الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]
عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ. . لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَومٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنِ البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ" حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ هَكَذَا، وَبَعْضُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"(1).
(عن ابن عباس رضي اللَّه) تعالى (عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: لو) حرف امتناعٍ لامتناعٍ؛ أي: يقتضي امتناع الجواب لامتناع الشرط؛ كما عليه جمهور النحاة (2)، أو لما كان سيقع لوقوع غيره، كما دلَّ عليه كلام إمامهم سيبويه، وعليه فلا إشكال؛ لأن دعوى رجال أموال قومٍ كان سيقع لو وقع إعطاء الناس بدعاويهم، وكذا لا إشكال على الأول أيضًا وإن وقع دعوى بعض الناس مالَ بعض، سواء أُعطوا بدعاويهم أم لا؛ لأن المراد بدعوى الرجال أموالَ قوم: إعطاؤهم إياها ودفعها إليهم (3)؛ أي: لو يُعطى الناس بدعواهم. . لأخذ رجالٌ أموال قومٍ وسفكوا دماءهم، فوضع الدعوى موضعَ الأخذ؛ لأنها سببه (4)، ولا شك أن أخذ مال المدعى عليه ممتنعٌ، لامتناع إعطاء المدعي بمجرد دعواه، وكذلك أخذه كان سيقع لو
(1) سنن البيهقي الكبرى (10/ 252)، وانظر "البخاري"(4552)، و"مسلم"(1711).
(2)
وجه الإشكال: أن (لو) حرف امتناعٍ لامتناعٍ؛ أي: يمتنع جوابها لامتناع شرطها، مع أن الجواب -الذي هو الدعوى- ليس بممتنع هنا، وحينئذٍ حصل إشكال في هذه القاعدة، فأجاب الشارح عنه بأنه لا إشكال؛ لأن المراد بالدعوى الأخذ، ولا شك أن الأخذ ممتنعٌ، فصدقت قاعدة (لو) من أنها حرف امتناع لامتناع، فتأمل. اهـ هامش (خ)
(3)
قوله: (إعطاؤهم إياها ودفعها إليهم) كان الأَولى أن يقول: (أخذهم إياها) بدليل ما بعده. اهـ "مدابغي"
(4)
أي: ويكون من إقامة السبب مقام المسبب. اهـ هامش (ج)
وقع إعطاء المدعي بدعواه، ولا يقع بدون ذلك، فصح معنى (لو) هنا على القولين.
(يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال)(1) هم ذكور بني آدم، أو البالغون منهم، فإن قُوبل بهم النساءُ. . أُريد الأول، أو الصبيانُ. . أُريد الثاني، ولا يختص ذلك بهم على كلٍّ من هذين، وإنما ذكروا؛ لأن ذلك من شأنهم فحسب، ويؤيد ذلك رواية:"لادَّعى ناس"(2).
(أموال قوم) قيل: يخص الرجال، لقوله تعالى:{لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} فذِكْرهُنَّ دليلٌ ظاهرٌ على أن القوم لم يشملهنَّ، وبه صرح زهير في قوله:[من الوافر]
وما أدري ولستُ إخال أدري
…
أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ
وقيل: يعم الفريقين، إذ هما المراد في نحو:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} "ليس بأرض قومي"(3)، ورُدَّ: بأن دخولهنَّ هنا ليس لغة، بل لقرينة نحو التكليف في الآية.
وحكمة التعبير بـ (رجال) ثم (قوم) بناء على أنه يعمهما: أن الغالب في المدَّعي أن يكون رجلًا، والمدَّعى عليه يكون رجلًا وامرأةً، فراعى في التغاير بينهما الغالبَ فيهما، وعلى ترادفهما فالمغايرة للتفنُّن في العبارة.
(ودماءهم) قُدمت الأموال عليها ذكرًا في هذه الرواية مع أنها -أعني الدماء- أهمُّ وأعظم خطرًا، ولذا ورد: أنها أول ما يُقضى بين الناس فيه (4)؛ لأن الخصومات في الأموال أكثر، إذ أخذها أيسر، وامتداد الأيدي إليها أسهل، ومن ثَمَّ ترى العصاة بالتعدي فيها أضعافَ العصاة بالقتل.
(لكن) هي هنا وإن لم تأت لفظًا على قانونها من وقوعها بين نفيٍ وإثباتٍ حتى
(1) قوله: (يعطى الناس) المفعول الثاني محذوف؛ أي: الأموال والدماءَ. اهـ "مدابغي"
(2)
أخرجها مسلم (1711) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أي: الضب، والحديث عند البخاري (5391)، ومسلم (1946) عن سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (6533)، ومسلم (1678) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.
يصح معنى الاستدراك الذي هو مؤدَّاها. . جاريةٌ عليه تقديرًا، إذ المعنى: لا يعطى الناس بدعواهم المجردة، لكن بالبينة، وهي على المدعي.
(البينه على المدعي) وهو مَنْ يذكر أمرًا خفيًا يخالف الظاهر، والمدَّعَى عليه عكسه، فصُدِّق بيمينه؛ لقوة جانبه.
نعم؛ لو أسلم زوجان قبل الدخول فقال: أسلمنا معًا. . فالنكاح باقٍ، وقالت: بل مرتبًا. . كان هو المدعي، لندرة المقارنة (1)، ويُصدَّق بيمينه أيضًا نحو الوديع في دعوى الرد على من ائتمنه، ولا يُكلَّف بينة، لقوة جانبه، وقد يكون كلٌّ من المتنازعين مدعيًا ومدعًى عليه كما في التحالف.
وشرطهما: التكليف، والالتزام (2)، وشرط سماع الدعوى: أن تكون ملزمة، فإذا ادَّعى مِلْك عينٍ بنحو بيعٍ، أو هبةٍ، أو استحقاق دين. . لم تسمع حتى يقول الرشيد: وأنه يلزمه التسليم إليَّ، والسفيه: وأنه يلزمه التسليم إلى وليي، أو أنه ممتنعٌ من الأداء اللازم له.
نعم؛ إن أراد المدعي قطع النزاع فقط. . لم يجب ذكر لزوم التسليم، ويكفيه: هذا لي وهو يمنعنيه عدوانًا وإن لم يقل: وهو في يده، فإن قاله وزاد: يلزمه تسليمه إليَّ. . سأله القاضي عن سببه.
ولو حَلَّ بعض دينٍ مؤجل فادَّعاه وثبت. . ثبت المؤجل تبعًا، ولو قصد بدعواه تصحيح عقدٍ كسَلَمٍ ولو مؤجلًا. . سُمعت.
وشرط سماعها أيضًا: أن يكون المدعى به معلومًا بنحو ذكر جنسه ونوعه وقدره، وكذا صفته إن اختلف بها غرضٌ صحيحٌ، ولذلك كله تفصيلٌ محله كتب الفروع.
(1) والمعتمد عند الرملي: أنها في هذه الصورة مدعية وهو مدعًى عليه، فيصدق بيمينه ويدوم النكاح؛ لأن القاعدة: أن المدعي من لو سكت. . لخُلِّي، والمدعى عليه من لو سكت. . لم يخلَّ وهو مدعًى عليه؛ لأنه لو سكت. . لم يخل، بل يُؤخذ منه نصف المهر. اهـ هامش (ج)
(2)
وقد جمع بعضهم شروط الدعوى بقوله: (من البسيط)
لكلِّ دعوى شروطٌ ستةٌ جمعت
…
تفصيلها مَعَ إلزامٍ وتعيينِ
ألَّا يناقضها دعوى تُغايرها
…
تكليف كلٍّ، ونفي الحرب للدِّينِ
(واليمين على من) عبَّر بها هنا دون الأول مع أنه كان يمكن أن يؤتى باسم الفاعل فيهما أو بـ (من) فيهما، لما تقرر أن المدعي: هو من يذكر أمرًا خفيًا، والمدعى عليه: هو من يذكر أمرًا ظاهرًا، ولا شك أن الموصول لاشتراط كون صلته معهودة أظهر من المعرف، فأعطي الخفي للخفي، والظاهر للظاهر، وهذا عند التأمل أَوجَهُ مما ذكره بعض الشُّرَّاح، فاعلمه.
وزَعْمُ أن ذلك سؤالٌ دوري غيرُ صحيح.
(أنكر) لأن الأصل براءة ذمته عما طُلب منه وهو متمسكٌ به، لكن لما أمكن أن يكون قد شغلها بما طلب منه. . دفع ذلك الاحتمال عن نفسه باليمين.
ثم الحالف: هو كل من توجهت عليه دعوى لو أقر بمضمونها. . لزمته اليمين ما لم تجر إلى فساد (1)، وحينئذٍ فيدَّعي على وصيٍّ وقيمٍ لإقامة بينة (2)، لا لتحليفهما إذا أنكرا ما على الميت، لعدم صحة إقرارهما عليه.
ولا تحليف في دعوى عقوبة للَّه تعالى، ولا في محض حقه تعالى، كلزمتك كفارة قتل، ولا يُحلَّف قاضٍ وإن عزل (3)، ولا شاهدٌ فيما حَكَم أو شهد به (4)؛ لأن ذلك يجر إلى فساد، ولا مَنِ ادعى بلوغًا ممكنًا بإمناءٍ أو حيضٍ، ولا منكر بلوغ ممكن إلا مسبيًا نبت شعر عانته وادعى أنه بالمعالجة فيحلف حتمًا، لوجود دليل بلوغه، فإن نكل. . فكأسيرٍ كامل، فيتخير الإمام فيه بين القتل وغيره.
ولا يحلف مَنْ أقام بينةً على حاضرٍ إلا إن قال له: اعتمدْتُ ببينتِك الظاهرَ، وأنت
(1) قوله: (لو أقر بمضمونها. . لزمته اليمين) هكذا في كثير من النسخ، وفيه حذف، والتقدير: لو أقر بمضمونها. . لزمه؛ أي: ذلك المضمون الذي أقر به، فلو أنكر. . لزمته اليمين. . . إلخ، ويوجد هكذا في بعض النسخ. اهـ "مدابغي"
(2)
وذلك كأن يقول: أدعي على هذا الوصي أن لي على مَن أقامه -أعني وهو الميت- كذا، فيقال للمدعي حينئذ: أقم البينة على ما تدعيه، ولا يصح أن يحلف الوصي عن الميت أنه ليس للمدعي عليه ما يدعيه، لعدم صحة إقرار الوصي على الميت، ومثل ذلك يقال في القيم، فتأمل. اهـ هامش (ج)
(3)
في بعض النسخ: (كلزمتك كفارة، قيل: ولا يحلف قاضٍ. . .). وفي هامش (ك): (وكذا الإمام ذكره في "بيان ابن مظفر" رحمه الله.
(4)
قوله: (فيما حكم) راجعٌ للقاضي، وقوله:(أو شهد) راجع للشاهد، وقوله:(به) متعلق بكلٍّ من الفعلين. اهـ "مدابغي"
تعلم أن ما ادعيتَهُ ملكي، فيُحلِّفه أنه لا يعلمه، أو ادعى علمه بجرح بينته، فيحلفه أنه لا يعلمه حال الأداء ولا قبله بدون سنة، ولو قال المدعي: لي بينة لكن لا أقيمها وأريد تحليفه. . أجيب إليه.
ويشترط أن يكون اليمين بطلب الخصم، فإن لم يطلب ولم يترك الخصومة. . لم يُحلِّفْه القاضي، فإن عاد وطلبها، فإن كان أُبرئ منها. . احتاج إلى استئناف دعوى، وإلَّا. . فلا ولو بعد امتناعه من تحليف المنكر.
وأن يكون بتحليف القاضي، فإن حلَّفه خصمه أو نحو أميرٍ. . لغا.
وأن تتوالى كلماتها عرفًا، وأن تطابق الإنكار، فإن ادعى عليه نحو إتلافٍ أو إقراضٍ فأجاب بنفيه أو بـ (لا يلزمني شيء). . حلف كجوابه، وكذا لو أجاب بنفي نحو غصب أو شراءٍ ادُّعِيَ عليه، ولا يحلف هنا على نفي اللزوم أو الاستحقاق.
وعلم مما مر: أن قوله: "اليمين على من أنكر" عامٌّ مخصوصٌ، لاستثناء صورٍ منه ثبتت بالنص يكون فيها الحلف على المدعي (1)؛ كما في القسامة، واليمين مع الشاهد، ويمين أمين ادعى نحو تلفٍ أو ردٍّ على مَن ائتمنه.
ويجب الحلف على البتِّ في يمين الرد، وفيما إذا حلف لنفي فعله أو إثباته، أو لإثبات فعل غيره، وفعل قِنِّه وبهيمته حيث ضمن متلفها كفعل نفسه على المعتمد.
وإن حلف لنفي فعل غيره. . فعلى نفي علمه، فإن حلَّفه القاضي بتًّا. . أساء وأجزأه؛ لأنه آكد، ويجوز بَتُّ اليمين بظنٍّ مؤكَّدٍ كخطه وخط مورثه الثقة، وإخبار عدلين.
ومن حلَّفه القاضي أو نائبه باللَّه تعالى. . اعتبرت نية القاضي واعتقاده، فلا تنفعه التورية ولا التأويل، ولا تدفع عنه إثم اليمين الغموس، وكذا لو وصلها باستثناءٍ أو شرط.
ولا يجوز لشافعيٍّ ادُّعِيَ عليه عند حنفيٍّ بشفعة الجوار أن يحلف على نفيها اعتبارًا باعتقاده؛ لما تقرر أن العبرة باعتقاد القاضي، ومن ثَمَّ نفذ حكمه بها عليه ظاهرًا وباطنًا.
(1) في بعض النسخ: (يحلف فيها المدعي).
ومن حلَّفه القاضي بغير اللَّه تعالى، أو حلف بنفسه، أو حلَّفه خصمه، أو نحو أميرٍ. . اعتبرت نية الحالف، فتنفعه التورية والاستثناء إن نواه قبل تمام يمينه.
وليس لقاضٍ تحليفٌ بطلاقٍ أو عتقٍ، فإن فعل. . عزله الإمام.
وإذا حلف المنكر أو نكل المدعي عن اليمين المردودة. . انقطع النزاع، فللمدعي بعد ذلك إقامة البينة (1)، ويحكم له بها وإن كان قد قال: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، أو كلُّ بينةٍ لي كاذبةٌ.
وبقي للكلام على صفة اليمين والنكول وما يتعلَّق بهما تفصيلٌ طويلٌ محله كتب الفروع.
واستفيد من الحديث: أنه لا يُقبَل قول الإنسان فيما يدعيه بمحض دعواه وإن غلب على الظن صدقه، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعى عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه. . فله ذلك، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه بأنه لو أُعطي بمجردها. . لادَّعى قومٌ دماءَ قوم وأموالهم واستبيحت؛ إذ لا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي. . فيمكنه صيانتهما بالبينة.
فعلم أن حكمة كون البينة على المدعي واليمين على من أنكر: هي ضعف جانب المدعي؛ لدعواه خلافَ الأصل، وجانب المنكر قوي؛ لموافقته أصل براءة الذمة، والبينة حجةٌ قويةٌ، لبعدها عن التهمة، واليمين حجةٌ ضعيفةٌ، لقربها منها (2)، فجعلت الحجة القوية في الجانب الضعيف، والحجة الضعيفة في الجانب القوي، ليتعادلا.
واستفيد منه أيضًا: الدلالة الظاهرة لمذهبنا ومذهب الجمهور من سلف الأمة وخلفها: أن اليمين تتوجه على كل من ادُّعِيَ عليه حقٌّ سواءٌ أكان بينه وبين المدَّعِي اختلاطٌ أم لا (3).
(1) في النسخ كلها إلا (غ): (وإلا فللمدعي. . . إلخ) والمثبت منها، وهو الصواب الذي رجحه ونبَّه عليه العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى.
(2)
قوله: (لقربها) أي: اليمين (منها) أي: من التهمة. اهـ "مدابغي"
(3)
قوله: (سواء أكان بينه) أي: المدعى عليه المذكور في قوله: (على كل من ادعي عليه حق) وقوله: (بين =
وقالت طائفةٌ منهم مالك كفقهاء المدينة السبعة رضي اللَّه تعالى عنهم (1): لا تتوجه إلا إن وجد بينهما اختلاطٌ؛ لئلا تَبْتَذِلَ السفهاءُ الأكابرَ بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد.
ورُدَّ: بأنه لا أصل لاشتراطها في كتابٍ ولا سنةٍ ولا إجماعٍ، وفيه تحاملٌ؛ لأن رعاية المصالح ودرء المفاسد لهما أصلٌ أصيلٌ في ذلك، وإنما وجه الرد: أن ما فيه من المفسدة لا يقابل ما فيه من مصلحة الاحتياط لحق المدعي الممكن الثبوت، فقدمت هذه المصلحة على تلك المفسدة.
وأنه لا عبرة بقول المريض في الدماء خلافًا لمالك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد سوَّى بين الدماء والأموال في أن المدعي لا يُسمَع قوله فيها، وإذا لم يُسمَع قول المدعي في مرضه: لي عند فلان درهم. . كان أحرى وأولى ألَّا يسمع قوله: دمي عند فلان، لحرمة الدماء.
وأُجيب بأن مالكًا لم يجعل قوله ذلك دليلًا لقَوَدٍ ولا ديةٍ، بل قرينة لَوْث مرجحة لجانب المدعي حتى تكون اليمين في جهته؛ لأن المريض قادمٌ على اللَّه تعالى فيبعد في حقه كلَّ البعد الكذبُ وإن كان من أشر الفُسَّاق.
ويردُّ بأنه متهمٌ، سيما إن كان له عدو، وتلك القرينة لم يعوِّلوا عليها في إقرار المريض لوارثه؛ فإنه باطلٌ عندهم مع وجود ذلك المعنى فيه، فإذا أبطلوه ثَمَّ مع كون الشبهة أضعف فيه. . فليكن باطلًا هنا بالأَولى.
قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد: (في مذهب مالك وأصحابه تصرفاتٌ بالتخصيصات لهذا العموم المذكور في الحديث، منها: اشتراط الخلطة، وأن من
= المدعِي) بكسر العين (اختلاط. . . إلخ) هكذا في صحاح النسخ. وفي بعض النسخ: (سواء كان بينه وبين المدعى عليه) وهي غير صحيحة، فتأمل. اهـ "مدابغي"
(1)
وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي اللَّه تعالى عنهم أجمعين، وقد جمعهم الشاعر بقوله:(من الطويل)
ألا إن من لا يقتدي بأئمةٍ
…
فقسمته ضيزى عن الحقِّ خارجةْ
فخذهم عبيد اللَّه عروة قاسم
…
سعيد أبو بكر سليمان خارجةْ
ادعى شيئًا من أسباب القصاص. . لم يجب به يمين إلا أن يقيم عليه شاهدًا (1)، وأن من ادعى على امرأةٍ نكاحًا. . لم يلزمها يمينٌ له.
وقال سحنون منهم: إلا أن يكونا طارئين، وأن بعض الأُمَناء ممن القول قوله لا يمين عليه، وأن من ادعت على زوجها طلاقًا لا يلزمه لها يمينٌ، وكل من خالفهم في شيءٍ من هذا يستدل بعموم هذا الحديث) اهـ (2)
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، لكن قال غيره: اختلف الفقهاء؛ هل يستحلف في جميع حقوق الآدميين كقول الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه، أو لا يستحلف إلا فيما يقضى فيه بالنكول كرواية عن أحمد، أو لا يستحلف إلا فيما يصح بذله كما هو المشهور عن أحمد، أو لا يستحلف إلا في كل دعوى لا يُحتاج فيها إلى شاهدين كما حكي عن مالك؟.
وأما حقوق اللَّه تعالى. . فقال جمعٌ: لا يستحلف فيها بحالٍ، وقال آخرون منهم الشافعي: إذا اتهم. . استحلف.
وأجمعوا على استحلاف المدعى عليه في الأموال، واختلفوا في غيرها، فذهب الإمام الشافعي كما علم مما مر وأحمد وغيرهما إلى وجوبها على كل مدعًى عليه في حدٍّ أو طلاقٍ أو نكاحٍ أو عتقٍ، أخذًا بظاهر عموم الحديث، فإن نكل. . حلف المدعي وتثبت دعواه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يحلف على النكاح والطلاق والعتق فإن نكل. . لزمه ذلك كله، وقال آخرون: لا يستحلف في الحدود والسرقة.
وذهب أبو حنيفة وطوائف من الفقهاء والمحدثين إلى أن اليمين على المدعى عليه أبدًا حتى في القسامة، ورأوا أن لا حكم بشاهدٍ ويمينٍ، وأن اليمين لا ترد على المدعي.
(1) أي: على المدعى عليه، والحاصل: أنا نوافقهم فيما إذا أقام المدعي شاهدًا واحدًا، فيحلف حينئذٍ المدعى عليه، ونخالفهم فيما إذا لم يكن له شاهد. . فعندنا يحلف المدعى عليه أيضًا، وعندهم لا يحلف، وأما إذا أقام شاهدين. . ثبت الحق ولا حلف أيضًا. اهـ هامش (ج)
(2)
انظر "إحكام الأحكام"(ص 921 - 922).