الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرو الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامَ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذاَ لَمْ تَسْتَحْي. . فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1).
(عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري) الخزرجي البجاري (2) (البدري رضي الله عنه نسبةً إلى بدرٍ سكنًا لا شهودًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الأصح الذي قال به الجمهور، لكن الذي ذهب إليه البخاري ومسلم وغيرهما أنه شهدها.
نعم؛ شهد العقبة الثالثة مع السبعين، وكان أصغرَهم، وأُحُدًا وما بعدها من المشاهد، ونزل الكوفة وابتنى بها دارًا، وتوفي بالمدينة، وقيل: بالكوفة سنة إحدى أو اثنتين وأربعين، وقيل: في خلافة علي، وقيل: آخرَ خلافة معاوية.
روي له مئة حديثٍ وحديثان، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بسبعة.
(قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) أي: مما اتفقت عليه الشرائع؛ لأنه جاء في أولاها، ثم تتابعت بقيتها عليه، فالحياء لم يزل في شرائع الأنبياء الأولين ممدوحًا ومأمورًا به لم ينسخ في شرع، وفي حديث:"لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا"(3).
(1) صحيح البخاري (6120).
(2)
نسبة إلى بني الأبجر بموحدة وجيم. اهـ هامش (ج)
(3)
ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(1/ 497) وعزاه لحميد بن زنجويه.
(إذا لم تستحي)(1) من (حيي أو استحيى) فهو مستحْيٍ ومستحٍ (فاصنع ما شئت) أي: فإنك ستُجازى عليه، فهو أمر تهديدٍ ووعيدٍ لمن ترك الحياء، كقوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، أو المراد به: الخبر، كقوله صلى الله عليه وسلم:"فليتبوأ مقعده من النار"(2).
ومعناه: أن عدم الحياء يوجب الاستهتار والانهماك في هتك الأستار، أو المراد: ما لا يستحى من اللَّه ولا من الناس في فعله إذا ظهر. . فافعله، وإلَّا. . فلا، فهو أمر إباحة، والأول أَولى وأظهر، ولم يذكر أحدٌ في هذه الآية غيره فيما نعلم.
فعلم أن الحياء من أشرف الخصال، وأكمل الأحوال، ومن ثَمَّ قال صلى الله عليه وسلم:"الحياء خيرٌ كله، الحياء لا يأتي إلا بخير"(3)، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم (كان أشد حياءً من البكر في خدرها)(4)، وصح:"إن الحياء شعبةٌ من الإيمان"(5).
وفي حديثٍ ضعيفٍ: "إذا أراد اللَّه بعبدٍ هلاكًا. . نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء. . لم تلقه إلا مقيتًا مُمقَّتًا -وفي رواية: إلا بغيضًا مبغضًا- فإذا كان مقيتًا ممقَّتًا. . نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائنًا مخونًا، فإذا كان خائنًا مخونًا. . نزع منه الرحمة فلم تلقه إلا فظًا غليظًا، فإذا كان فظًا غليظًا. . نزع منه ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع منه ربقة الإيمان من عنقه. . لم تلقه إلا شيطانًا لعينًا ملعنًا"(6).
لكن ينبغي أن يراعَى فيه القانون الشرعي؛ فإن منه ما يذم شرعًا؛ كالحياء المانع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وجود شروطه؛ فإن هذا جبنٌ لا حياء،
(1) قوله: (لم تسحي) بحذف الياء وإثباتها، ويكون الجازم حذف الياء الثانية؛ لأنه من (استحيى) والأول من (استحى) ولعله نظر إلى أصل المادة، ثم إن الرواية:"لم تستحي" بإسكان الحاء وكسر الياء خلافًا لما يوهمه ظاهر كلام الشارح ملا علي قاري. اهـ "مدابغي"
(2)
أخرجه البخاري (108)، ومسلم (2) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (6117)، ومسلم (37) عن سيدنا عمران بن الحصين رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه البخاري (3562)، ومسلم (2320) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
أخرجه ابن ماجه (4045) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما، والبيهقي في "الشعب" (7328) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما بالفاظ مقاربة. والرِّبقة: العروة، والمراد: العهد والميثاق.
ومثله الحياء في العلم المانع من سؤاله عن مهمات المسائل في الدين إذا أشكلت عليه، ومن ثَمَّ قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها:(نِعْمَ النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهنَّ الحياء أن يسألن عن أمر دينهن)(1).
وفي حديث: "إن ديننا هذا لا يصلح لمستحي -أي: حياء مذمومًا- ولا لمتكبر"(2).
ثم الحياء بالمد: انقباضٌ وخشيةٌ يجدها الإنسان من نفسه عندما يُطَّلَع منه على قبيح، وحُدَّ أيضًا بأنه: خُلُقٌ يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، وحدَّه إمام العارفين وسيد الطائفة أبو القاسم الجنيد قدس اللَّه روحه بأنه:(رؤية الآلاء -أي: النِّعم- ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى حياء)(3).
وأصله غريزيٌّ، وتمامه مكتسبٌ -كما أفاده بعض الأحاديث السابقة- من معرفة اللَّه سبحانه وتعالى، ومعرفة عظمته، وقربه من عباده، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا هو الذي كُلِّفنا به، وهو من أعلى خصال الإيمان، بل من أعلى درجات الإحسان، وقد يتولَّد الحياء من اللَّه سبحانه وتعالى من مطالعة نعمه، ورؤية التقصير في شكرها، كما أشار إليه الجنيد بما قدمناه عنه آنفًا؛ بخلاف الأول (4)؛ لأنه ليس في الوسع، لكنه لكونه من أجلِّ الأخلاق التي يحبها اللَّه سبحانه وتعالى من العبد ويجبله عليها. . يحمل على المكتسب ويعين عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"الحياء لا يأتي إلا بخير" أي: لأن من استحيى من الناس أن يروه يأتي بقبيحٍ. . دعاه ذلك إلى أن يكون أشد حياءً من ربه وخالقه عز وجل، فلا يضيع فريضة، ولا يرتكب معصية.
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن رآه يعاتب أخاه في الحياء: "دعه؛ فإن الحياء من الإيمان"(5) أي: من أسباب أصل الإيمان وأخلاق أهله؛ لمنعه من
(1) أخرجه مسلم (332/ 61)، وأبو داوود (314)، وابن ماجه (642) بنحوه.
(2)
ذكره العلامة المناوي رحمه اللَّه تعالى في "فيض القدير"(2/ 204).
(3)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(7348)، وذكره الإمام القشيري رحمه اللَّه تعالى في "الرسالة"(ص 170).
(4)
في هامش (ج): (أي: الغريزي).
(5)
أخرجه البخاري (24)، ومسلم (36) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.
الفواحش وحمله على البِرِّ والخير كما يمنع الإيمان صاحبه من ذلك (1).
فعلم أن أول الحياء وأولاه الحياء من اللَّه سبحانه وتعالى، وهو ألَّا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، وأن كماله إنما ينشأ عن معرفته سبحانه وتعالى ومراقبته المعبر عنها بـ:"أن تعبد اللَّه كأنك تراه".
ومن ثَمَّ روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من اللَّه حق الحياء" قالوا: إنا نستحيي والحمد للَّه، فقال:"ليس ذاك، ولكن الاستحياء من اللَّه حقَّ الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى (2)، وأن تذكر الموت والبِلى، فمن فعل ذلك. . فقد استحيى من اللَّه حق الحياء"(3).
وأهل المعرفة في ذلك يتفاوتون بحسب تفاوت أحوالهم، وقد جمع اللَّه سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كمال نَوْعيه، فكان في الحياء الغريزي أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها، وفي الكسبي واصلًا إلى أعلى غايته وذروتها.
(رواه البخاري)(4) وبما تقرر في شرحه يُعلم أن عليه مدار الإسلام، وبيانه: أن فعل الإنسان إما أن يُستحيى منه، أو لا، فالأول: الحرام، والمكروه، والثاني: الواجب، والمندوب، والمباح، فقد تضمن الأحكام الخمسة ولم يشذَّ عنه منها شيءٌ.
* * *
(1) في بعض النسخ: (يمنعه من الفواحش ويحمله على. . .).
(2)
في النسخ جميعها إلا (د): (الرأس وما حوى، والبطن وما وعى)، والمثبت من (د) ومن "سنن الترمذي".
(3)
سنن الترمذي (2458) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، وانظر ما تقدم (ص 300).
(4)
قوله: (رواه البخاري) في (بني إسرائيل)، وقضية صنيع المؤلف: أنه رواه هكذا من غير زيادة ولا نقص، وأقره عليه جميع الشراح، وانه لشيء عجاب! فإن رواية البخاري ليس فيها ذكر لفظ (الأولى)، لكنها ثابتةٌ في رواية أحمد وأبي داوود وابن ماجه عن الصحابي المذكور، ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث حذيفة، والعجب من المؤلف مع جلالته وتبحره في علم السنة كيف وقع في ذلك؟! "مناوي على المتن" اهـ "مدابغي"