المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

بقبول إسلام الكافر، قيل: وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع (1)، أي: ومع تسليم ذلك. . فالأرجح: أنه ظنيٌّ، كما دلَّت عليه نصوصٌ أخر، لكن لقوة ذلك الظن أُجري مُجرى القطع في النصوص الأُخر.

‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

اختلفوا في مسألتين:

إحداهما: أن الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر على الأصح (2)، بل المجمع عليه على ما قاله ابن عبد البر، وأما الكبائر. . فلا بد لها من التوبة؛ لإجماعهم على أنها فرضٌ، ويلزم من تكفير الكبائر بنحو الوضوء والصلاة بطلانُ فرضية التوبة، ويؤيده حديث "الصحيحين":"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لِمَا بينهنَّ ما اجتنب الكبائر"(3).

حكى ابن عطية عن جمهور أهل السنة: (أن معناه: أن اجتناب الكبائر شرطٌ لتكفير هذه الفرائض للصغائر، فإن لم تجتنب. . لم تكفر شيئًا بالكلية، وعن الحذَّاق: أنها تكفر الصغائر ما لم يُصِرَّ عليها (4)، سواء فعل الكبائر أم لا، ولا تكفر شيئًا من الكبائر) (5).

وروى مسلم: "ما من امرئٍ مسلمٍ يحضر صلاةً مكتوبةً، فيُحسن وضوءها،

(1) انظر "التمهيد"(4/ 44) وما بعدها.

(2)

ما عدا المخصصات من الأعمال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة كبيرها وصغيرها، وقد صنف فيها العلامة ابن حجر العسقلاني رحمه اللَّه تعالى كتابًا سماه "الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة" فإن أردت بيان المقولة. . فارجع إليه. (قبد الهركني) اهـ هامش (غ)

وفي هامشها أيضًا: (وليس تكفير الأعمال الصالحة للصغائر عبارة عن إسقاط ثوابها في نظيرها كما قاله المعتزلة، بل هو عندنا عبارةٌ عن عدم المؤاخذة بها مع بقاء ثواب تلك الأعمال موفرًا على صاحبها) اهـ "شرح عبد السلام لجوهرة التوحيد"(ص 141).

(3)

صحيح مسلم (233/ 16) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، ولم نجده عند البخاري في "الصحيح"، وهو معلق عنده في "التاريخ الكبير"(6/ 140).

(4)

إلا أن تغلب طاعات المصرِّ معاصيه كما في كتب الفقه واللَّه أعلم، وكما في "حاشية ابن حجر على الإيضاح" انظر (ص 17) اهـ هامش (غ)

(5)

انظر "المحرر الوجيز"(3/ 213).

ص: 356

وخشوعها، وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤْتِ كبيرةً، وذلك الدهر كله" (1) والأحاديث بمعنى ذلك كثيرة.

وقيل: إن الأعمال الصالحة تكفر الكبائر، وممن قال به ابنُ حزم، لكن أطال ابن عبد البر في الرد عليه (2)، ورده بعضهم بأنه إن أُريد أن مَنْ أتى بالأعمال وهو مُصِرٌّ على الكبائر تغفر له الكبائر قطعًا. . فهو باطلٌ قطعًا معلومٌ بطلانه من الدين بالضرورة، وإن أريد أن مَنْ لم يُصِرَّ عليها وحافظ على الفرائض من غير توبةٍ ولا ندمٍ كفَّرت بذلك. . فهو محتملٌ لظاهر آية:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي: ما سلف منكم صغيرًا كان أو كبيرًا، ومع ذلك: الصحيح قول الجمهور: إن الكبائر لا تكفر بدون التوبة.

نعم؛ إقامة الحد بمجرده كفارةٌ كما صرح به حديث مسلم (3)؛ أي: بالنسبة لذات الذنب، أما بالنسبة لترك التوبة منه. . فلا يكفرها الحد؛ لأنها معصية أخرى (4)، وعليه يحمل قول جمع: إن إقامته ليست كفارة، بل لا بد معها من التوبة، وقوله تعالى في المحاربين:{لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . . لا ينافي ذلك؛ لأنه ذكر عقوبتهم في الدارين، ولا يلزم اجتماعهما.

ويؤيد ما تقرر: قول بعض المتأخرين: إن أُريد أن الكبائر تُمحى بمجرد العمل. . فهو باطلٌ، أو أنه قد يوازن يوم القيامة بينها وبين بعض الأعمال، فتُمحى الكبيرة بما يقابلها من العمل، ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب. . فهذا قد يقع كما دلت عليه أحاديث؛ كحديث البزار والحاكم: "يؤتى بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة،

(1) صحيح مسلم (228) عن سيدنا عثمان رضي الله عنه.

(2)

انظر "التمهيد"(4/ 49) وما بعدها.

(3)

تنبيه: صحة التوبة إنما تتوقف على التمكين من الحد إن ثبت عليه مقتضى الحد، وكذا لو اشتهر عليه بين الناس؛ فإن لم يثبت ولا اشتهر. . صحت توبته بدون تمكين، بل الأفضل له: أن يستر على نفسه، ويكره تنزيهًا إظهاره، وحيث توقفت على التمكين ومكن فلم يحده الإمام ولا نائبه. . أثما دونه وصحت توبته. اهـ هامش (غ)

(4)

والحاصل: أن إثم الإقدام على شرب الخمر مثلًا وإثم تأخير التوبة منه لا يكفرهما الحد، وإنما يكفر إثم الذنب فقط. اهـ هامش (ج)

ص: 357

فيقص، أو يقضى بعضها من بعض، فإن بقيت له حسنة. . وسع له بها في الجنة" (1).

فظاهره كغيره: وقوع المقاصَّة بين الحسنات والسيئات، وينظر إلى ما يفضل منها، وهذا يوافق قول من قال: إن رجحت حسناته على سيئاته بحسنةٍ واحدةٍ. . أُثيب عليها خاصة، وسقط باقي حسناته في مقابلة سيئاته، وقيل: يثاب بالجميع، وتسقط سيئاته كأنها لم تكن، هذا كله في الكبائر.

أما الصغائر. . فإنها تُمحى بالعمل مع بقاء ثوابه؛ كما دلت عليه الآيات والأحاديث.

ثم المغفرة والتكفير متقاربان؛ إذ المغفرة: ستر الذنوب، أو وقاية شره مع ستره، والتكفير: من (الكفر) وهو: الستر أيضًا.

وقيل: هو محو أثر الذنب حتى كأنه لم يفعل، والمغفرة: ذلك مع إكرام العبد والإفضال عليه.

وقيل: مغفرة الذنب بالعمل تقلبه حسنة، وتكفيره بالمكفر يمحوه فقط.

وقيل: المغفرة: وقاية الذنب بالكلية، فلا مؤاخذة ولا عقوبة، والتكفير قد يقع بعد العقوبة؛ فإن المصائب الدنيوية مكفراتٌ وهي عقوبات، وكذا العفو والرحمة يقعان مع العقوبة ومع عدمها.

وقيل: المكفر من العمل ما ينمحي به الذنب، فلا ثواب له غير ذلك، كاجتناب الكبائر، والعمل الذي يغفر به الذنب ما فيه ثوابٌ ومغفرةٌ كالذِّكر.

وقد قال كثيرٌ من الصحابة وغيرهم: لا ثواب في المصائب الدنيوية غير التكفير للذنوب، وفسر المكفِّر في الحديث بإسباغ الوضوء في المكاره، ونقل الأقدام إلى الصلاة، وقال: "من فعل ذلك. . عاش بخيرٍ، ومات بخيرٍ، وخرج من خطيئته

(1) المستدرك (4/ 252)، وذكره الهيثمي في "المجمع"(10/ 358) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، وعزاه للبزار.

ص: 358

كيومَ ولدته أمه" (1) فهذا مع تكفيره للسيئات يرفع الدرجات.

وسببه: أنه قد يجتمع في العمل شيئان: أحدهما رافعٌ، والآخر مكفِّرٌ، فالوضوء من حيث كونُه تعاطي عبادة رافعٌ للدرجات، ومن حيث مشقَّته وإيلامه للنفس مكفرٌ، وقس عليه، ومن ثَمَّ جاء:"إن إحدى خطوتي الماشي إلى المسجد ترفع له فى درجة، والأخرى تحط عنه خطيئة"(2).

ثانيهما: الأصح: وجوب التوبة من الصغائر أيضًا، وقال بعض المعتزلة: لا تجب، وقال بعض المتأخرين: الواجب الإتيان بها أو ببعض المكفرات.

(وخالق الناس بخلقٍ حسنٍ) وجِماعُهُ -كما ذكره الترمذي وغيره-: ينحصر في طلاقة الوجه لهم، وكفِّ الأذى عنهم، وبذل المعروف لهم (3)، وهو معنى قول بعضهم: هو كظم الغيظ للَّه، وإظهار الطلاقة والبشر إلا لمبتدعٍ أو فاجرٍ، والعفو عن الزالِّين إلا تأديبًا وإقامةً للحد، وكفُّ الأذى عن كل مسلمٍ أو معاهدٍ إلا تغييرًا لمنكر، أو أخذًا بمظلمةٍ من غير تعدٍّ، وجمع بعضهم ذلك كله في قوله: هو أن تفعل معهم ما تحب أن يفعلوه معك، فتجتمع القلوب، ويتفق السر والعلانية، وحينئذ تأمن كل كيدٍ وشرٍّ، وذلك جماع الخير، وملاك الأمر إن شاء اللَّه تعالى.

والأحاديث في مدح الخُلُق الحسن كثيرةٌ، بينتها في كتابي السابق ذكره في شرح (الخامس عشر) (4)؛ منها:"أثقل ما وضع في الميزان حسن الخلق"(5)، "خياركم أحاسنكم أخلاقًا"(6)، "إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"(7)، "أكمل

(1) أخرجه الترمذي (3233)، والإمام أحمد (1/ 386)، وأبو يعلى (2608) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم (666)، وابن حبان (2044)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 62) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(3)

سنن الترمذي (2005) عن عبد اللَّه بن المبارك رحمه اللَّه تعالى.

(4)

هو كتاب: "حقائق الإنافة في الصدقة والضيافة" انظر (ص 25 - 32) منه.

(5)

أخرجه ابن حبان (481)، وأبو داوود (4799)، والترمذي (2002) عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه بنحوه.

(6)

أخرجه البخاري (6053)، ومسلم (2321) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.

(7)

أخرجه أبو داوود (4798)، والإمام أحمد (6/ 133) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.

ص: 359

المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" (1)، "أفضل ما أُعطي المرء المسلم الخلق الحسن" (2)، "ألا أخبركم بأحبكم إلى اللَّه وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟! " قالوا: بلى، قال: "أحسنكم خلقًا" (3)، "أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك" (4)، وفي رواية:(أن هذه الثلاثة أفضل -وفي رواية: أكرم- أخلاق أهل الدنيا والآخرة)(5).

ثم الخلق وإن كان سجيةً في الأصل ومطبوعًا عليه العبد إلا أن الإنسان يمكنه أن يتخلَّق بغير خلقه حتى يتصف بالأخلاق الحسنة العلية، فمن ثم صح الأمر بتحصيله وبكسبه هنا وفي قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"حَسِّن خلقك مع الناس"(6).

فأفاد أن تحسينه من كسب العبد؛ لحصوله بنحو النظر في أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وما صدر عنه من أعاليها، مع التأسي به فيما يمكن أن يتأسَّى به فيه منها، ثم بصحبة أهل الأخلاق الحسنة والاقتداء بهم في ذلك، ثم بتصفية نفسه عن ذميم الأوصاف وقبيح الخصال، ثم برياضتها إلى أن تتحلَّى بجميل الأخلاق ومعالي الأحوال؛ فحينئذ يُثاب على تلك الأخلاق الحميدة؛ لأنها من كسبه، فهو نظير استعمال الشجاعة في محلها كملاقاة العدو؛ فإن الشجاع يثاب على هذا الاستعمال لا على نفس الشجاعة؛ لأنها من الأمور الجِبلِّيَّه التي لا تدخل تحت الاختيار، وإنما الذي يدخل تحته تَكَسُّبُ المعالي الموجبة لإيقاع تلك الغريزة في محلها.

وما صرحت به من أن الخلق غريزةٌ هو المنقول عن ابن مسعود؛ فإنه جعله جِبلَّة كاللونِ وبعضِ أجزاء الجسم، وقال: (فرغ ربك من أربعة: الخَلْق، والخُلُق،

(1) أخرجه ابن حبان (479)، والحاكم (1/ 3)، وأبو داوود (4682) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه ابن حبان (478)، وابن ماجه (3436) عن سيدنا أسامة بن شريك رضي الله عنه.

(3)

أخرجه ابن حبان (485) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 438)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1289)، والطبراني في "الكبير"(20/ 188) عن سيدنا معاذ بن أنس رضي الله عنه.

(5)

الرواية الأولى عند الحاكم (4/ 161)، والطبراني في "الكبير"(17/ 269) عن سيدنا عقبة بن عامر رضي الله عنه، والثانية عند البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 235) عن سيدنا علي رضي الله عنه.

(6)

أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 902) عن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه.

ص: 360

والرزق، والأجل) (1)، وعن الحسن؛ فإنه قال: من أُعطي حسن صورة، وخلقًا حسنًا، وزوجة صالحةً. . فقد أُعطي خيري الدنيا والآخرة، بل هو الوارد عنه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله:"إن اللَّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم"(2)، وقوله:"اللهم؛ كما حسَّنت خَلْقي، فحسِّن خُلُقي"(3).

وأما قول جَمْعٍ: أخلاق العبد حسنها وسيئها إنما هي من كسبه واختياره، فيحمد ويثاب على جميلها، ويذم ويعاقب على سيئها، وإلا. . لبطل الأمر به في:"وخالق الناس بخلق حسن" لاستحالته في المطبوع عليه العبد كاستحالة أمر الأعمى بالإبصار. . فيرد بأن ذلك لا حجة فيه؛ لِمَا قررناه: أن أصله جِبِلِّيٌّ، وأما استعماله فيما أُمر به العبدُ وصرفه عمَّا نُهي عنه. . فاكتسابيٌّ.

على أنه قد يقال: لا خلاف في المعنى، فمن قال: إنه جِبِلِّي. . نظر إلى أصله، ومن قال: إنه مكتسبٌ. . نظر إلى ما يستعمل فيه، وبذلك يجمع أيضًا بين الحديثين السابقين آنفًا الدالَّينِ على أنه جِبِلِّي، والحديث السابق قبلهما:"أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"، و"إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم" الدال على أنه مكتسب.

ولا يستدل باكتسابه ولا بكونه جِبِلَّة على اكتساب الولاية والنبوة، ومن استدل بذلك على هذا. . فقد وهِم؛ لما بينهما من الفرق الواضح؛ لأن الاكتساب ثَمَّ له دخلٌ وإن قلنا: إنه غريزةٌ، وأما في هذين. . فلا دخل لاكتساب العبد فيهما بوجهٍ، فكم من عاملٍ لم ينل منهما شيئًا؛ لأنهما محض تولِّي الحق للولي أو النبي، وهذا التولِّي من جَعْله تعالى وإنعامه وفضله، فلا دخل لفعل العبد فيه بوجه، ومن ثم يكفر من قال: إن النبوة مكتسبة (4).

(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 162)، والدارقطني (4/ 182).

(2)

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(275)، والحاكم (1/ 33)، والإمام أحمد (1/ 387) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(163) عن سيدنا علي رضي الله عنه، والبيهقي في "الشعب"(8184) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.

(4)

عبارة "شرح الجوهرة" لمؤلفها: فإن قلت: فما حكم من جوز اكتساب النبوة؟ قلتُ: قال أبو حيان كما نقله =

ص: 361

ثم وجهُ إفرادِهِ بالذِّكر -مع أنه من خصال التقوى ولا تتم إلا به-: الردُّ على من يظن أنها القيام بحقوق اللَّه تعالى فقط؛ إذ كثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوقه والانعكاف على محبته وخشيته إهمالُ حقوق العباد بالكلية، أو التقصير فيها، وما دَرَى أن الجمع بين الحقَّيْن عزيزٌ جدًا، لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصِّديقين.

ومن ثم فسروا الصالح الذي يدعو له كل مُصلٍّ في تشهده بأنه القائم بهما، وفي ذلك مناسبةٌ تامةٌ لحال معاذ؛ فإنه وصَّاه بذلك عند بعثه إلى اليمن معلِّمًا لهم وقاضيًا، ومَنْ هو كذلك. . يضطر لمخالطة الناس بخلقٍ حسن، ويحتاج لذلك ما لا يحتاجه من لا يخالطهم.

(رواه الترمذي) -بكسر الفوقية والميم، وقيل: بضمهما- في "جامعه"(وقال: حديث حسن) وقد قاله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما جاء إليه وهو مختفٍ بمكة، فأسلم وأراد المقام معه صلى الله عليه وسلم، وحرص عليه، فعلم صلى الله عليه وسلم أنه لا يقدر عليه، فأمره أن يلحق بقومه عسى أن ينفعهم اللَّه تعالى به، وقال له:"اتق اللَّه حيث كنت. . . " الحديث.

ولمعاذ لمَّا بعثه إلى اليمن كما مر آنفًا، وقد امتثل رضي الله عنه هذه الوصية، ومن ثم لما بعثه عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه على عمل. . قدم منه وليس معه شيء، فعاتبته امرأته، فقال لها:(كان لي ضاغط) أي: من يضيِّق عليَّ ويمنعني من أخذ شيءٍ، وأراد ربه عز وجل، فظنت امرأته أن عمر بعث معه رقيبًا، فقامت تشكوه إلى الناس (1).

وهو جامعٌ لسائر أحكام الشريعة؛ إذ هي لا تخرج عن الأمر والنهي، فهو كل الإسلام؛ لأنه متضمنٌ لما تضمنه حديث جبريل من الإسلام والإيمان والإحسان، ولما تضمنه غيره من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام مما سبق ويأتي، على أن فيه

= عنه بعض المتأخرين: ومن ذهَب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو أن الولي أفضل من النبي. . فهو زنديق يجب قتله، والزنديق أكفر من الكافر. اهـ "مدابغي"

(1)

أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(58/ 434) عن سعيد بن المسيب رحمه اللَّه تعالى.

ص: 362

تفصيلًا بديعًا؛ فإنه اشتمل على ثلاثة أحكام، كلٌّ منها جامعٌ في بابه، ومرتبٌ على ما قبله.

أولها: يتعلق بحقوق اللَّه تعالى بالذات، وبغيرها بطريق التبع، وهو التقوى.

وثانيها: يتعلق بحق المكلف كذلك.

وثالثها: يتعلق بحقوق الناس كذلك.

(وفي بعض النسخ) أي: نسخ "الجامع": (حسن صحيح) وهذه العبارة تقع للترمذي في "جامعه" كثيرًا، ولغيره كالبخاري قليلًا، واستشكل الجمع بينهما مع ما بينهما من التضاد:

فإن الصحيح: هو الذي اتصل سنده، بأن يكون كلٌّ من رواته سمع ذلك المروي من شيخه، مع اتصاف كلٍّ منهم بالعدالة، وبالضبط، بأن يكون يقظًا متقنًا، ومع السلامة من الشذوذ، بألَّا يخالف الراوي في روايته مَنْ هو أرجحُ منه عند تعسُّر الجمع بين الروايتين، فمتى أثبت الراوي عن شيخه شيئًا فنفاه مَنْ هو أحفظ أو أكثر عددًا أو أكثر ملازمةً منه. . سُمي مرويُّهُ شاذًا، وفي قبول مثل هذا خلافٌ؛ فالفقهاء والأصوليون يقبلونه ويقولون: المثبِت مقدَّمٌ على النافي، والمحدثون ووافقهم الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه يردونه، ويقولون: الجماعة أولى بالحفظ من الواحد؛ أي: لأن تطرُّق السهو إليه أقرب من تطرُّقه إليهم؛ وحينئذٍ فَرَدُّ قولِ الجماعة بقول الواحد. . بعيدٌ.

ومع السلامة من العلة القادحة (1)؛ كالإرسال الخفي والاضطراب.

والحسن لذاته: يشترط فيه هذه الشروط الخمسة إلا في الشرط الثالث، وهو الضبط، فراوي الصحيح يشترط أن يكون موصوفًا بالضبط الكامل كما تقرر، وراوي الحسن لا يشترط أن يبلغ تلك الدرجة وإن كان ليس عَرِيًّا عن الضبط في الجملة.

وأما مطلق الحسن: فهو الذي اتصل سنده بالصدوق الضابط المتقن غيرَ تامِّهما، أو بالضعيف بما عدا الكذب إذا اعتضد، مع خلو القسمين عن الشذوذ والعلة.

(1) قوله: (ومع السلامة من العلة القادحة) عطفٌ على قوله: (ومع السلامة من الشذوذ).

ص: 363

إذا تقرر ذلك. . ظهر وجه استشكال الجمع، وقد أجاب المحدثون عنه بأجوبةٍ كلها مدخولة، كما هي مبينة في شروح "ألفية الحديث" وغيرها.

وأقومها: أن ما قيل ذلك فيه: إن كان له سندان. . كان وصفه بالحسن من جهة أحدهما، وبالصحة من جهة الآخر، وحينئذٍ فما قيل فيه:(حسن صحيح) أقوى مما قيل فيه: (صحيح) لأن كثرة الطرق تقوِّيه.

وإن كان له إسنادٌ واحدٌ. . كان وصفه بهما من حيث تردد أئمة الحديث في حال ناقله؛ لأن ذلك يحمل المجتهد على أنه لا يصفه بأحد الوصفين، بل يقول: حسن؛ أي: باعتبار وصف ناقله عند قوم، صحيحٌ باعتبار وصفه عند آخرين، وغايته أنه حذف منه حرف التردد؛ لأن حقه أن يقول فيه:(حسن أو صحيح)، وعلى هذا: فما قيل فيه: (حسن صحيح) دون ما قيل فيه: (صحيح) لأن الجزم أقوى من التردد.

وبهذا يعلم أن قول الترمذي كثيرًا: (هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه). . لا ينافي الجواب المذكور، خلافًا لمن زعمه؛ لما علمت أنه إذا قيل ذلك في ذي إسنادٍ واحدٍ. . كان باعتبار اختلاف الأئمة في حال ناقله، أو في ذي إسنادين. . كان باعتبارهما.

وأشار المصنف رحمه اللَّه تعالى بقوله: (وفي بعض النسخ. . . إلخ) إلى أن نسخ "الترمذي" تختلف كثيرًا في التحسين والتصحيح، فقد يوجد عقب حديث في نسخةٍ (حسن) وفي أخرى:(حسن صحيح) وفي أخرى: (حسن غريب) وسبب ذلك: اختلاف الرواة عنه لكتابه والضابطين له.

ثم تحسينه لهذا الحديث مقدَّمٌ على ترجيح الدارقطني إرسالَه (1)؛ للقاعدة المقررة: أن المسنِد لزيادة علمه مقدمٌ على المرسِل.

وأما تصحيحه له في تلك النسخة. . فيوافقه قول الحاكم: (إنه على شرط الشيخين) لكن وُهِم بأن ميمونًا أحدَ رواته لم يخرج له البخاري شيئًا، ولم يصح سماعه من أحدٍ من الصحابة، فلم يوجد فيه شرط البخاري، ويؤيد تحسين الترمذي:

(1) انظر "العلل"(6/ 72).

ص: 364

أنه ورد لهذا الحديث طرقٌ متعددةٌ عند أحمد، والبزار، والطبراني (1)، والحاكم، وابن عبد البر (2)، وغيرهم يفيد مجموعها حسنه (3).

* * *

(1) في بعض النسخ زيادة: (والدارقطني) والحديث ذكره في "العلل" كما تقدم.

(2)

مسند الإمام أحمد (5/ 153)، ومسند البزار (4022)، والمعجم الكبير (20/ 145)، والمستدرك (1/ 54)، والتمهيد (24/ 84).

(3)

والحاصل: أنه من طريق سيدنا أبي ذر رضي الله عنه إسناده صحيح، ومن طريق سيدنا معاذ رضي الله عنه إسناده حسن، ومن طريق سيدنا أنس رضي الله عنه إسناده ضعيف، والمتن صحيح قطعًا، فلا نغترَّ بمن طعن فيه. اهـ "مدابغي"

ص: 365