الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]
عَنْ أَبِي ذَرٍّ جُنْدَبِ بْنِ جُنَادَةَ، وَأَبِي عَبْدِ الْرَّحْمَنِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (1).
(عن أبي ذر جندب بن جنادة) رضي اللَّه تعالى عنه بضم الجيم فيهما، وتثليث دال الأول، وقيل: برير بن جندب، وقيل: جندب بن عبد اللَّه، وقيل: جندب بن السكن، وهكذا اختلف في جده وأبي جده ومن فوقهما، وعلى كلٍّ: هو غفاري، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كنانة.
روي عنه أنه قال: (أنا رابع الإسلام)(2)، ويقال: خامس الإسلام، أسلم بمكة قديمًا، ثم رجع إلى قومه، ثم هاجر إلى المدينة (3)، ووصفه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث بأنه أصدق الناس لهجةً، وفي رواية:"ما أظلَّتِ الخضراء -أي: السماء- ولا أقلَّتِ الغبراء -أي: حملت الأرض- أصدقَ لهجةً من أبي ذر"(4).
وهو أول من حيَّا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام (5)، وقال عليٌّ في
(1) سنن الترمذي (1987).
(2)
أخرجه ابن حبان (7134).
(3)
انظر "الإستيعاب"(1/ 214 - 215).
(4)
تقدم تخريجه (ص 137) في شرح الحديث الأول.
(5)
أخرجه مسلم (2473)، والبخاري في "الأدب المفرد"(1035)، والنسائي في "الكبرى"(10099) عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه.
حقِّه: (وعاءٌ مُلِئ علمًا، ثم أوكي عليه، فلم يخرج منه شيء حتى قبض)(1).
روي له مئتا حديثٍ وأحدٌ وثمانون، اتفقا منها على اثني عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بسبعة عشر.
مات بالرَّبَذة سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين.
(وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل) الأنصاري، أسلم وعمره ثمان عشرة سنة، وشهد بدرًا والعقبة والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
روي له مئة حديث وسبعةٌ وخمسون، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث.
وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"(2)، وأنه قال له:"يا معاذ؛ إني لأحبك" فقال: وأنا أحبك واللَّه يا رسول اللَّه، قال:"فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم؛ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"(3)، وأنه قال:"يأتي معاذٌ يوم القيامة بين يدي العلماء رَتْوة"(4) أي: رمية بسهم، وقيل: بحجر، وقيل: بميل، وقيل: مد البصر.
وأن ابن مسعود قال: (إن معاذًا كان أُمةً قانتا للَّه حنيفًا ولم يك من المشركين) قالوا: يا أبا عبد الرحمن؛ إن إبراهيم كان أمة! قال: (تسمعوني ذكرت إبراهيم؟! إنا كنَّا نُشُبِّه معاذًا بإبراهيم)(5).
وقال مالكٌ: بلغني أنه قال: (يرحم اللَّه معاذ بن جبل، كان أمةً قانتًا للَّه) فقيل: يا أبا عبد الرحمن؛ إنما ذكر اللَّه بهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال ابن
(1) ذكره الحافظ ابن حجر في "الإصابة"(4/ 65) وعزاه لأبي داوود بسند جيد، وذكره أيضًا الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(2/ 60).
(2)
أخرجه ابن حبان (7131)، والترمذي (3790)، وابن ماجه (154) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(690)، وأبو داوود (1522)، والنسائي (3/ 53) عن سيدنا معاذ رضي الله عنه.
(4)
أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(1833) عن سيدنا عمر رضي الله عنه.
(5)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(10/ 59)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 349)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 230)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(58/ 419).
مسعود: (إن الأمةَ الَّذي يُعلِّم الناسَ الخير، وإن القانت هو المطيع)(1).
وهو ممَّن جمع القرآن في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مات بناحية الأُرْدُن في طاعون عَمَواس -وهو بفتح أَوَّلَيْهِ: قرية بين الرملة والقدس، نسب إليها؛ لأنه أول ما ظهر منها- سنةَ ثمان عشرة وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، وقيل: أربع، وقيل: ثمان وثلاثين سنة، وقبره بغور بيسان في شرقيه.
رضي الله عنهما، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال) لأبي ذرٍّ كما سيأتي:(اتقِ اللَّه) من التقوى؛ وأصلها: اتخاذ وقايةٍ تقيك مما تخافه وتحذره، فتقوى العبد للَّه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وقاية تقيه منه هي امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وهذا على حدِّ:{اتَّقُوا اللَّهَ} أي: غضبه، وهو أعظم ما يتقى؛ إذ ينشأ عنه عقابه الدنيوي والأخروي، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، {هُوَ أَهْلُ التَّقوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} وفسر ذلك صلى الله عليه وسلم فقال:"قال اللَّه تعالى: أنا أهل أن أُتقَى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر. . فأنا أهلٌ أن أغفر له"(2).
وقد تضاف التقوى إلى عقابه أو مكانه أو زمانه، نحو:{وَاتَّقُوا النَّارَ} ، {وَاتَّقُوْا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} .
(حيثما كنت)(3) أي: في أيِّ مكانٍ كنت فيه حيث يراك الناس وحيث لا يرونك؛ اكتفاءً بنظره تعالى؛ قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ [الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ] إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} .
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "أوصيك بتقوى اللَّه في سرِّ أمرك
(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك"(3/ 272)، والطبراني في "الكبير"(10/ 59).
(2)
أخرجه الترمذي (3328)، وابن ماجه (4299)، والنسائي في "الكبرى"(11566) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
حذفت (ما) في أكثر النسخ، وهي في "سنن الترمذي". وقوله:(حيثما كنت) حيث: ظرف مكان يضاف للجمل، والمراد بها هنا: التعميم؛ أي: في أي مكانٍ وأي حالٍ كنت فيه، وقيل: إنها هنا ظرف زمان؛ أي: بناء على مجيئها للزمان؛ لأن التقوى في جميع الأزمنة أعم منها في جميع الأمكنة؛ لأن الثاني يصدق على ما إذا حصل منه تقوى ومعصية في المجلس الواحد، بخلاف الأول و (ما) زائدة بشهادة رواية حذفها. اهـ "مدابغي".
وعلانيته" (1)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول فرب دعائه: "أسألك خشيتك في الغيب والشهادة" (2)، وهي من المنجيات.
وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ فإن التقوى وإن قلَّ لفظها إلا أنها كلمةٌ جامعةٌ لحقوقه تعالى، وهي أن يُتقى اللَّهُ حقَّ تقاته؛ أي:"بأن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يكفر" خرجه الحاكم مرفوعًا (3)، قيل: وهو منسوخ بـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وينبغي أن يقال: لا نسخ؛ إذ لا يصار إليه إلا بشروطٍ لم توجد كما يعلم من محله، فالأَوْلى أن يقال: المراد: أن يطاع فلا يعصى بحسب الاستطاعة، وكذا ما بعده.
ولحقوق عباده بأسرها (4)، فمن ثَمَّ شملت خيري الدنيا والآخرة؛ إذ هي اجتناب كل منهيٍّ، وفعل كل مأمورٍ، فمن فعل ذلك. . فهو من المتقين الذين شرَّفهم اللَّه تعالى في كتابه بالمدح والثناء:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، وبالحفظ من الأعداء:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} ، وبالتأييد والنصرة:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وبالنجاة من الشدائد، والرزق من الحلال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ، قال أبو ذر: قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال: "يا أبا ذر؛ لو أن الناس كلهم أخذوا بها. . لكفتهم"(5).
وبإصلاح العمل وغفران الذنوب: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، وبكفلين من الرحمة، وبالنور:{اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} ، وبالقَبول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، وبالإكرام والإعزاز عند اللَّه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وبالنجاة من النار:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} ، وبالخلود في الجنة:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} .
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 181).
(2)
أخرجه ابن حبان (1971)، والحاكم (1/ 524) عن سيدنا عمار رضي الله عنه.
(3)
انظر "المستدرك"(2/ 294) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.
(4)
عطف على قوله: (لحقوقه تعالى).
(5)
أخرجه ابن حبان (6669)، والحاكم (2/ 492)، والنسائي في "الكبرى"(11539).
قال سفيان الثوري: (سُمُّوا بذلك؛ لأنهم اتقوا ما لا يُتقى)(1)، وهو معنى قول الحسن:(ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام)(2).
وقول أبي الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه: (تمام التقوى أن العبد يتقي اللَّه حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلالٌ خشيةَ أن يكون حرامًا)(3).
وليكون حجابًا بينه وبين الحرام، وأصل ذلك كله: حديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس"(4)، وحديث:"من اتقى الشبهات. . استبرأ لدينه وعرضه"(5).
وبغاية ذلك كله القصوى وهي محبة اللَّه تعالى (6)، وموالاته، وانتفاء الخوف والحزن، وحصول البشارة في الدنيا والآخرة والفوز العظيم:{اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ولو لم يكن في التقوى سوى هذه الخصلة. . لكفت عما عداها.
ثم حقيقتها متوقفة على العلم؛ إذ الجاهل لا يعلم كيف يتقي، لا من جانب الأمر، ولا من جانب النهي، وبهذا تظهر فضيلة العلم، وتميزه على سائر العبادات، والأحوال والمقامات؛ لتوقفها جميعها عليه، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"ما عُبدَ اللَّهُ بشيءٍ أفضل من فقهٍ في دين"(7)، وقال:"من يرُدِ اللَّه به خيرًا. . يفقهه في الدين، ويلهمه رشده"(8).
(1) ذكره الإمام السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 61) وعزاه لابن أبي الدنيا.
(2)
ذكره الإمام السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 61) وعزاه لابن أبي الدنيا.
(3)
تقدم تخريجه (ص 295).
(4)
تقدم تخريجه (ص 295).
(5)
تقدم تخريجه (ص 231) وهو الحديث السادس من أحاديث المتن.
(6)
أي: وشرَّفهم اللَّه في كتابه أيضًا بغاية ذلك كله القصوى. . . إلخ.
(7)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(3/ 79)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(206)، والطبراني في "الأوسط"(6162) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(8)
أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037) عن سيدنا معاوية رضي الله عنه؛ بدون زيادة:"ويلهمه رشده" وهي عند الطبراني في "الكبير"(19/ 340).
والمراد بالعلم المتوقف عليه ذلك: هو العلم العيني الذي لا رخصة لمكلفٍ في تركه، وهو تعلُّم ما أنت متلبِّسٌ به، فنحو الصلاة وشروطها وأركانها، والصوم وشروطه وأركانه يتعيَّن على كل مكلفٍ تعلُّمُ ظواهرها، وما يكثر وقوعه منها، وكذا الزكاة لمن له مال، والحج لمن استطاعه، ونحو البيع لمن أراد مباشرته، والنكاح لمن أراد الدخول فيه، ومعاشرة الزوجات لمن أراد تزوُّجَ امرأةٍ ثانيةٍ.
فمن علم ما خُوطب به عينًا، أو أراد التلبس به، ثم اجتنب كل منهيٍّ، وفعل كل مأمورٍ. . فهو المتقي الكامل:(الذي لا يزال يتقرب إلى اللَّه تعالى بالنوافل حتى يحبه. . .) الحديث (1).
ومن ثمَّ أخرج ابن حبان وغيره عن أبي ذر: قلت: يا رسول اللَّه؛ أوصني، قال:"أوصيك بتقوى اللَّه؛ فإنه رأس الأمر كله"(2)، وأبي سعيد الخدري قلت: يا رسول اللَّه؛ أوصني، قال:"أوصيك بتقوى اللَّه؛ فإنه رأس كل شيء"(3)، وفي رواية:"عليك بتقوى اللَّه؛ فإنها جماع كل خير"(4).
والترمذي: عن يزيد بن سلمة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول اللَّه؛ إني سمعت منك حديثًا كثيرًا، فأخاف أن ينسيني أولَه آخرُه، فحدِّثني بكلمةٍ تكون جماعًا، قال:"اتق اللَّه فيما تعلم"(5).
ثم لما كان العبد مأمورًا بتقوى اللَّه في سره وعلانيته كما مر، مع أنه لا بد أن يقع منه أحيانًا تفريطٌ في التقوى؛ إما بترك بعض المأمورات، أو فعل بعض المنهيات، ومع ذلك لا ينافي وصفه بالتقوى كما دلَّ عليه نظم سياق آيات:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . . . إلى أن قال فى وصفهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} . . . إلخ. . أمره بأن يفعل ما يمحو به ما فَرَط منه بقوله: (وأَتْبعِ السيئة)
(1) سيأتي تخريجه (ص 596) وهو الحديث الثامن والثلاثون من أحاديث المتن.
(2)
صحيح ابن حبان (361).
(3)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 82).
(4)
أخرجه أبو يعلى في مسنده (1000) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
سنن الترمذي (2683).
الصغيرة (الحسنة تمحها) كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} سبب نزولها: ما في "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه عنه: أن رجلًا أصاب من امرأة قُبْلةً، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فدعاه، فقرأها عليه، فقال رجلٌ: هذا له خاصة؟ فقال: "بل للناس عامة"(1).
وفيهما عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجلٌ فقال: يا رسول اللَّه؛ إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، قال: ولم يسأله عنه، فحضرتِ الصلاةُ فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة. . قام إليه الرجل فقال: يا رسول اللَّه؛ إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، قال:"أليس قد صليت معنا؟! " قال: نعم، قال:"قد غفر اللَّه لك ذنبك"(2).
وخرجه مسلم بمعناه من حديث أبي أمامة (3)، وخرجه ابن جرير من وجهٍ آخر عنه، وفي حديثه:"فإنك خرجت من خطيئتك كما ولدتك أمك فلا تَعُدْ" وأنزل اللَّه تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآيةَ (4).
وجاء: كنت جالسًا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجلٌ فقال: يا رسول اللَّه؛ إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، ثم كرَّر ذلك مرارًا وهو يعرض عنه، فقال: يا رسول اللَّه؛ إنه أتتني امرأة أجنبيةٌ تشتري منِّي تمرًا، فأدخلتها البيت، فأصبت منها ما يصيب الرجل من امرأته، غير أني لم أجامعها، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"توضأ وضوءًا حسنًا" فتوضأ وصلى مع النبي
صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي: عظة لمن اتعظ، فقال معاذ: يا رسول اللَّه؛ هذا له خاصة، أم للناس عامة؟ فقال:"بل للناس عامة"(5).
(1) صحيح البخاري (526)، وصحيح مسلم (2763).
(2)
صحيح البخاري (6823)، وصحيح مسلم (2764).
(3)
صحيح مسلم (2765).
(4)
تفسير الطبري (18696).
(5)
أخرج نحوه النسائي في "الكبرى"(7281) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.
أي: فلا تعجزن أيها الإنسان إذا فرطت منك سيئة أن تُتبعها بحسنةٍ من نحو صلاةٍ، أو صدقةٍ وإن قلَّت، أو ذكرٍ؛ كالباقيات الصالحات: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر؛ فإنهنَّ أحب الكلام إلى اللَّه تعالى، وكـ (سبحان اللَّه وبحمده، سبحان اللَّه العظيم) فإنهما حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان؛ ليزول عنك قبيح عارها، وتسلم من أليم نارها.
وورد أيضًا عند مسلم (1): "ما من رجلٍ يتطهر فيحسن الطّهور، ثم يَعْمِد إلى مسجدٍ من هذه المساجد إلا كتب اللَّه له بكل خطوةٍ يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجةً، ويحط عنه بها سيئة. . . " الحديث (2).
وأخرج أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجلٍ يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر اللَّه إلا غفر اللَّه تعالى له" ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (3).
وظاهر قوله: "تمحها" وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} أنها تُمحى حقيقةً من الصحيفة، وقيل: عبَّر به عن ترك المؤاخدة، فهي موجودةٌ فيها بلا محوٍ إلى يوم القيامة، وهذا تجوُّز يحتاج لدليلٍ وإن نقله القرطبي في "تذكرته"(4).
وقال بعض المفسرين: إنه الصحيح عند المحققين، أما الكبيرة. . فلا يمحوها إلا التوبة بشروطها؛ وحينئذٍ يصح أن يراد بالسيئة الكبيرة أيضًا، وبالحسنة التوبة منها، ويؤيده: أن في طريقٍ مرسلٍ من طرق وصايا معاذٍ لمَّا بعثه إلى اليمن: "وإن أحدثت ذنبًا. . فأحدث عنده توبة، إن سرًا. . فسِرٌّ، وإن علانيةً. . فعلانيةٌ"(5).
ثم ظاهر النصوص أن التوبة الصحيحة بشروطها تكفر الذنب قطعًا، كما يقطع
(1) في أكثر النسخ: (عن مسلمٍ) ولعل الصواب ما أثبت، واللَّه أعلم.
(2)
صحيح مسلم (654/ 257) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
مسند الإمام أحمد (1/ 2)، وسنن أبي داوود (1521)، وسنن الترمذي (3006)، وسنن النسائي الكبرى (11012)، وابن ماجه (1395).
(4)
كتاب التذكرة (2/ 633).
(5)
أخرجه الييهقي في "الزهد"(957) عن محمد بن جبير رحمه اللَّه تعالى.