المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف الله تعالى بعباده وفضله عليهم] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف الله تعالى بعباده وفضله عليهم]

‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا. . كَتبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا. . كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافِ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا. . كَتبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا. . كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً"(1) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" بِهَذِهِ الْحُرُوفِ (2)، فَانْظُرْ يَا أَخِي وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إِلَى عَظِيمِ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الأَلْفَاظَ، وَقَوْلُهُ:"عِنْدهُ" إِشَارَةٌ إِلَى الاعْتِنَاءِ بِهَا، وَقَوْلُهُ:"كَامِلَةً" لِلتَّأْكِيدِ وَشِدَّةِ الاعْتِنَاءِ بِهَا، وَقَالَ فِي السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا ثُمَّ تَرَكَهَا:"كَتَبَهَا اللَّهُ حَسَنَةً كَامِلَةً"(3) فَأَكَّدَهَا بِـ (كَامِلَةً) وَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، فَأَكَّدَ تَقْلِيلَهَا بِـ (وَاحِدَةً) وَلَمْ يُؤَكِّدْهَا بِـ (كَامِلَةً) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، سُبْحَانَهُ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(عن ابن عباس رضي اللَّه) تعالى (عنهما، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه)(4) ظاهره أنه من الأحاديث القدسية، وأن اللَّه سبحانه وتعالى تكلَّم

(1) ما أُثبت هنا هو الموجود في نسخ متن "الأربعين" وفي "البخاري"، و"مسلم"، والذي عند الشارح كما سننبه عليه في مكانه (ص 588):(كُتِبتْ سيئة واحدة).

(2)

صحيح البخاري (6491)، وصحيح مسلم (131).

(3)

في هامش نسخة من نسخ المتن: (كتبها اللَّه عنده) وأشار لها بنسخة.

(4)

في نسخ المتن: (فيما يروي عن ربه).

ص: 582

بجميع ما فيه، قيل: وليس المراد ذلك، إنما المراد: فيما يحكيه عن فضل ربه، أو حكمه، أو نحو ذلك. اهـ

والجزمُ بذلك النفي فيه نظر؛ لأن كلا الأمرين محتملٌ، بل الأول أقرب إلى السياق وإلى الاصطلاح الذي قدمناه من قول المصنف في الحديث السابق:(فيما يرويه عن ربه)(1) ثم رأيت في بعض طرق هذا الحديث في "الصحيحين" ما هو صريحٌ في الأول، وهو:"يقول اللَّه عز وجل: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً. . فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها. . فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي. . فاكتبوها له حسنةً، وإن أراد أن يعمل حسنةً فلم يعملها. . فاكتبوها له حسنةً، وإن عملها. . فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإذا تحدَّث بأن يعمل سيئةً. . فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها. . فأنا أكتبها له بمثلها"(2).

(تبارك) أي: تعاظم (وتعالى) أي: تنزَّه عن كل ما لا يليق بعلياء كماله الأقدس (3).

(قال: إن اللَّه تعالى كتب الحسنات والسيئات)(4) أي: أمر الحفظة بكتابتهما، أو كتبهما في علمه على وفق الواقع منهما، أو قدر مبالغ تضعيفهما.

(ثم بيَّن) أي: اللَّه تعالى، وجَعْلُ الضمير له صلى الله عليه وسلم مبنيٌّ على ما مر أن المراد بـ (عن ربه): عن حكمه أو فضله، ومرَّ بما فيه.

(ذلك) للكتبة من الملائكة حتى عرفوه واستغنوا به عن أن يستفسروا في كل وقتٍ كيف يكتبونه؛ لأنه تعالى شرع لهم ما يعملون بحسبه، وبالغ في رحمة هذه الأمة حيث أخلف عليها قصر أعمارها بتضعيف أعمالها.

(1) انظر ما تقدم (ص 432) في شرح الحديث الرابع والعشرين.

(2)

انظر "صحيح البخاري"(7501)، و"صحيح مسلم"(129) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

قوله: (تبارك) تفاعل فعل ماض مطاوع (بارك) فلا يتصرف، فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا اسم مصدر، ومعناه: تعاظم وتقدس، وهو جامع لأنواع الخير ومخصوص بالباري كـ (سبحان) فيحرم استعماله في غيره، ولا يكفر به. وفي بعض النسخ: عز وجل بدل تبارك وتعالى اهـ "مدابغي"

(4)

قال في "الفتح"(11/ 324): (يحتمل أن يكون هذا من كلام اللَّه، فيكون التقدير: قال اللَّه تعالى: "إن اللَّه كتب. . . " ويحتمل أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يحكيه عن اللَّه).

ص: 583

(فمن هم بحسنة) أي: أرادها وترجَّح عنده فعلها، فعُلم منه بالأولى حكم العزم، وهو الجزم بفعلها والتصميم عليه (فلم يعملها. . كتبها اللَّه عنده) هذه عِنْدِيَّة شرفٍ ومكانةٍ؛ لتنزهه تعالى عن عندية المكان (حسنةً) لأن الهمَّ بالحسنة سببٌ إلى عملها، وسبب الخير خيرٌ، فالهمُّ بها خيرٌ، وفي رواية لمسلم:"إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنة. . فأنا أكتبها له حسنة"(1)، وظاهرٌ أن المراد بالتحدث: الهمُّ، ويؤيده الخبر الآخر:"من هم بحسنةٍ فلم يعملها، فعلم اللَّه تعالى أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها. . كتبت له حسنة"(2)، فالحرص عليها مستلزمٌ للعزم الذي هو ترجيح الوقوع كما مر، ومخرج للخطرة التي تخطر ثم تنفسخ من غير عزمٍ ولا تصميم.

واستفيد من ذكر الحسنة هنا والمضاعفة فيما يأتي: اختصاص المضاعفة بمن عمل دون مَنْ نوى، فهما في الأصل سواءٌ وإن اختص العامل بالتضعيف (3)، وعلى هذا يحمل حديث أحمد والترمذي وابن ماجه:"إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه اللَّه تعالى مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم للَّه فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه اللَّه علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية، فيقول: لو أن لي مالًا. . لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه اللَّه تعالى مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علمٍ، لا يتقي فيه ربه تعالى، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم للَّه حقًا فيه، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه اللَّه مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا. . لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء"(4).

(كاملة) ذكره؛ لئلا يظن أن كونها مجردَ همٍّ ينقص ثوابها (وإن هم بها فعملها. . كتبها اللَّه عنده عشر حسنات) لأنه أخرجها من الهم إلى ديوان العمل، فكُتِب له بالهَمِّ

(1) صحيح مسلم (129).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 345) عن سيدنا خريم بن فاتك رضي الله عنه.

(3)

قوله: (وإن اختص العامل بالتضيف) ولو مرَّ عليه أزمنة متعددة وهو يحدث نفسه بعمل تلك الحسنة. . فإن اللَّه تعالى يكتب له حسنات بعدد تلك الأزمنة. اهـ "شبرخيتي"(ص 274)

(4)

مسند الإمام أحمد (4/ 231)، وسنن الترمذي (2325)، وسنن ابن ماجه (4228) عن سيدنا أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه.

ص: 584

حسنة، ثم ضُوعفت فصارت عشرًا، وهذا التضعيف ملازمٌ لكل حسنةٍ؛ كما دلَّ عليه قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ثم ضُوعفت لمن يشاء اللَّه تعالى، واللَّه يضاعف لمن يشاء مضاعفةً أخرى (إلى سبع مئة ضعف) على حسب ما قد اقترن بها من إخلاص النية وإيقاعها في محالِّها التي هي بها أَولى وأَحرى.

قال بعضهم: وحكمة ذلك (1): أن العرب كانوا ينتهون في التكثير من عدد الآحاد إلى سبعة، حتى إذا أتوا بالثمانية. . عطفوها بـ (الواو) (2) إشارة إلى الخروج من عدد القلة إلى عدد الكثرة؛ كما في قوله تعالى:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآيةَ عطف فيها: {وَالنَّاهُونَ} بـ (الواو) لمجاوزته السبعة، وكذا في:{وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وفي: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} لأنها ثمانية.

فإذا ضربت السبعة في عشرة، ثم الحاصل -وهو سبعون- في عشرة كانت سبع مئة، وفي رواية في "الصحيحين" أيضًا بعد:"إلى سبع مئة ضعفٍ": "إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به"(3) وفيه دليلٌ على أن الصوم لا يَعلم قدرَ مضاعفة ثوابه إلا اللَّه تعالى؛ لأنه أفضل أنواع الصبر، وإنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب.

(إلى أضعافٍ كثيرة) قيل: يعلم منه أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} أي: بعد سبع مئة ضعف. اهـ

وفيه نظر؛ لأنه يلزم عليه أن التضعيف للسبع مئة واقعٌ لكل أحدٍ، فينافي:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} إلا أن يقال: إن التضعيف للسبع مئة تفضُّل ثانٍ بعد التفضل الأول بالتضعيف إلى عشرة، نظير ما قيل في خبر:"صلاة الجماعة تعدل صلاة الفذِّ بخمسٍ وعشرين" وفي روايةٍ: "بسبعٍ وعشرين"(4).

ثم رأيت المصنف جزم بما ذكرته أولًا: (أن التضعيف لعشرةٍ لا بد منه بفضل اللَّه

(1) قوله: (وحكمة ذلك) أي: تخصيص هذا العدد؛ أعني سبع مئة. وفي نسخ عديدة: (وحكمة ذكره).

(2)

وقد سماها بعضهم واو الثمانية.

(3)

صحيح البخاري (1904)، وصحيح مسلم (1151/ 164) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم، وقد تقدم نحوه (ص 407).

(4)

تقدم تخريج الحديث (ص 411).

ص: 585

تعالى ورحمته ووعده الذي لا يخلفه، والتضعيف لسبع مئة فأكثر إنما يحصل لبعض الناس على حسب مشيئته سبحانه وتعالى (1).

قال بعضهم: و (كثيرة) هذه وإن كانت نكرةً إلا أنها أشمل من المعرفة، فيقتضي هذا أن يحسب توجيه الكثرة على أكثر ما يمكن.

وبيانه: أن من تصدَّق بحبة برٍّ مثلًا فحسب له في فضل اللَّه تعالى أنه لو بذرها في أزكى أرضٍ مع غاية الرِّي والتعهُّد، ثم حصدت وبذر حاصلها في أزكى أرض كذلك. . . وهكذا إلى يوم القيامة. . جاءت تلك الحبة كأمثال الجبال الرواسي، وكذا يقال في مثقال ذرة من نقد، فيقدر أنه اشترى بها أربح شيءٍ وبيع في أنفق سوقٍ، وهكذا إلى يوم القيامة. . جاءت تلك الذرة بقدر الدنيا، وهكذا جميع أعمال البِرِّ (2).

ومن الفضل: المضاعفةُ بالتحويل؛ كمن تصدَّق على فقيرٍ بدرهم، فتصدَّق به الفقير على ثانٍ، وهو على ثالث، وهو على رابع. . . وهكذا، فيحسب للأول عن درهمه عشرة، وله مثل أجر الثاني؛ لأن من سنَّ سنةً حسنة. . فله أجرها وأجر من يعمل بها، وأجر الثاني عشرة، فكان للأول مثلها وهي عشرة دراهم، وكل درهمٍ بعشرة؛ فيكون له مئة، فإذا تصدَّق به الثاني. . صار له مئة (3)؛ لِمَا تقرَّر في الأول، وصارت مئة الأول ألفًا بنظير ما تقرر أيضًا (4)، فإذا تصدَّق به الثالث. . صار له مئة، وللثاني ألفٌ، وللأول عشرة آلاف، فإذا تصدَّق به الرابع. . صار له مئة، وللثالث ألفٌ، وللثاني عشرة آلاف، وللأول مئة ألفٍ. . . وهكذا إلى ما لا يعلم قدره إلا اللَّه تعالى.

ومن الفضل أيضًا: أنه تعالى إذا حاسب مَنْ له حسنات متفاوتة المقادير. . جازاه

(1) انظر "شرح صحيح مسلم"(17/ 12).

(2)

في (ط) و (غ): (أنواع البر).

(3)

أي: بعد تصدق الثالث به كما يدل عليه قوله: (لما تقرر في الأول) وإلا. . فهو مشكلٌ، ومثله ما بعده في الثالث والرابع. اهـ "مدابغي"

(4)

أي: المئة التي صارت إليه الآن عند تصدق الثالث، لا المئة السابقة، وهكذا، واللَّه تعالى أعلم. اهـ هامش (غ)

ص: 586

بسعرِ أرفعِها؛ كـ (لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. . . إلخ) إذا قيلت في سوقٍ مع رفع الصوت. . فإن فيها ألف ألف حسنة، ومحْوَ ألف ألف سيئة مع بناء بيت في الجنة لقائلها كما ورد، فإذا كانت في حسنات عبدٍ. . جُوزي على سائر حسناته بسعرها؛ كما قال تعالى:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا بحسب مقدار معرفتنا، وإلَّا. . ففضله تعالى لا يمكن أحدًا أن يحصره. اهـ

وأخرج ابن حبان في "صحيحه": لمَّا نزل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} الآيةَ. . قال صلى الله عليه وسلم: "رَبِّ؛ زد أمتي" فنزل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} فقال: "رَبِّ؛ زد أمتي" فنزل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1).

وأحمد: "إن اللَّه ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" ثم تلا أبو هريرة راويه: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} وقال: إذا قال: {أَجْرًا عَظِيمًا} . . فمن يقدر قدره؟! (2)

وابن أبي حاتم: "من أرسل نفقةً في سبيل اللَّه وأقام في بيته. . فله بكل درهمٍ سبع مئة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل اللَّه. . فله بكل درهمٍ سبعة آلاف درهم"(3).

وأبو داوود: "إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل اللَّه بسبع مئة ضعف"(4).

والترمذي: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير. . كتب اللَّه له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة" وفي سنده ضعف (5).

(1) صحيح ابن حبان (4648) عن سيدنا ابن عمر رضي عنهما.

(2)

مسند الإمام أحمد (2/ 521).

(3)

تفسير ابن أبي حاتم (2730) عن سيدنا عمران بن الحصين رضي الله عنهما.

(4)

سنن أبي داوود (2498) عن سيدنا معاذ رضي الله عنه.

(5)

سنن الترمذي (3428) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 587

وفي حديثٍ ضعيفٍ أيضًا: "من قال: سبحان اللَّه وبحمده. . كُتب له مئة ألف حسنة، وأربعة وعشرون ألف حسنة"(1).

(وإن هم بسيئةٍ فلم يعملها) بأن ترك فعلها أو التلفظ بها لوجهه تعالى كما في الرواية التي قدمتها، لا لنحو حياءٍ أو خوفِ ذي شوكة أو عجزٍ أو رياءٍ (2)، بل قيل: يأثم حينئذ؛ لأن تقديم خوف المخلوق على خوف اللَّه تعالى محرمٌ، وكذلك الرياء، وذكر جماعةٌ أن من سعى في معصيةٍ ما أمكنه، ثم حال بينه وبينها قَدَرٌ. . كُتبت عليه.

(كتبها اللَّه عنده حسنه) لأن رجوعه عن العزم عليها خيرٌ أيُّ خير، فجوزي في مقابلته بحسنة، وأكدت بقوله:(كاملة) إشارة إلى نظير ما مر في (كاملة) في الهم بالحسنة، لا يقال: نظير ما مر ثَمَّ من أن الهم بالحسنة يكتب فيه حسنة أن يكون الهم بالسيئة يكتب فيه سيئة؛ لأن الهم بالشر من أعمال القلوب؛ لأنا نقول: قد تقرر أن الكف عنها خيرٌ أيُّ خير، وهو متأخرٌ عن ذلك الهم، فكان ناسخًا له:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} .

وقد جاء في الحديث: "إنما تركها مِن جَرَّايَ" أي: من أجلي (3)، وفي حديث البخاري "على كل مسلمٍ صدقة" قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فليمسك عن الشر؛ فإنه صدقة"(4).

(وإن هم بها فعملها. . كتبت سيئة واحدة)(5) زاد أحمد: "ولم تضاعف عليه"(6) ويدل له: {فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} .

(1) أخرجه الطبراني في "الكبير"(12/ 334) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

قوله: (لا لنحو حياءٍ. . . إلخ) كأن يذهب إلى امرأةٍ ليزني بها فيجد الباب مغلقًا ويتعسر عليه فتحه فلا تكتب له حسنة، ومثله من يتمكن من الزنا فلم ينتشر، أو طرقه من يخاف أذاه، وأشار بقوله:(أو عجزٍ) إلى أن التارك لا يسمى تاركًا إلا مع القدرة على الفعل، فلو تركها لواحدةٍ مما ذكر. . لم تكتب له حسنة، والحاصل: أنه إن ترك السيئة امتثالًا. . كُتبت له حسنة، وإلَّا. . فلا. اهـ "مدابغي"

(3)

أخرجه مسلم (129) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. وقوله: (من جراي) قال الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "شرح مسلم"(2/ 148): (هو بفتح الجيم وتشديد الراء، وبالمد والقصر لغتان).

(4)

صحيح البخاري (6022) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(5)

هكذا في النسخ، ولفظه في نسخ المتن وفي "البخاري"، و"مسلم":"وإن هم بها فعملها. . كتبها اللَّه سيئة واحدة".

(6)

مسند الإمام أحمد (4/ 345) عن سيدنا خريم بن فاتك رضي الله عنه.

ص: 588

نعم؛ قد تعظم بنحو شرف زمانٍ أو مكانٍ؛ قال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: في الأشهر الحرم، قال قتادة: الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا، وسبقه إلى ذلك ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما (1).

وفي حديثين ضعيفين: أن السيئة تضاعف في رمضان (2)، وقال مجاهد:(تضاعف السيئة بمكة كما تضاعف الحسنة)، وقال ابن جريج:(بلغني أن الخطيئة بها بمئة خطيئة في غيرها)(3)، وقيل لأحمد: في شيءٍ من الحديث أن السيئة تكتب بأكثر من واحدة؟ قال: (لا، ما سمعنا إلا بمكة لتعظيم البلد)(4)، وكذا قال إسحاق.

وينبغي حمل المضاعفة هنا على عظم جرم السيئة ومزيد العذاب عليها (5)؛ حتى لا ينافي هذا حديثَ أحمد السابق: "ولم تضاعف عليه" وحديثَ الباب، وقولَه تعالى:{فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} .

نعم؛ يدل على المضاعفة: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} إلا أن تحمل المضاعفة هنا على ما ذكرته (6)، وبه يعلم أن السيئة تعظم أيضًا بشرف فاعلها وقوة معرفته باللَّه تعالى وقربه منه؛ فإن من عصى السلطان على بساطه أعظم جرمًا ممن عصاه على بعد.

ثم قوله: (وإن هم. . . إلخ) فيه دليلٌ على أن العزم لا يكتب معها، لكن مفهوم الحديث الآتي خلافه، واعتمده قاضي القضاة التقي ابن رزين من أئمتنا، فإنه أفتى بأن

(1) انظر "الدر المنثور"(4/ 186 - 187). ونقل ذلك عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: (ما لي وبلد تضاعف فيها السيئات كما تضاعف فيها الحسنات) اهـ "مدابغي"

(2)

انظر "جامع العلوم والحكم"(2/ 317).

(3)

انظر هذه الأقوال في "جامع العلوم والحكم"(2/ 318).

(4)

انظر "فتح الباري"(11/ 329).

(5)

هو المعتمد، يعني: أن هذا محمولٌ على زيادة عذاب السيئة في الكيف، لا في الكمِّ، واللَّه أعلم. اهـ هامش (غ)

(6)

قوله: (بفاحشة مبينة) أي: ظاهر قبحها، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما:(هي النشوز وسوء الخلق وإيلام قلبه الشريف)، وقوله:(على ما ذكرته) أي: من عظم جرم السيئة، أو لأنه ورد تعظيمًا لحق المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن وقوع ذلك من نسائه يقتضي أمرًا زائدًا على الفاحشة وهو أذاه صلى الله عليه وسلم. اهـ "مدابغي"

ص: 589

من عزم عليها ففعلها ولم يتب منها. . أُوخذ بعزمه؛ لأنه إصرارٌ، وتناقض فيه كلام السبكي، ورجَّح ولده ما يوافق كلام ابن رزين.

وبيان ذلك: أن السبكي قال في "حلبياته" ما حاصله: (ما يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب: الأولى: الهاجس؛ وهو ما يلقى فيها، ثم جريانه فيها، وهو الخاطر، ثم حديث النفس؛ وهو ما يقع فيها من التردد: هل يفعل أو لا؟ ثم الهم؛ وهو ترجيح قصد الفعل، ثم العزم، وهو قوة ذلك القصد والجزم به (1).

فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعًا؛ لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيءٌ طرقه قهرًا عليه، وما بعده من الخاطر وحديث النفس وإن قدر على دفعهما لكنهما مرفوعان بالحديث الصحيح، أي: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم به -أي: في المعاصي القولية- أو تعمل"(2) أي: في المعاصي الفعلية؛ لأن حديثها إذا ارتفع. . فما قبله أَولى، وهذه المراتب الثلاث لا أجر فيها في الحسنات أيضًا؛ لعدم القصد.

وأما الهم. . فقد بيَّن الحديث الصحيح أنه بالحسنة يكتب حسنة، وبالسيئة لا يكتب سيئة، ثم ينظر؛ فإن تركها للَّه تعالى. . كتبت حسنة، وإن فعلها. . كتبت سيئة واحدة.

والأصح في معناه: أنه يكتب عليه الفعل وحده، وهو معنى قوله:"واحدة" وأن الهم مرفوعٌ، ومن هذا يُعلم أن قوله في حديث النفس:"ما لم تتكلم أو تعمل به" ليس له مفهوم حتى يقال: إنها إذا تكلمت أو عملت. . يكتب عليها حديث النفس؛ لأنه إذا كان الهم لا يكتب؛ أي: كما استفيد من قوله: "واحدة" فحديث النفس أولى) اهـ

(1) قال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى: وقد نظمت حاصل ما ذكر فقلت: (من البسيط)

مراتب القصدِ خمسٌ: هاجس ذكروا

فخاطر، فحديث النفس، فاستمعا

يليه همٌّ، فعزمٌ كلها رُفعتْ

سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

(2)

أخرجه أبو يعلى (639)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1114) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 590

والأصح الذي ذكره خالفه في "شرح المنهاج" فقال: إنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: "أو تعمل" ولم يقل: أو تعمله، قال: فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصيةٍ وإن كان المشي في نفسه مباحًا؛ لانضمام قصد الحرام إليه وإن كان كلٌّ من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده؛ لأنهما إذا اجتمعا. . كان مع الهم عملًا لما هو من أسباب المهموم به، فاقتضى إطلاق:"أو تعمل" المؤاخذة به.

وتبعه ولده؛ فإنه قال في "منع الموانع": هنا دقيقةٌ نبهنا عليها في "جمع الجوامع" وهي أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم ليس مطلقًا، بل بشرط عدم التكلم والعمل، حتى إذا عمل. . يؤاخذ بشيئين: همه وعمله، ولا يكون همه مغفورًا وحديث نفسه إلا إذا لم يعقبه العمل؛ كما هو ظاهر الحديث.

ثم حكى كلامَيْ أبيه السابقين (1)، ورجح المؤاخذة، وخالفه غيره فرجح عدمها، قال: وإلَّا. . لزم أن يعاقب على المعصية عقوبتين، وفيه نظر، ولا يلزم عليه ذلك؛ لأن الهم حينئذٍ صار معصيةً أخرى.

ثم قال في "الحلبيات": (وأما العزم. . فالمحققون على أنه يؤاخذ به، وخالف بعضهم -أي: ونسب إلى الشافعي وابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهم- وقال: إنه من الهم المرفوع تمسكًا بقول اللغويين: همَّ بالشيء عزم عليه).

وهو تمسكٌ غير سديد؛ لأن اللغوي لا يتنزل إلى هذه الدقائق، واحتج الأولون بحديث (2):"إذا التقى المسلمان بسيفيهما. . فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول اللَّه؛ هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:"إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"(3) فعلَّل بالحرص.

وبالإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب (4)؛ كالحسد، والكبر، والعجب،

(1) أي: الذي في "شرح المنهاج"، والذي في "الحلبيات" اهـ هامش (غ)

(2)

أي: المحققون القائلون بأن العزم يؤاخذ به.

(3)

أخرجه البخاري (31)، ومسلم (2888) عن سيدنا أبي بكرة رضي الله عنه.

(4)

قوله: (وبالإجماع) عطف على قوله: (واحتج الأولون بحديث)، ومثله قوله. (وبقوله تعالى:{وَمَن يُرِدْ} الآيةَ) اهـ هامش (غ)

ص: 591