الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعنى معاداته من أجل ولايته: إيذاء من ظهرت عليه أمارات الولاية من قيامه بحقوق اللَّه تعالى وحقوق عباده؛ إما بإنكارها عنادًا أو حسدًا، أو بعدم الجري على ما ينبغي له من التأدب معه، أو بنحو سبِّه أو شتمه أو نحو ذلك من أنواع الإيذاء التي لا مسوغ لها شرعًا مع علم متعاطيها بذلك، وإذا علم ما في معاداة الولي من عظيم الوعيد والتهديد. . علم ما في موالاته من جسيم الثواب وباهر التوفيق والهداية والقرب والتأييد.
تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]
جميع المعاصي محاربة للَّه عز وجل، ومن ثم قال الحسن:(يا بن آدم؛ هل لك بمحاربة اللَّه من طاقة؛ فإن من عصى اللَّه. . فقد حاربه؟!)(1).
ولكن كلما كان الذنب أقبح. . كان أشد محاربة للَّه تعالى؛ ولهذا سُمي أكَلة الربا وقطَّاع الطريق محاربين للَّه ورسوله؛ لعظم ظلمهم لعباده، وسعيهم بالفساد في بلاده.
(وما تقرب إليَّ عبدي)(2) في الإضافة ما يأتي (بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه) أي: من أدائه عينًا كان أو كفايةً؛ كالصلاة، وأداء الحقوق إلى أربابها، وبر الوالدين، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحِرَف والصنائع، وغير ذلك من سائر المفروضات؛ لأن الأمر بها جازمٌ، فيتضمن أمرين: الثواب على فعلها، والعقاب على تركها، بخلاف النوافل، فلذلك كانت الفرائض أكملَ وأحبَّ إلى اللَّه تعالى وأشدَّ تقريبًا، وروي: أن ثواب الفرض يعدل ثواب النفل بسبعين درجة.
وبالجملة: فالفرض كالأساس، والنفل كالبناء على ذلك الأساس.
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(2/ 134).
(2)
قوله: (وما تقرب إليَّ) بتشديد الياء؛ أي: طلب القرب مني، من (التقرب) وهو طلب القرب من غير تخلل معصية، قال الإمام القشيري رحمه الله: قرب العبد من ربه يقع أولًا بإيمانه، ثم بإحسانه، وقرب الرب من عبده ما يخصه في الدنيا من عرفانه، وفي الآخرة من رضوانه، وفيما بين ذلك من وجود لطف امتنانه، ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده عن الخلق. اهـ "شبرخيتي"(ص 278)
وفي رواية بدل هذا: "ابن آدم؛ لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك"(1)، وفي أخرى زيادة:"وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العبادة فأكفُّه عنه؛ لا يدخله عجبٌ فيفسده"(2).
(ولا يزال عبدي)(3) الإضافة فيه هنا للتشريف المُؤْذِن بمزيد رفعته وتأهيله إلى المقام الآتي.
(يتقرب) وفي رواية: "يتحبب"(4)، وفي أخرى:"يتنفل"(5)(إليَّ بالنوافل) أي: التطوعات من جميع أصناف العبادات؛ ظاهرها: كتلاوة القرآن؛ إذ هو من أعظم ما يتقرب به، ومن ثم روى الترمذي:"ما تقرب العباد إلى اللَّه تعالى بمثل ما خرج منه"(6) يعني: القرآن.
وقال عثمان رضي اللَّه تعالى عنه: (لو طهرت قلوبكم. . ما شبعتم من كلام ربكم)(7).
وقال بعض العارفين لمريد: (أتحفظ القرآن؟ قال: لا، فقال: واغوثاه باللَّه! مريدٌ لا يحفظ القرآن؟! فبم يتنعم؟! فبم يترنم؟! فبم يناجي ربه عز وجل؟!)(8).
وكالذكر (9)؛ أخرج البزار عن معاذ: قلت: أخبرني يا رسول اللَّه بأفضل الأعمال وأقربها إلى اللَّه عز وجل، قال:"أن تموت ولسانك رطبٌ بذكر اللَّه"(10).
وكفى بشرفه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ، وصح: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه
(1) عند الطبراني في "الكبير"(8/ 221) عن سيدنا أبي أمامة رضي الله عنه.
(2)
عند أبي نعيم في "الحلية"(8/ 318) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
في نسخ المتن: (وما زال) وكذا في "صحيح البخاري".
(4)
عند الطبراني في "الكبير"(8/ 221) عن سيدنا أبي أمامة رضي الله عنه.
(5)
عند ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(1)، وأبي نعيم في "الحلية"(8/ 318) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(6)
سنن الترمذي (2911) عن سيدنا أبي أمامة رضي الله عنه.
(7)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(7/ 300).
(8)
ذكره أبو نعيم في "الحلية"(10/ 224).
(9)
معطوف على قوله قبل قليل: (كتلاوة القرآن).
(10)
أخرجه ابن حبان (818)، والطبراني في "الكبير"(20/ 93)، وعزاه الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 77) للبزار بإسناد حسن.
حيث يذكرني" (1)، وفي رواية: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" (2).
وباطنها (3): كالزهد، والورع، والتوكل، والرضا (4)، وغيرها من سائر أحوال العارفين، سيما محبة أولياء اللَّه تعالى وأحبابه فيه، ومعاداة أعدائه فيه.
وأخرج أبو داوود: "إن للَّه تعالى لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من اللَّه تعالى" قالوا: يا رسول اللَّه؛ من هم؟ قال: "هم قومٌ تحابوا بروح اللَّه على غير أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يتعاطَونها، فواللَّه؛ إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم تلا هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (5).
وأخرج أحمد: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب للَّه، ويبغض للَّه، فإذا أحب للَّه، وأبغض للَّه. . فقد استحقَّ الولاية من اللَّه تعالى"(6).
(حتى أحبه) بضم أوله وفتح ثالثه (7)، فعلم أن إدامة النوافل -بعد أداء الفرائض؛ إذ قبل أدائها لا يعتد بالنوافل كما يشير إليه تأخير هذه وتقديم تلك- تفضي إلى محبة اللَّه تعالى للعبد، وصيرورته من جملة أوليائه الذين يحبهم ويحبونه كما هو معلومٌ من الشاهد؛ فإن من داوم خدمة سلطان ومهاداته. . أحبَّه وقرَّبه.
ويؤخذ من سياق الحديث أن الولي إما متقربٌ بالفرائض؛ بألَّا يترك واجبًا ولا يفعل محرمًا، أو بها مع النوافل، وهذا أكمل وأفضل، ولهذا خُصَّ بالمحبة
(1) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه ابن ماجه (3792)، والإمام أحمد (2/ 540) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
قوله: (وباطنها) معطوف على قوله قبل قليل: (ظاهرها كتلاوة القرآن).
(4)
قوله: (كالزهد والورع والتوكل والرضا) قال ملا علي القاري رحمه اللَّه تعالى: ولقد أغرب (حج) -أي: الشارح رحمه اللَّه تعالى- حيث عدَّ التوكل والرضا من التطوعات الباطنة، وغفل عن كلام الأكابر من الأئمة: أنهما من الفرائض العينية المتعينة على كل أحدٍ من سالكي الطريق الأخروية. اهـ "مدابغي"
(5)
سنن أبي داوود (3527) عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(6)
مسند الإمام أحمد (3/ 430) عن سيدنا عمرو بن الجموح رضي الله عنه.
(7)
قوله: (وفتح ثالثه) فيه مسامحةٌ من وجهين: الأول: تعبيره بالفتح مع أن الكلام في الإعراب؛ فالمناسب النصب، والثاني: تعبيره بالثالث مع أن الباء المفتوحة رابعةُ الحروف؛ لأن الحرف المشدد بحرفين. اهـ "مدابغي"
السابقة والصيرورة الآتية، وأنه لا طريق إلى اللَّه تعالى وولايته ومحبته سوى طاعته التي جاء بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما عداها باطلٌ.
ومر في شرح (الحادي والثلاثين) بسط الكلام على معنى محبة اللَّه لخلقه ومحبتهم له (1).
(فإذا أحببته) لتقربه إليَّ بما ذكر حتى امتلأ قلبه من نور معرفتي، وأشرقت عليه أنوار ولايتي (كنت) أي: صرت حينئذٍ (سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش) بفتح أوله وكسر ثالثه أو ضمه (بها) ومنه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .
(ورجله التي يمشي بها) وفي رواية: "وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلَّم به"(2)، وفي أخرى:"ومن أحببته. . كنت له سمعًا وبصرًا، ويدًا ومؤيدًا، دعاني فأجبته، وسألني فأعطيته، ونصح لي فنصحت له، وإن من عبادي مَنْ لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته. . لأفسده ذلك" وذكر مثل ذلك في الفقر والصحة والسقم وقال: "إني أُدبِّر عبادي؛ لعلمي بما في قلوبهم، إني عليمُ خبيرٌ"(3).
ثم قيل: المراد بهذه الصيرورة: لازمها من حفظ هذه المذكورات عن أن تستعمل في معصية، أو المراد بسمعه: مسموعه؛ أي: لا يسمع إلا ذكري، ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي الدالة على وجودي وصفاتي، ولا يبطش ولا يمشي إلا لما فيه رضاي (4).
والتحقيق: أنه مجازٌ وكنايةٌ عن نصرة اللَّه تعالى لعبده المتقرب إليه بما ذكر، وتأييده وإعانته، وتولِّيه في جميع أموره حتى كأنه تعالى نزل نفسه من عبده منزلة الآلات والجوارح التي بها يدرك ويستعين، ولهذا جاء في رواية أخرى: "فبي
(1) انظر ما تقدم (ص 508 - 509).
(2)
أخرجه أبو يعلى (7087) عن أم المؤمنين سيدتنا ميمونة رضي الله عنها بنحوه.
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(1)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 318) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(4)
ذكر العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى تفصيل المراد بسمعه وبصره في "الفتوحات الوهبية"(ص 289).
يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي" (1) أي: أنا الذي أقدرته على هذه الأفعال وخلقتها فيه، فأنا الفاعل لذلك، لا أنه يخلق أفعال نفسه؛ أي: سواء الجزئيات والكليات، خلافًا لما زعمته المعتزلة من خلقه للجزئيات، وهذا الحديث يرد عليهم.
وزَعْمُ الاتحاديةِ والحلولية بقاء هذا الكلام على حقيقته، وأنه تعالى عَيْنُ عبده أو حالٌّ فيه. . ضلالٌ وكفرٌ إجماعًا، فاحذرهم؛ فإنهم ربما لبَّسوا على ضعفاء العقول فاستهووهم وأضلوهم؛ لتَزَيِّيهم بزي الصوفية، والصوفية بريئون منهم، فقاتلهم اللَّه أنى يؤفكون.
نعم؛ ربما ظن مَنْ لا معرفة له باصطلاحهم من بعض عباراتهم ذلك، وهو فهمٌ باطلٌ عليهم، حاشاهم اللَّه تعالى من ذلك، وطهر أسرارهم من أن تزل بها قدم المحبة في سائر المسالك (2).
وحاصل ما تقرر: أن من اجتهد بالتقرب إلى اللَّه تعالى بالفرائض ثم بالنوافل. . قرَّبه اللَّه تعالى إليه ورقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد اللَّه تعالى على الحضور والشوق إليه حتى يصير ما في قلبه من المعرفة مشاهدًا له بعين البصيرة فكأنه يراه، فحينئذٍ يمتلئ قلبه بمعرفته، ومحبته، وعظمته، ومهابته، وإجلاله، والأنس به، ثم لا تزال محبته تتزايد حتى لا يبقى في قلبه غيرها، فلا تستطيع جوارحه أن تعبث إلا بموافقة ما في قلبه (3)، وهذا هو الذي يقال فيه: لا يبقى في قلبه إلا اللَّه تعالى؛ أي: معرفته ومحبته وذكره.
وفي الخبر الإسرائيلي المشهور: "ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن"(4)، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم المدينة فقال:"أحبوا اللَّه من كل قلوبكم" رواه ابن إسحاق.
(1) ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 71) في الأصل الحادي والخمسين، وانظر "فتح الباري"(11/ 344).
(2)
في بعض النسخ: (أن تزل بها قدم المحنة. . .).
(3)
قوله: (أن تعبث) أي تتحرك. وفي نسخ: (تنبعث).
(4)
انظر "فيض القدير"(2/ 496). وقوله: (وفي الخبر الإسرائيلي) قال الشارح في "فتاويه": وهو باطل من وضع الملاحدة -كما قاله الزركشي- وذكرُ الصوفية له يريدون أن قلبه يسع الإيمان به ومحبته وذكره. اهـ "مدابغي".
وعند امتلاء القلب بمعرفته تعالى ينمحي منه كل ما سواه، فلا ينطق إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق. . نطق باللَّه (1)، وإن سمع. . سمع به، وإن نظر. . نظر به، وإن بطش. . بطش به، ومن هنا قال علي كرم اللَّه وجهه:(إنا كنا لنرى أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره بالخطيئة)(2) وهذا هو التوحيد الأكمل؛ إذ مَنْ تحقَّق به. . لم يبقَ فيه محبةٌ لغير اللَّه تعالى بوجهٍ، وفي الحديث:"من أصبح وهمه غير اللَّه. . فليس من اللَّه"! (3) أي: لا حظَّ له في قربه ومحبته ورضاه.
(ولئن سألني. . لأعطينه)(4) كما وقع لكثيرٍ من السلف وغيرهم، وقد استوفى كثيرًا منهم بعضُ الشراح فلا نطيل بذكرهم (5).
(ولئن استعاذني) بالنون أو الباء الموحدة (6)(لأعيذنه) أي: مما يخاف، وهذا حال الحبيب مع محبوبه، وفي روايةٍ زيادة:"وإذا استنصرني. . نصرته"(7)، وفي هذا الوعد المحقق المؤكد بالقسم إيذانٌ بأن من تقرَّب بما مر. . لا يُردُّ دعاؤه، وبأن الكُمَّل يطلب منهم الدعاء كغيرهم، خلافًا لمن زعم أن الأَولى تركه رضًا بما سبق من اختيار الحق، وكفاه ردًا عليه نصوص الكتاب والسنة بطلب الدعاء ومزيد فضله والحث عليه، وهي كثيرةٌ شهيرةٌ، وقد سأل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام العافية والرزق والولد.
ولِمَا فيه من إظهار الذِّلة والافتقار إلى اللَّه تعالى وكونه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا بتركه، وإنما الذي، أمر به الصبر، وهو لا ينافي الدعاء، فقد دعا أيوب -صلى اللَّه على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلَّم- بكشف ضره مع قوله تعالى في حقه:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
(1) أي: بما يرضي اللَّه، ومثله يقال فيما بعده. اهـ هامش (ج).
(2)
أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة"(711)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 110).
(3)
أخرجه الحاكم (4/ 320).
(4)
في نسخ المتن: (وإن سألني. . أعطيته)، وما أُثبت من نسخ الشرح موافقٌ لما في "البخاري" لكن في "البخاري":(وإن).
(5)
انظر "جامع العلوم والحكم"(2/ 348) وما بعدها.
(6)
أي: استعاذ بي.
(7)
عند الطبراني في "الكبير"(8/ 221) عن سيدنا أبي أمامة رضي الله عنه.
وكان كثيرٌ من السلف مجابَ الدعوة، ومع ذلك صبروا على البلاء، منهم سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه، لما عمي. . قيل له: لو دعوت اللَّه تعالى؟ فقال: (قضاء اللَّه تعالى أحبُّ إليَّ من بصري)(1).
وقيل لمن ابتُلي بالجذام وهو يعرف الاسم الأعظم: لو دعوت اللَّه تعالى؟ فقال: هو الذي ابتلاني، وأنا اكره أن أُرادِدَه، وقيل ذلك لإبراهيم التيمي وهو في سجن الحجاج، فقال: أكره أن أدعوه أن يفرج عنِّي ما لي فيه أجر، وصبر سعيد بن جبير على أذى الحجاج حتى قتله، مع أنه كان مجاب الدعوة (2).
وقد لا يُجاب الولي إلى سؤاله؛ لعلم اللَّه تعالى أن الخير له في غيره، مع تعويضه له خيرًا منه؛ إما في الدنيا، أو الآخرة (3)، ومر خبر:"إن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العبادة فأكفه عنه؛ لا يدخله عجبٌ فيفسده"(4).
(رواه البخاري) لكن بزيادة بعد (لأعيذنه): "وما ترددتُ عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا اكره مساءته"(5) والتكلم في بعض رواته غيرُ مقبولٍ، ورُوي من وجوهٍ أُخَر سبقت الإشارة إليها، لكن لا تخلو كلها من مقال.
نعم؛ له طريقٌ إسنادها جيدٌ، لكنه غريبٌ جدًّا، وهي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه تعالى أوحى إليَّ: يا أخا المرسلين، ويا أخا المنذرين؛ أنذر قومك ألَّا يدخلوا بيتًا من بيوتي ولأحدٍ عندهم مظلمة؛ فإني ألعنه ما دام قائمًا بين يديَّ يصلي حتى يؤدي تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي
(1) انظر "جامع العلوم والحكم"(2/ 354).
(2)
قوله: (مع أنه كان مجاب الدعوة) فقد دعا على الحجاج عند قتله بقوله: اللهم، لا تسلطه على أحدٍ غيري، فمات بعد قتله بنحو سبعة عشر يومًا. اهـ "مدابغي".
(3)
قوله: (وقد لا يجاب الولي إلى سؤاله) هذا جواب سؤالٍ مقدر يَرِد على قوله في الحديث الشريف: "ولئن سألني. . لأعطينه" وعبارة غيره: وقد استشكل بأن جماعةً من العبَّاد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا، والجواب: إن الإجابة تتنوع؛ فتارةً يقع المطلوب بعينه، وتارة يقع ولكن يتأخر لحكمة، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب؛ حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة، أو أصلح منها. اهـ "مدابغي"
(4)
تقدم تخريجه (ص 599).
(5)
صحح البخاري (6502) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة" (1).
قال ابن الصلاح: وليس المراد بالتردد هنا حقيقته المعروفة منا، بل أنه يفعل به كفعل المتردد الكاره؛ أي: فهو لمحبته له يكره مساءته بالموت؛ لأنه أعظم آلام الدنيا إلا على قليلين وإن كان لا بد له منه كما في رواية؛ لما سبق من محتوم قضائه وقدره: أن كل نفسٍ ذائقة الموت (2)، وفيه إشعار بأنه لا يفعل به ذلك مريدًا إهانته، بل رفعتَه؛ إذ هو طريقٌ إلى انتقاله إلى دار الكرامة والنعيم.
وهذا الحديث أصلٌ في السلوك إلى اللَّه تعالى والوصول إلى محبته ومعرفته وطريقه؛ إذ المفروضات إما باطنٌ كالإيمان، أو ظاهرٌ كالإسلام، أو مركبٌ منهما وهو الإحسان فيهما كما مر، والإحسان هو المتضمن لمقامات السالكين؛ كالتوكل، والزهد، والإخلاص، والتوبة، والمراقبة، ونحوها، وهو كثيرٌ، فقد جمع هذا الحديث الحقيقة والشريعة.
* * *
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 116) عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
(2)
في (غ): (إذ كل نفسٍ).