لو قُدِّر أن أحدًا قام في عبادةٍ وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى. . لم يترك شيئًا مما يقْدِر عليه من
(1) في كلامه تفسير الشيء بنفسه، وعبارة غيره من الشُّراح:(إذا أتقنته وكملته) اهـ هامش (غ)
(2)
قوله: (وهو على قسمين) أي: صاحبه أو المتحلِّي به على قسمين، فهو على حذف مضاف، والضمير راجعٌ للمحسن المفهوم من الإحسان بقرينة ما بعده، فليتامل. اهـ "مدابغي"
(3)
قوله: (والحث عليهما) بالنصب عطفًا على (بيان) أي: وجمع الحث على المراقبة والإخلاص. اهـ "مدابغي"
الخضوع، والخشوع، وحسن الصمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن الوجوه.
والثاني: من لا ينتهي إلى تلك الحالة، لكن يغلب عليه أن الحق له سبحانه وتعالى مُطَّلعٌ عليه، ومشاهدٌ له، وقد بينه صلى الله عليه وسلم بقوله:(فإن لم تكن تراه. . فإنه يراك)(1) مشيرًا إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون حاله مع فرض عدم عِيانه لربه سبحانه وتعالى كهو مع عيانه؛ لأنه سبحانه وتعالى مطلع عليه في الحالين؛ إذ هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت، مشاهدٌ لكل أحدٍ من خلقه في حركته وسكونه، فكما أنه لا يُقْدِم على تقصيرٍ في الحال الأول. . كذلك لا ينبغي له أن يُقْدِم عليه في الحال الثاني؛ لما تقرر من استوائهما بالنسبة إلى اطلاع اللَّه وعلمه وشهود عظيم كماله وباهر جلاله سبحانه وتعالى.
وقد ندبَ أهلُ الحقائق إلى مجالس الصالحين؛ لأنه لاحترامه لهم وحيائه منهم لا يقدم على تقصيرٍ في حضرتهم، وإلى أن العبد ينبغي له أن يكون في عبادة ربه كضعيفٍ بين يدي جبار؛ فإنه حينئذ يتحرَّى ألَّا يصدر منه سوءُ أدبٍ بوجهٍ.
ثم هذان الحالان هما ثمرتا معرفة اللَّه وخشيته سبحانه وتعالى، ومن ثَمَّ عبَّر بها عن العمل في خبر:"أن تخشى اللَّه كأنك تراه"(2) مجازًا عن المسبب باسم السبب (3).
قيل: وينبغي أن يكون الجواب قد انتهى عند قوله: (تراه)(4) وما بعده
(1) قوله: (فإن لم تكن تراه): (إن) للشرط، و (لم تكن) جملة وقعت فعل الشرط، فإن قلتَ: أين جزاء الشرط؟ قلتُ: محذوفٌ تقديره: فإن لم تكن تراه. . فأحسنِ العبادة؛ فإنه يراك، فإن قلت: لِمَ لا يكون قوله: (فإنه يراك) جزاء الشرط؟ قلتُ: لا يصح؛ لأنه ليس مسببًا عنه، وينبغي أن يكون فعل الشرط سببًا لوقوع الجزاء؛ كما تقول في: إن جئتني. . أكرمتك؛ فإن المجيء هو السبب للإكرام، وعدمه سبب لعدمه، وههنا عدم رؤية العبد ليست بسببٍ لرؤية اللَّه تعالى، فإن اللَّه تعالى يراه سواء وجدت من العبد رؤيةٌ أم لم توجد، فإن قلت: ما الفاء في قوله: (فإنه)؟ قلت: للتعليل على ما لا يخفى. اهـ "مدابغي"
(2)
أخرجه مسلم (10) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
قوله: (مجازًا عن السبب) هو العبادة، وقوله:(باسم السبب) وهو الخشية؛ فإن خشية اللَّه تعالى سببٌ لعبادته.
(4)
أي: الأول.
مستأنفٌ؛ لأن الأولى من جنس مقدور العبدا؛ لجواز أن يوجد وألَّا يوجد، بخلاف الثاني؛ فإنه سبحانه وتعالى يرى الكائنات جملةً وتفصيلًا على الدوام، لا يشذُّ عن نظره شيءٌ في وقتٍ من الأوقات. اهـ
وجوابه: يعلم مما قررته في معناه من أن المطلوب به (1) استحضار أنه بين يدي الحق بمرأىً منه ومسمعٍ؛ ليكسبه ذلك غاية الكمال في عباداته، والإعراض عن عاداته، واستحضارُ ذلك مقدور للعبد ومكملٌ له فكُلِّف به، ولا يلزم من نظر اللَّه سبحانه وتعالى للعبد وأحواله أن العبد يستحضر ذلك، فظهر أنه من تتمة الجواب، وأنه ليس أمرًا مستأنفًا وإن تتابع على تلك المقالة جماعةٌ من الشُّراح.
ثم رأيت بعضهم قال: إنه تعليلٌ لما في قبله؛ فإن العبد إذا أُمِرَ بمراقبة اللَّه سبحانه وتعالى في عبادته واستحضار قربه منه حتى كأنه يراه. . شقَّ عليه ذلك، فيستعين عليه بإيمانه بأن اللَّه سبحانه وتعالى مطلع عليه لا يخفى عليه منه شيءٌ؛ ليسهل عليه الانتقال إلى ذلك المقام الأكمل، الذي هو مقام الشهود الأكبر.
ومن البعيد وَقفُ بعض الصوفية على (تراه) الثاني (2)؛ لظنهم أن المراد: أنك إذا فنيت عن نفسك فلم ترها شيئًا. . شاهدت ربك؛ لأنها الحجاب بينك وبين شهوده، والمعنى وإن صح إلا أن لفظ الحديث لا ينطبق عليه، فتنزيله عليه جهل من قائله بقواعد العربية وأساليبها (3).
قيل: وفي الحديث دلالةٌ على أن رؤيته سبحانه وتعالى في الدنيا ممكنةٌ عقلًا؛ لأن
(1) أي: بالثاني.
(2)
قوله: (ومن البعيد وقف بعض الصوفية على "تراه" الثانية) لظنهم أن فعل الشرط (لم تكن) وهي تامة لا خبر لها، و (تراه) جواب الشرط، وقوله:(فإنه يراك) تفريعٌ، والمعنى: فإن لم توجد؛ أي: لم تفرض أن نفسك موجودةٌ. . فإنك ترى ربك عز وجل، والمراد "أنك إذا فنيت عن نفسك. . . إلخ. اهـ "مدابغي"
(3)
قال الصلاح الصفدي: وغفل هذا القائل للجهل بالعربية عن أنه لو كان المراد ما زعم. . لكان قوله: (تراه) محذوف الألف؛ لأنه يصير مجزومًا، لكونه على ما زعمه جواب الشرط، وتعقبه الدماميني بقوله: إنما تصح هذه الدعوى التي عارض بها الصفدي لو كان الجواب في هذه الصورة مما يجب جزمه، وهو ممنوع؛ فقد نصَّ الإمام جمال الدين بن مالك في "التسهيل" على أن الشرط إذا كان منفيًا بـ (لم). . جاز رفع الجواب بكثرة، وكفانا به حجة. على أن الشُّرَّاح قبلوا هذا منه ولم يتعقبوه، وعليه: فيصح قولنا: إن لم يقم زيد. . يقوم عمرو، ويتخرج عليه الحديث، فلا يكون رفع الفعل المضارع الذي هو (تراه) مانعًا من دعوى كونه جوابًا للشرط. اهـ "مدابغي"
(لم) لنفي الممكن (1)، كـ (زيد لم يقم) بخلاف (لا) كـ (الحجر لا يطير) اهـ
وإمكانها في الدنيا عقلًا هو الحق، ومن ثَمَّ سألها موسى عليه الصلاة والسلام، ومحالٌ أن يسأل نبيٌّ ما لا يجوز على اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك جهلٌ باللَّه تعالى وبما يجب له ويستحيل عليه، والنبي معصومٌ منه قطعًا.
أما في الآخرة. . فهي ممكنةٌ بل واقعةٌ؛ كما صرحت به النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية التي كادت تتواتر، وخلاف المعتزلة في ذلك لسوء جهلهم، وفرط عنادهم، وتصرفهم في النصوص بأرائهم القاصرة الفاسدة، نعوذ باللَّه سبحانه وتعالى من أحوالهم (2).
(قال: صدقت)(3) وأخَّر هذا عن الإسلام والإيمان؛ لأنه غاية كمالهما، بل والمُقَوِّم لهما؛ إذ بعدمه يتطرق إلى الإسلام -بمعنى الأعمال الظاهرة- الرياءُ والشرك، وإلى الإيمان النفاقُ، فيظهره رياءً أو خوفًا، ومن ثَمَّ قال تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} ، {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} فشرَطَهُ فيهما.
وفي هذا وما قبله دليلٌ على أن الاسم غير المسمى؛ لأن جبريل أتى في سؤاله بأسامٍ: هي الإسلام وتالياه، فأُجيب بمسمياتها، ولو اتَّحدا. . لعلَّمها جبريل مَنْ علَّمه بأسمائها، وهذه مسألةٌ طويلة الذيل، وليس للخلاف فيها كبير فائدة؛ فلذا أضربنا عن حكايته، واقتصرنا على الأصح منه بدليله، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} (4) إن جعلنا (اسم) فيه صلة. . فظاهر، أو غير صلة. . فمعناه: أنه يجب تنزيه الاسم كما يجب تنزيه مسماه، وهو الذات الواجب الوجود؛ لأن الأصح: أن أسماء اللَّه تعالى توقيفية، فلا يجوز أن يسمى سبحانه وتعالى إلا بما صح عن الشارع أنه من أسمائه.
(1) أي: غالبًا فلا يرد: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} اهـ هامش (غ).
(2)
قال في "بدء الأمالي": (من الوافر)
يراه المؤمنون بغير كيفٍ
…
وإدراك وضرب من مثالِ
فينسون النعيم إذا رأوهُ
…
فيا خسرانَ أهل الاعِتزالِ
(3)
ليست من نسخ المتن ولا هي موجودة في "صحيح مسلم"، واللَّه أعلم.
(4)
قوله: (واقتصرنا على الأصح منه) وهو: أن الاسم غير المسمى، وقوله:(بدليله) يعني هذا الحديث، وقوله:(و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. . . إلخ) أي: فهذا ظاهره يقتضي أن الاسم عين المسمى لا غيره؛ لأن التسبيح -الذي هو التنزيه- إنما يكون للذات، فمعنى المضاف هو المضاف إليه، وجوابه: أن الاسم صلة، أو كما يجب تنزيه الذات يجب تنزيه الاسم. اهـ "مدابغي"
ومعنى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} بعد قوله: {بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} أي: يا أيها الذي اسمه يحيى.
ثم المغايرة بينهما ذاتيةٌ، فالاسم: الموضوع للذات تعريفًا أو تخصيصًا، والمسمَّى: الموضوع له، والتسمية: الوضع، والمسمِّي -بكسر الميم-: الواضع، والوضع: تخصيص لفظٍ بمعنًى بحيث إذا أُطلق ذلك اللفظ. . فُهم ذلك المعنى.
(قال: فأخبرني عن الساعة)(1) أي: عن زمن وجود يوم القيامة، سُمِّي بها مع طول زمنه اعتبارًا بأول أزمنته؛ فإنها تقوم بغتةً في ساعة، حتى إن من تناول لقمةً لا يمهل حتى يبتلعها:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} .
وهي لغة: قطعةُ زمنٍ غير معينٍ ولا محدودٍ، وفي اصطلاح المؤقتِين ونحوهم: جزءٌ من أربعةٍ وعشرين جزءًا من الليل والنهار.
(قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) أي: بل كلانا سواء في عدم علم زمن وجودها: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، {إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} الآيات.
وفي "الصحيح": "مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمهنَّ إلا اللَّه" وتلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآيةَ (2)، وروى أحمد "أُوتيت مفاتيح كل شيءٍ إلا الخمس:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآيةَ (3).
ففيه أنه ينبغي للمفتي والعالم وغيرهما إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن ذلك لا ينقصه، بل يُستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه، ومن ثَمَّ قال علي كرم اللَّه وجهه:(وابَرْدها على كبدي؛ إذا سئلتُ عما لا أعلم أن أقول: لا أعلم)(4).
(1) قوله: (قال: فأخبرني عن الساعة) وإنما سأل جبريل عن وقت الساعة مع علمه أن أحدًا لا يطلع عليه؛ لينبِّه الناس عن قطع أطماعهم عن التلفت إلى الاطلاع عليها. اهـ "مدابغي"
(2)
صحيح البخاري (4778) و (1/ 379) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما. وفي "شرح الجوهرة" للقاني ما نصه بعد كلام يتعلق بذلك: والحق -كما قاله جمعٌ- أن اللَّه تعالى لم يقبضه عليه الصلاة والسلام حتى أطلعه على كل ما أبهمه عنه، إلا أنه أمره بكتم بعضٍ، والإعلام ببعض. اهـ هامش (أ).
(3)
مسند الإمام أحمد (2/ 85) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه الدارمي في "سننه"(181)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/ 510). وقوله:(وابردها): =
وقال بعض السلف: إذا أخطأ العالم (لا أدري). . فقد أُصيبت مقاتله.
(قال: فأخبرني عن أمارتها) بفتح الهمزة -إذ هي بكسرها: الولاية- أي: أشراطها وعلاماتها الدالة على اقترابها، وربما روي:"أماراتها".
(قال: أن تلد الأمة) أي: القِنَّة و (أل) فيها للماهية ونحوها مما يأتي، دون الاستغراق؛ لعدم اطراد ذلك في كل أَمة.
(ربتها) أي: سيدتها -وفي رواية: "ربها"(1) أي: سيدها، وفي أخرى:"بعلها"(2) بمعنى ربها (3)، ومنه:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} أي: ربًا- كناية: إما عن كثرة السراري اللازمة لاستيلائنا على بلاد الكفر، حتى تلد السرية بنتًا. أو ابنًا لسيدها، فيكون ولدها سيدها كأبيه، فالعلامة استيلاؤنا على بلادهم وكثرة الفتوح والتسري.
أو عن كثرة بيع المستولدات لفساد الزمان، حتى تشتري المرأة أمها وتسترقَّها جاهلةً أنها أمها، فالعلامة غلبة الجهل الناشئِ عنها بيعُ أم الولد، وهو ممنوعٌ إجماعًا على نزاعٍ فيه.
قيل: ويتصور هذا في غير أمهات الأولاد، بأن تلد حرًا بشبهة، أو قِنًّا بنكاحٍ أو زنًا، ثم تُباع بيعًا صحيحًا وتدور في الأيدي حتى يشتريها ولدها، وهذا أكثر وأعم من تقديره في أمهات الأولاد.
أو عن كون الإماء يلدْنَ الملوك، فتكون أم الملك من جملة رعيته، وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته، وإنما يظهر هذا على رواية:"ربها" لا: "ربتها" لندرة كون الأنثى ملكة.
= مندوبٌ متفجع؛ أي: وابرد هذه المسألة على كبدي؛ حتى أستريح به من الحرارة، وهي كلمة تعجبٍ بمعنى: ما أشد بردها على كبدي. . . إلخ، ويحتمل ضبطه بهمزة مفتوحة بعد الواو، وإسكان الباء الموحدة، وفتح الراء، ورفع الدال أفعل التفضيل. اهـ هامش (غ)
(1)
عند البخاري (50)، ومسلم (9).
(2)
عند مسلم (9/ 6).
(3)
فإن قيل: كيف أطلق الرَّب على غير اللَّه وقد ورد النهي عنه بقوله: "لا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ومولاي"؟!. . فالجواب: أن الممنوع إطلاقه على غير اللَّه بدون الإضافة، وأما بالإضافة. . فلا يمنع؛ يقال: رب الدار، ورب الناقة. اهـ "مدابغي"
أو عن كثرة عقوق الأولاد لأمهاتهم، فيعاملونهم معاملة السيد أمته من الإهانة والسبِّ، ويُستأنس له برواية:"أن تلد المرأة"(1)، وبخبر:"لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظًا"(2).
أو عن كثرة بيع السراري، حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري، بناء على رواية:"بعلها" وأن المراد به زوجها.
ولا دلالة في ذلك لمنع بيع أمهات الأولاد ولا لجوازه، خلافًا لمن زعمه؛ إذ لا يلزم من كون الشيء علامةً للساعة حرمتُهُ ولا ذمُّه؛ لما يأتي في التطاول في البنيان وغيره، وأيضًا: فكما فيه إشارةٌ لا إلى جواز بيعها من جهة أنه جَعْلُ ولدها سيدَها المستلزمِ لملكه لها بعد الموت حتى عتقت، ويلزم من كونها إرثًا جوازُ بيع المستولد لها. . فيه إشارةٌ إلى منع بيعها؛ لأن معنى كون ولدها ربَّها: أنها بولادته عتقت؛ لها: ثبت لها حق العتق فامتنع بيعها، ومن ثَمَّ قال صلى الله عليه وسلم في سريته مارية لما ولدت إبراهيم:"أعتقها ولدها"(3)، فلما تعارض هذان الاحتمالان. . تساقطا، وصار تقديم أحدهما تحكمًا.
(وأن ترى الحفاة) جمع حافٍ بالمهملة؛ وهو: من لا نعل برجله.
(العراة) جمع عارٍ؛ وهو: من لا شيء على جسده، وفي رواية:"الحفدة" أي: الخَدَمة، و (أل) هنا وإن احتملت الاستغراق إلا أن العادة القطعية دالةٌ على تخصيصه، وأن كل واحدٍ منهم لا يحصل له ذلك؛ فالأَولى: كونها للمعهود عند المخاطبين (4)، أو لتعريف الماهية.
(العالة) بتخفيف اللام جمع عائلٍ، من (عال): افتقر، ومنه:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} و (أعال): كثرت عياله.
(1) عند البخاري (4777) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه؛ ولفظه: "إذا ولدت المرأة. . . ".
(2)
أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(949) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها. وقوله: (غيظًا) أي: ضررًا على والديه.
(3)
أخرجه الحاكم (2/ 19)، وابن ماجه (2516)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 346) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
أي: الفقراء، ومعناه: أن أسافل الناس يصيرون أهل ثروة ظاهرة. اهـ هامش (غ)
(رِعاء) بكسر أوله وبالمد جمع راعٍ، ويجمع أيضًا على رُعاة بضم أوله وهاء آخره مع القصر، والرعي: الحفظ.
(الشاء) جمع شاة، وهو من الجموع التي يفرق بينها وبين واحدها بالهاء، وفي رواية لمسلم:"رعاء البُهم"(1) جمع بَهمة بفتح أوله: صغار الضأن والمعز، وقد يخص بالمعز (2)، وفي رواية للبخاري:"رعاء الإبل البُهم"(3) بضم أوله جمع بهيم، قيل: مجهول (4)، والأَولى: أنه الأسود الصرف، وفيه الرفعُ صفة لـ (رعاء) لأن الأدمة غالب ألوان العرب، والجرُّ صفة لـ (الإبل).
وخُصَّ مطلق الرعاء؛ لأنهم أضعف الناس، ورعاء الشاء؛ لأنهم أضعف الرعاء، ومن ثَمَّ قيل: رواية: "رعاء الشاء" أنسب بالسياق من رواية: "رعاء الإبل" فإنهم أصحاب فخرٍ وخيلاء، وليسوا عالةً ولا فقراء غالبًا.
ويجاب بأن فخرهم إنما هو بالنسبة لرعاء الشَّاء لا لغير الرعاء، فالقصد حاصلٌ بذكر مطلق الرعاء، ولكنه برعاء الشاء أبلغ.
فإن قلت: القصة غير متعددة، فكيف الجمع بين الروايتين؟
قلتُ: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما فقال: "رعاء الإبل والشاء" فحفظ راوٍ الأولَ، وآخرُ الثاني.
(يتطاولون في البنيان) وهذا كناية عن كون الأسافل يصيرون ملوكًا أو كالملوك؛ أي: إذا رأيت أهل البادية الغالب عليهم الفقر وأشباهَهُم من أهل الحاجة والفاقة قد ملكوا أهل الحاضرة بالقهر والغلبة، فكثرت أموالهم، واتسع في الحطام آمالهم، فتفرق هممهم إلى تشييد المباني، وهدمِ أركان الدين بعدم العمل بآي المثاني. . فذاك من علامات الساعة.
(1) صحيح مسلم (9) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
كتب الشيخ الشوبري رحمه الله: قال بعضهم: وقل: أولاد الضأن خاصة واقتصر عليه الجوهري. اهـ، فقول الشارح:(وقد يخص بالمعز) صوابه: بالضأن، فليراجع. اهـ "مدابغي"
(3)
انظر "صحيح البخاري"(50) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أي: اللون.
ومن ثَمَّ صح: "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع"(1) أي: لئيم بن لئيم.
وصح أيضًا: "من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار"(2).
وقد بالغ صلى الله عليه وسلم في روايةٍ في تحقيرهم، فوصفهم بأنهم صمٌّ بكمٌ (3)؛ أي: جهلةٌ رَعَاع، لم يستعملوا أسماعهم ولا ألسنتهم في علمٍ ونحوه من أمر دينهم، فلعدم حصول ثمرتي السمع واللسان صاروا كأنهم عدموهما؛ ومن ثَمَّ قال اللَّه تعالى في حقهم:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} قيل: فيه دليلٌ لكراهة تطويل البناء. اهـ (4)
وفي إطلاقه نظر، بل الوجه: تقييد الكراهة -إن سُلِّمت؛ لما يأتي لا لهذا، فقد مر أن جَعْلَ الشيء من أمارات الساعة لا يقتضي ذمه- بما لا تدعو الحاجة إليه، وعليه يحمل خبر:"يؤجر ابن آدم على كل شيءٍ إلا ما يضعه في هذا التراب"(5).
وخبر أبي داوود: أنه صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قُبةً مشرِفةً، فقال:"ما هذه؟ " قالوا: هذه لرجلٍ من الأنصار، فجاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه، فعل ذلك مرارًا، فهدمها الرجل (6).
وخبر الطبراني: "كل بناءٍ -وأشار بيده هكذا على رأسه- أكثر من هذا فهو وبالٌ"(7).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمار بن أبي عمار قال: (إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة
(1) أخرجه الترمذي (2209)، والإمام أحمد (5/ 389) عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه الحاكم (4/ 554) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.
(3)
وهي رواية الإمام محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(367) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما من حديث طويل؛ واللفظ فيه: "وأن ترى الصم البكم العمي رعاء الشاء يتطاولون البناء ملوك الناس. . . ".
(4)
قوله: (الكراهة تطويل البناء) أي: كراهة تنزيه؛ لأنه متى أُطلقت الكراهة. . فالمراد بها ذلك. اهـ "مدابغي"
(5)
أخرجه البخاري (5672)، والترمذي (2483) عن سيدنا خباب رضي الله عنه بنحوه.
(6)
انظر "سنن أبي داوود"(5237) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(7)
المعجم الأوسط (3105) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
أذرعٍ. . نُودي: يا أفسق الفاسقين؛ إلى أين؟!) (1) ومثله لا يقال من قِبَل الرأي.
واقتصر في الجواب على أَمارتين مع شمول السؤال لأكثر، ومع أن لها أماراتٍ أُخر صغارًا وعظامًا؛ كالدجال، والمهدي، وعيسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وكثرة الهرج، وفيض المال حتى لا يقبله أحد، وانحسار الفرات عن جبلٍ من ذهب، وغير ذلك مما ألَّف الناس في استقصائه كتبًا مدونة. . تحذيرًا للحاضرين وغيرهم عنهما؛ لاقتضاء الحال ذلك؛ إذ لعل منهم من تعاطى شيئًا منهما، فزجره عنه، وإن قلنا: إن جعلَ الشيء أمارة لا يقتضي ذمه؛ لأن معناه -كما هو ظاهر-: أنه لا يستلزمه، وإلا. . فالغالب أنه ذمٌّ له.
(ثم انطلق) أي: جبريل (فلبث)(2) زمنًا (مليًا) بتشديد الياء؛ أي: كثيرًا، من الملوان: الليل والنهار (3)، وأما المهموز. . فهو من الملاءة؛ أي: اليسار، وفي رواية:(فلبثت) إخبارًا عن نفسه، وبيَّنتْ روايةُ أبي داوود والترمذي وغيرهما أنه لبث ثلاثًا (4)، وظاهره: أنها ثلاث ليالٍ، وقد ينافيه خبر أبي هريرة: فأدبر الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ردوه" فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئًا (5)، فقال:"هذا جبريل"(6).
وأُجيب بأنه يحتمل أن عمر لم يحضر قوله هذا، بل كان قد قام فأُخبر به بعد ثلاث.
(1) عزاه الحافظ السخاوي رحمه اللَّه تعالى في "المقاصد الحسنة"(ص 405) إلى الطبراني، وعنه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 75) عن الحسن عن أنس مرفوعًا رضي الله عنهما، ثم قال: وله شواهد. وذكره أيضًا الحافظ المنذري رحمه اللَّه تعالى في "الترغيب والترهيب"(2803) عن عمار بن عامر رضي الله عنه، وعزاه لابن أبي الدنيا موقوفًا على سيدنا عمار وقال:(ورفعه بعضهم ولا يصح).
(2)
قوله: (فلبث) أي: النبي صلى الله عليه وسلم؛ يعني أمسك عن الكلام. اهـ "مدابغي"
(3)
هو ملحق بالمثنى فكان القياس (من الملوين) إلا أن يقال: هو على لغة مَنْ يُلزم المثنى الألف، فليراجع. اهـ "مدابغي"
(4)
سنن أبي داوود (4695)، وسنن الترمذي (2610) عن سيدنا عمر رضي الله عنه.
(5)
في جميع النسخ: (فأخذوا يردوه) بحذف اللام، والصواب: إثباتها كما في رواية مسلم، ولقد نبه على ذلك العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى.
(6)
أخرج نحوه البخاري (50)، ومسلم (9).
(ثم قال: يا عمر؛ أتدري من السائل؟) فيه ندبُ تنبيه المعلم تلامذتَه، والكبيرِ مَنْ دونهم على فوائد العلم وغرائب الوقائع؛ طلبًا لنفعهم ومزيد فائدتهم وتيقظهم.
(قلت: اللَّه ورسوله أعلم) فيه حسن ما كان عليه الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم من مزيد الأدب معه صلى الله عليه وسلم، برد العلم إلى اللَّه وإليه (1).
(قال: هذا جبريل)(2) اسمٌ أعجميٌّ سريانيٌّ، قيل: معناه: عبد اللَّه، احتجَّت به الحلولية والاتحادية -لعنهم اللَّه تعالى- على مذهبهم الباطل، من جهة أنه روحانيٌّ، وقد خلع صورة الروحانية وظهر بمظهر البشرية (3).
وكان يظهر في صورة دحية، فيَعْلَمُه النبي صلى الله عليه وسلم ملَكًا، والناس حوله يعتقدونه بشرًا؛ أي: ولم يره صلى الله عليه وسلم على صورته الأصلية إلا مرتين.
قالوا: فإذا قَدر على ذلك وهو مخلوق. . فاللَّه سبحانه وتعالى أقدر على الظهور في صورة الوجود الكلي أو بعضه، قالوا: ويدل له النصوص الدالة على أنه يَرى ولا يُرى، وما ذاك إلا لأنه ماهيةٌ لطيفةٌ.
وجوابه: أن البرهان قاطعٌ باستحالة الحلول والاتحاد عليه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، فلا نظر لظواهرَ تقتضي خلافه.
على أنه لا دلالة لهم في ذلك؛ لأن جبريل جسمٌ نورانيٌّ في غاية اللطافة، فقبلتْ ذاتُه التشكل والانخلاع من طورٍ إلى طورٍ، واللَّه سبحانه وتعالى منزهٌ عن الجسمية وسائرِ لوازمها كما مر.
وكونه تعالى يَرَى ولا يُرى، أو أقرب إلينا من حبل الوريد، أو بين المصلي وقبلته
(1) قال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية"(ص 84 - 85) بعد نقله كلام الشارح: (وكذا ذكره الشارح الهيتمي، ومن المعلوم أن ذلك إنما يحسن عده من الأدب لو كانوا يعلمون من السائل وردوا العلم إليه إجلالًا له، وهم كانوا غير عالمين قطعًا إلا أن يقال: فيه حسن الأدب من جهة تفويض العلم إليهما، بخلاف: لا نعلم).
(2)
هكذا في النسخ كلها، واللفظ في نسخ المتن وفي "صحيح مسلم":(قال: فإنه جبريل).
(3)
الحلولية: هم الذين عبدوا كل صورةٍ حسنةٍ؛ لزعمهم أن الإله قد حل فيها؛ أي: نزل ودخل فيها. اهـ "الأنوار لعمل الأبرار"(2/ 103)
لا دليل فيه على كونه ماهيةً بوجهٍ؛ إذ القرب والبينيَّة في ذلك أمرٌ معنويٌّ لا حِسَيٌّ؛ كما دلت عليه النصوص القطعية السمعية، والبراهين العقلية.
وظاهر رواية البخاري: أنه لم يعرفه إلا في آخرة الأمر (1)، وورد:"ما جاءني في صورةٍ لم أعرفها إلا في هذه المرة"(2)، وفي حديث "صحيح ابن حبان":"والذي نفسي بيده؛ ما شُبِّه عليَّ منذ أتاني قبل مَرَّتي هذه، وما عرفته حتى ولَّى"(3).
(أتاكم يعلمكم) بسبب سؤاله، فنسبة التعليم إليه مجاز (4)، وإلا. . فالمعلِّم لهم حقيقةً هو النبي صلى الله عليه وسلم.
(دينكم) أي: قواعده وأحكامه، وفي رواية ابن حبان:"يعلمكم أمر دينكم، فخذوا عنه"(5).
وفيه: أن الدين هو مجموع الإسلام والإيمان والإحسان، ولا ينافيه أن الإسلام وحده يسمى دينًا بنص:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} لأنه كما يطلق على ذلك المجموع يطلق على هذا الفرد، إما بالاشتراك، أو الحقيقة والمجاز، أو التواطؤ، أو غير ذلك، ومر أول الكتاب للدين إطلاقات أُخر، فلا يغِبْ عنك استحضارها (6).
قيل: وحكمه إرساله: ليعلمهم أنهم كانوا أكثروا على النبي صلى الله عليه وسلم المسائل، فنهاهم كراهيةً لما قد يقع من سؤال تعنُّتٍ أو تجهيل، فألحوا فزجرهم، فخافوا وأحجموا واستسلموا امتثالًا، فلما صدقوا في ذلك. . أرسل لهم من يكفيهم المهمات، ومن ثَمَّ قال لهم صلى الله عليه وسلم:"هذا جبريل، أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا"(7).
(1) في بعض النسخ: (في خاتمة الأمر).
(2)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(12/ 329 - 330) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
صحيح ابن حبان (173) عن سيدنا عمر رضي الله عنه.
(4)
فهو سبب في التعليم لا أنه معلم. اهـ هامش (ج)
(5)
الذي في "صحيح ابن حبان"(173) عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: "هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه" فليتنبه.
(6)
انظر ما تقدم (ص 77 - 78).
(7)
أخرجه مسلم (10)، وقال المصنف رحمه اللَّه تعالى في "شرحه على مسلم" (1/ 165) في ضبط كلمة (أن تعلموا):(ضبطناه على وجهين: أحدهما: تعلَّموا بفتح التاء وتشديد اللام؛ أي: تتعلموا. والثاني: بإسكان العين، وهما وجهان صحيحان).
(رواه مسلم) فهو من أفراده، ولم يخرج البخاري عن عمر فيه شيئًا، وإنما خرَّج هو ومسلم عن أبي هريرة نحوه (1).
وهو حديثٌ متفقٌ على عظم موقعه، وكثرة أحكامه؛ لاشتماله على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة؛ من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعةٌ إليه، ومتشعبةٌ منه، فهو جامع لطاعات الجوارح والقلب أصولًا وفروعًا، حقيقٌ بأن يسمى (أم السنة) كما سميت (الفاتحة)(أم القرآن) لتضمنها جمل معانيه.
ومن ثَمَّ قيل: لو لم يكن في هذه "الأربعين" بل في السُّنة جميعها غيره. . لكان وافيًا بأحكام الشريعة؛ لاشتماله على جملتها مطابقةً، وعلى تفصيلها تضمنًا، فهو جامعٌ لها علمًا ومعرفةً، وأدبًا ولطفًا، ومرجعُهُ من القرآن والسنة كلُّ آيةٍ أو حديثٍ تضمن ذكر الإسلام، أو الإيمان، أو الإحسان، أو الإخلاص، أو المراقبة، أو نحو ذلك.
* * *
(1) صحيح البخاري (4777)، وصحيح مسلم (9).