الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْحَارِثِ بْنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ تَمْلَآنِ، أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبقُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
(عن أبي مالك الحارث) هذا أحد أقوال عشرة في اسمه (ابن عاصم) وفي نسخة: (عامر) وهما قولان، وفيه أقوال أخر غيرهما (الأشعري رضي الله عنه روى له مسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وكذا البخاري، لكن على الشك (2)، وروى عنه جابر بن عبد اللَّه وغيره.
مات في خلافة عمر رضي اللَّه تعالى عنهم بطعن (3)، هو ومعاذ، وأبو عبيدة، وشُرحبيل في يومٍ واحدٍ.
(قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: الطهور) هو بالفتح للمبالغة كضروب، الأبلغ من ضارب، أو اسم آلةٍ لما يتطهر به كسحور، وبرود، وسنون، لما يتسحَّر به، أو يتبرَّد به، أو يستن به، وبالضم الفعل، كالوَضوء بالفتح للآلة، وبالضم للفعل، والمراد هنا: المضموم؛ إذ لا دخل لغيره في الشطرية الآتية إلا
(1) صحيح مسلم (223).
(2)
حيث قال في الحديث (5590): (حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري. . .).
(3)
أي: بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة. اهـ هامش (غ)
بتكلُّفٍ، وهو -أعني المضموم كالطهارة، مصدران (1) - من (طهَر) بفتح هائه وضمها (يطهُر) بضمها لا غير، لغةً: التنزُّه عن الدنس الحسي والمعنوي، وشرعًا: فعل ما يترتب عليه زوال حدثٍ؛ كالغسلة الأولى في الوضوء والغسل، أو ثواب مجرد؛ كالغسلة الثانية والوضوء والغسل المسنونين.
(شطر) أي: نصف (الإيمان) الكامل بالمعنى الأعم، المتركب من ثلاثة أجزاء: تصديق القلب، وإقرار اللسان، وعمل الأركان، وهو وإن كثرت خصاله وتعدَّدتْ أحكامه لكنها منحصرةٌ فيما ينبغي التنزُّه والتطهر عنه، وهو كل منهيٍّ عنه، وما ينبغي التلبس به، وهو كل مأمورٍ به، فهو شطران، والطهارة بالمعنى اللغوي الذي قررناه شاملةٌ لجميع الشطر الأول، فاتضح كون الطهور المرادف للطهارة شطرَ الإيمان، فهو نظير خبر:"الإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر"(2).
فإن قلت: هذا كله إنما يأتي بالنظر للمضموم كما تقرر، والضم لم يروه أحدٌ، وإنما المروي الفتح كما قاله القرطبي (3)، وهو إما للمبالغة أو الآلة، وعليهما فتشكل الشطرية.
قلت: هذا النفي ممنوعٌ؛ كيف والضم هو المختار وقول الأكثرين كما قاله المصنف رحمه اللَّه تعالى؟! (4) وغاية ما فيه: أنهم جوزوا الفتح، فإما أن يكون المفتوح مصدرًا أيضًا كالمضموم، وهو رأي الخليل، وإما ألَّا يكون بمعناه، وهو الأصح، فيحمل على المضموم ويراد به: استعمالُ الطهور شطر الإيمان، فعلى كلٍّ لا تخالف هنا بين المفتوح والمضموم بالمعنى الذي قررناه.
وأما حمل المصنف الطهور على معناه الشرعي وهو الوضوء. . فنظر فيه من وجهين (5):
(1) قوله: (مصدران) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وهما مصدران. اهـ هامش (ج)
(2)
أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(159)، والخرائطي في "فضيلة الشكر"(18) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
المفهم (1/ 475).
(4)
شرح صحيح مسلم (3/ 100).
(5)
انظر "شرح صحيح مسلم"(3/ 100 - 101).
أحدهما: أنه لا يتضح حينئذٍ معنى الشطرية إلا بادعاء أنه ينتهي تضعيف الأجر فيه إلى نصف الإيمان (1)، وهذا وإن قيل به إلا أنه يحتاج إلى دليل.
ثانيهما: أن الطهور لا ينحصر في الوضوء، بل يعم الغسل والتيمم والطهارة من الخبث، وليس واحدٌ من هذينِ النَّظَرينِ في محله؛ كيف ورواية ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه":"إسباغ الوضوء شطر الإيمان"(2)، ورواية الترمذي:"والوضوء شطر الإيمان"(3)؟ وحينئذٍ فيقال: يحتمل أن معناه: أنه تمام الشطر، لا أنه كل الشطر؛ لما مر.
أو المراد بالوضوء فيه: معناه اللغوي، وهو يرجع لمعنى الطهارة الذي قررناه أولًا، لكن يُعَكِّر عليه رواية:"إسباغ الوضوء" فإنها نصٌّ في أن المراد به: الوضوء الشرعي، فإن حُمل الطهور على الوضوء، والوضوء على معناه الشرعي، والشطر على مطلق الجزء. . اتضح هذا المقام، وزال الإشكال.
واستعمال الشطر في مطلق الجزء تجوزًا أَولى من إخراج الطهور والوضوء عن معناهما الشرعي الذي ذهب إليه الأكثرون، وفهمه منه مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم حيث خرَّجوه في أبواب الوضوء.
فإن قلت: يُعَكِّر على تفسير الشطر بالخُمُس أو الجزء حديثُ أحمد: "والطهور نصف الإيمان"(4).
قلت: النصف يطلق ويراد به أحد قسمي الشيء، فإن كل شيءٍ تحته نوعان، فأحدهما نصفٌ له وإن لم يتحد عددهما، ومنه حديث:"قسمت الصلاة -أي: قراءتها- بيني وبين عبدي نصفين"(5) أي: نصفٌ عبادةٌ إلى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهو حق الرب، ونصفٌ مسألةٌ إلى آخرها، وهو حق العبد، فهما نصفان مع أن أحدهما أزيدُ كلماتٍ من الآخر.
(1) يعني: أن أجر الوضوء يعدل بالتضعيف نصف أجر الإيمان.
(2)
سنن ابن ماجه (280)، وصحيح ابن حبان (844) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(3)
سنن الترمذي (3517) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(4)
مسند الإمام أحمد (4/ 260) عن رجل من بني سليم.
(5)
أخرجه مسلم (395)، وابن خزيمة (502)، وابن حبان (1784) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
ومنه قول العرب: نصف السَّنة حضرٌ، ونصفها سفرٌ؛ أي: تنقسم لزمانين وإن تفاوتت مدتهما.
وقول شريح وقد قيل له: (كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ونصف الناس عليَّ غضبان) يريد أنه بين محكومٍ له راضٍ، ومحكومٍ عليه غضبان، فهما جزآن مختلفان (1).
وقول الشاعر:
إذا مت كان الناسُ نصفين شامتٌ
…
وآخر مُثْنٍ بالذي كنت أفعلُ
أي: ينقسمون قسمين. وخبر: "إنها -أي: الفرائض، وهي قسمة المواريث- نصف العلم"(2) أي: أن أحكام المكلفين نوعان: نوعٌ يتعلق بالحياة، ونوعٌ يتعلق بالموت.
وقول مجاهد: (المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء)(3) أي: أنه نوعان: نوعٌ يطهر بعض الباطن، ونوعٌ يطهر بعض الظاهر، وهو ما عداهما.
فإن قلت: هل يصح أن يراد بالشطر هنا الخمس؛ فإنه صح استعماله له صلى الله عليه وسلم فيه في حديث الإسراء في مراجعته لربه حين فرض الصلاة خمسين (4) وراجعه مرارًا متعددةً بقوله: "فوضع شطرها" ثلاثًا (5)؛ إذ لو كان المراد بالشطر فيه النصف. . لفرغت الخمسون في المرة الثانية، فتعيَّن أن المراد به: الخُمُس، ومن ثَمَّ جاء في رواياتٍ أخر:"فوضع عنِّي عشرًا"(6)؟
قلت: لا مانع من ذلك وإن كان مستغربًا، وعليه فيحتمل أن معناه أنه يثاب عليه كثواب خُمس الإيمان.
(1) ذكر الخبر الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(2/ 9).
(2)
أخرجه الحاكم (4/ 332)، وابن ماجه (2719)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 206) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرج نحوه ابن أبي شيبة (283).
(4)
في (غ): (حين فرضت الصلوات الخمس خمسين).
(5)
أخرجه البخاري (349)، ومسلم (163) عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه.
(6)
عند البخاري (3887) عن سيدنا مالك بن صعصعة رضي الله عنه.
وأما توجيه أن الطهارة الشرعية نصف الإيمان بأنها تكفِّر ما مضى كالإيمان يجبُّ ما قبله. . فمردودٌ بأنها حينئذٍ مثله لا شطره، على أن الصلاة ونحوها كذلك، فلا خصوصية للطهارة.
وقيل: المراد بالإيمان: الصلاة، كما في:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فلافتقارها للطهارة كانت كشطرها، قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:(وهذا أقرب الأقوال)(1) ورُدَّ: بأن شرط الشيء ليس شطره لغةً ولا اصطلاحًا، وفيه نظر؛ لأنه لم يدَّعِ أن الشرط شطرٌ، وإنما قال: كالشطر، وهو وإن لزم عليه أن فيه تجوزًا من قصر الإيمان على الصلاة (2)، وإخراج الشطر عن حقيقته إلى معنى المماثل للشطر. . لا يبعد اختياره؛ لتعذُّر الحقيقة باعتبار القواعد والاستقراء وإن جاز أن يختصَّ الوضوء من بين أمثاله بأن ثوابه نصف ثواب الإيمان؛ إذ للَّه سبحانه وتعالى أسرارٌ في العبادات يعجز عن إدراكها أكثر خلقه، فلو ذهب ذاهبٌ إلى أن الوضوء نصف الإيمان حقيقةً باعتبار الثواب. . لما لزمه شيء.
وقيل: الإيمان شرطٌ باطنٌ لصحتها، والوضوء شرطٌ لها ظاهرٌ، فاقتسامهما إياها بالشرطية كأنه اقتسامٌ لها بالشطرية، ويرد بأنه بهذا التكلُّف شطرٌ لها لا للإيمان، وزعمُ أنها المرادة به يحتاج لدليل؛ لأن قصره عليها تجوَّز يحتاج لقرينةٍ كما قررناه.
(والحمد للَّه) أي: هذا اللفظ وحده، أو هذه الكلمة وحدها، خلافًا لمن زعم أن المراد (الفاتحة).
(تملأ) بالفوقية والتحتية (الميزان) أي: ثواب التلفُّظ بها مع استحضار معناها السابق أولَ الكتاب والإذعان له يملأ كفة الحسنات، التي هي مثل طباق السماوات والأرض، قيل: وسرُّ إملائه لها أن لامه للاستغراق (3)، وجنسُ الحمد الذي يجب للَّه سبحانه وتعالى ويستحقه يملأ الميزان، فكذا ثوابه. اهـ، وفيه نظر، وأيُّ دليل على
(1) شرح صحيح مسلم (3/ 100).
(2)
في (غ): (أن فيه تجوزينِ: قصر الإيمان على. . .).
(3)
الأولى: أن يقول: (وسر مَلْئه، قال في "المصباح" في مادة (ملل): (وملأت الإناء ملأً من باب "نفع" فامتلأ) ولم يذكر (إملاءً) بهذا المعنى. اهـ هامش (غ)
ادعاء أن جنس ذلك الحمد يملأ الميزان عرِيًّا عن النظر لثوابه حتى يكون ثوابه مالئًا لها أيضًا؟!
والأَولى أن يقال في حكمة ذلك: إن حمده سبحانه وتعالى فيه إثبات لسائر صفات كماله، فبسبب ذلك عظم ثوابه عظمةً حتى ملأ الميزان بتقدير تَجَسُّمِه، أو باعتبار صحيفته كما يأتي.
وهو مفعال من الوزن (1)، قلبت واوه ياءً لانكسار ما قبلها؛ كميعاد.
وفيه (2) -كالآيات والأحاديث الشهيرة- إثباتُ الميزان ذي الكفتين واللسان، ووزن الأعمال بها بعد أن تُجَسَّم، كما يؤتى بالموت في صورة كبشٍ يذبح بين الجنة والنار، وكما في حديث:"يأتي القرآن يوم القيامة تقدمه البقرة وآل عمران. . . " الحديث (3).
أو توزن صحائفها فتثقل بالحسنات فضلًا، وتطيش بالسيئات عدلًا منه سبحانه وتعالى، وتكون الحسنات في أحسن صورة، والسيئات في أقبح صورة، والصُّنُج يومئذٍ مثاقيل الذرِّ والخردل (4)؛ تحقيقًا لتمام العدل، والكافر كالمؤمن في ذلك، ومعنى:{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أي: قدرًا، قيل: ولكل إنسانٍ ميزانٌ لظاهر: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
والأصح: أنه ليس إلا ميزانٌ واحدٌ، والجمع إما لتعظيم شأنها وتفخيمه على حد:{رَبِّ ارْجِعُونِ} تحذيرًا من السيئات، وتحريضًا على الحسنات؛ إذ لو لم يسمع العاقل من القرآن إلا آية:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} . . لكان له فيها أبلغ زاجرٍ وواعظٍ؛ لاشتمالها على الوعيد التام لأهل السيئات، والوعد الجميل لأهل الحسنات، أو باعتبار الموزونات أو لكونه ذا أجزاء، على حد: شابت مفارقُه، مع أنه ليس للإنسان إلا مَفْرِقٌ واحد، لكنهم سموا كل محلٍّ من المفرق مفرقًا.
(1) أي: مِوْزان.
(2)
أي: وفي الحديث.
(3)
أخرجه مسلم (805)، والترمذي (2883) بنحوه عن سيدنا النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(4)
الصنج -جمع صنجة-: وهي كفة الميزان.
قيل: والوزن أقسام: وزن الإيمان بجميع السيئات، والكفر بجميع الحسنات؛ ليخلد المؤمن في النعيم، والكافر في الجحيم.
ووزن الأعمال بالمثاقيل؛ لظهور مقادير الجزاء؛ كما دل عليه آخر سورة (إذا زلزلت الأرض).
ووزن مظالم العباد؛ لما صح: أنه يؤخذ للمظلوم من حسنات الظالم بقدر حقه، فإن لم يكن له حسنات. . طرح عليه من سيئاته (1).
وإنكار المعتزلة للميزان وحملها على مجازها من إقامة العدل في الحساب مِنْ تَقوُّلهم على الشريعة، وتصرُّفهم في نصوصها بصرفها عن ظواهرها بمجرد الحَزر والتخمين، على أن حديث: أين نجدك يا رسول اللَّه في القيامة؟ قال: "عند الحوض أو الصراط أو الميزان"(2). . مبطلٌ لتأويلهم، وقاضٍ بتضليلهم، نعوذ باللَّه تعالى من سَفْسافهم وضلالهم، ونسأل اللَّه سبحانه وتعالى السلامة من قبيح أقوالهم.
(وسبحان اللَّه والحمد للَّه تملآن) بالفوقية باعتبار أنهما جملتان، وبالتحتية باعتبار أنهما لفظان (أو) شكٌّ من الراوي (3) (تملأ) بالفوقية -أي: هذه الكلمة، والجمل تسمى كلمة لغةً- وبالتحتية؛ أي: هذا اللفظ (ما بين السماوات والأرض)(4) وذلك لأن العبد إذا حمد مستحضرًا معنى الحمد السابق -وقولُ المصنف: (إنه مشتمل على التفويض إلى اللَّه سبحانه وتعالى (5) أراد به أن ذلك ملزومٌ؛ لما دلت عليه صيغته من عموم الحمد له سبحانه وتعالى على كل حالٍ من السراء والضراء، وهذا هو غاية التفويض-. . امتلأت ميزانه من الحسنات (6)، فإذا أضاف إلى ذلك (سبحان اللَّه) الذي هو تنزيه اللَّه؛ أي: اعتقاد تنزيهه عما لا يليق به من النقائص والأوصاف الخالية
(1) أخرجه مسلم (2581)، وابن حبان (4411)، والترمذي (2418) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الضياء في "المختارة"(2691)، والترمذي (2433) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
قوله: (شك من الراوي) قال التفتازاني: (فائدته: التنبيه على غاية الاحتياط والتحفظ في النقل) اهـ "مدابغي"
(4)
في بعض نسخ المتن: "ما بين السماء والأرض" اهـ هامش (غ)
(5)
انظر "شرح صحيح مسلم"(3/ 101).
(6)
قوله: (امتلأت) جواب (إذا) في قوله قبل قليل: "لأن العبد إذا حمد".
عن الكمال المطلق. . ملأت حسناتُه وثوابُه زيادةً على ذلك ما بين السماوات والأرض؛ إذ الميزان مملوءٌ بثواب التحميد، فهذه الزيادة هي ثواب التسبيح، وثوابُ الحمد من ملئه للميزان باقي بحاله على كلٍّ من اللفظين المشكوك فيهما كما يتضح بما قررته فيهما، المندفع به قول بعضهم: هذا شكٌّ فيما يملأ ما بين السماء والأرض؛ هل هو الكلمتان أو إحداهما؟ ورواية النسائي الآتية أشبه، وهل المراد: أنهما معًا يملآن ما بينهما، أو كلٌّ منهما يملؤه؟ هذا محتملٌ. اهـ
وذكر السماوات والأرض على جهة الإغياء على العادة العربية (1)، والمراد: أن الثواب على ذلك كثيرٌ جدًا بحيث لو جُسِّم. . لملأ ما بين السماوات والأرض، وفي رواية النسائي وابن ماجه:"والتسبيح والتكبير ملء السماوات والأرض"(2)، وفي أخرى ضعيفة:"التسبيح نصف الميزان، والحمد للَّه تملؤه، ولا إله إلا اللَّه ليس لها دون اللَّه حجاب حتى تصل إليه"(3) أي: ليس لقبولها حجابٌ يحجبها عنه، وفي أخرى زيادة:"واللَّه أكبر ملء السماوات والأرض"(4)، وفي أخرى:"الحمد للَّه ملء الميزان، وسبحان اللَّه نصف الميزان، ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر ملء السماوات والأرض وما بينهن"(5)، وفي أخرى:"كلمتان إحداهما من قالها لم يكن لها ناهية دون العرش، والأخرى تملأ ما بين السماء والأرض: لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"(6) فقد تضمنت هذه الأحاديث فضل هذه الكلمات الأربع التي هي أفضل الكلام، وهي: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر.
فأما (الحمد للَّه). . فقد اتفقت الأحديث كلها على أنه يملأ الميزان، فهو أفضل
(1) الإغياء: ذكر الغاية، والمراد: المبالغة لا التحديد.
(2)
سنن النسائي (5/ 5)، وسنن ابن ماجه (280) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(3)
أخرجه الترمذي (3518) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(34/ 345) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(2/ 15) وعزاه لجعفر الفريابي في "كتاب الذكر" من حديث سيدنا علي رضي الله عنه.
(6)
ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(2/ 15) وعزاه للفريابي من حديث سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه.
من التسبيح، وسره: أن في التحميد إثبات سائر صفات الكمال، والتسبيح تنزيهٌ عن سائر النقص، والإثبات أكمل من السلب.
واعلم: أن الميزان أوسع مما بين السماء والأرض، فما يملؤه أكثر مما يملؤهما، ويدل له حديث:"يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيها السماوات والأرض. . لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب؛ لمن يزن هذا؟ فيقول اللَّه تعالى: لمن شئتُ من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك" خرجه الحاكم مرفوعًا وصححه (1)، قيل: والموقوف أشهر (2).
وبه يعلم أن (الحمد للَّه) أكثر ثوابًا من (لا إله إلا اللَّه) لما تقرر أن (الحمد للَّه) يملأ الميزان، وأنه أكثر مما يملأ السماوات والأرض، ومع ذلك لا يملؤه (لا إله إلا اللَّه) إلا مع ضم (اللَّه أكبر) إليها، وقد حكى ابن عبد البر وغيره خلافًا في ذلك (3)، قال النخعي:(كانوا يرون أن "الحمد للَّه" أكثر الكلام تضعيفًا)(4)، والثوري:(ليس يضاعف من الكلام مثل "الحمد للَّه")(5).
وروى أحمد: "إن اللَّه سبحانه وتعالى اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، كان في كل من الثلاثة عشرين حسنة، وحط عشرين سيئة، وفي الحمد للَّه ثلاثين"(6).
وحجة الآخرين: ما في حديث البطاقة المشهور عند أحمد والنسائي والترمذي: "إن لا إله إلا اللَّه لا يعدلها شيء في الميزان"(7) لكن عند أحمد: "ولا يثقل شيء بسم اللَّه الرحمن الرحيم"(8)، وروى أحمد: "لو أن السماوات السبع وعامرهن
(1) المستدرك (4/ 586) عن سيدنا سلمان رضي الله عنه.
(2)
كأن الظاهر: والوقف أشهر. اهـ هامش (غ)
(3)
انظر "التمهيد"(6/ 41 - 44).
(4)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(4083)، وابن أبي الدنيا في "الشكر"(104).
(5)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(7/ 56).
(6)
مسند الإمام أحمد (2/ 310) عن سيدنا أبي سعيد الخدري وسيدنا أبي هريرة رضي الله عنهما.
(7)
مسند الإمام أحمد (2/ 213)، وسنن الترمذي (2639) عن سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(8)
مسند الإمام أحمد (2/ 213). والحاصل: أن الحمد أفضل من التسيح ومن التكبير ومن التهليل، وحديث:"أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه" محمولٌ على من أراد الخروج من الكفر إلى الإسلام بكلمة =
والأرَضين السبع في كفةٍ ولا إله إلا اللَّه في كفةٍ. . مالت بهن" عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (1).
(والصلاة) الجامعة لشروط مصححاتها ومكملاتها (نور) أي: ذات نور، أو مُنوِّرة، أو ذاتها نور، مبالغةً في التشبيه كزيد أسد، ومنه ما روي بإسنادين فيهما نظر:"الصلاة نور المؤمن"(2).
وعلى كلٍّ: فهي تنور وجة صاحبها في الدنيا -كما هو مشاهدٌ، ويؤيده أنه جاء:"من صلى بالليل. . حسن وجهه بالنهار"(3) - وفي قبره، كما قال أبو الدرداء:(صلوا ركعتين في ظُلَم الليل لظلم القبر).
وقلبَه (4)، لأنها تشرق فيه أنوار المعارف، ومكاشفات الحقائق، فيتفرغ فيها من كل شاغل، ويعرض عن كل زائل، ويقبل على اللَّه بكليته حتى يمنّ عليه بشهوده، وغاية قربه ومحبته، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد والنسائي:"وجُعلتْ قرة عيني في الصلاة"(5)، وفي رواية:"الجائع يشبع، والظمآن يروى، وأنا لا أشبع من حب الصلاة"(6).
وأخرج أحمد عن ابن عباسٍ رضي اللَّه تعالى عنهما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه قد حبَّب إليك الصلاة فخذ ما شئت"(7).
= التوحيد، والأول -أعني تفضيل الحمد- لمن استقر الإيمان في قلبه، وأفضل المحامد أن يقال: الحمد للَّه حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده. اهـ "مدابغي"
(1)
أخرج نحوه الإمام أحمد (2/ 170) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، وابن حبان (6218)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(840) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
أخرجه ابن ماجه (4210)، وأبو يعلى (3655)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(144) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
أخرجه ابن ماجه (1333) عن سيدنا جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، والصحيح: أنه من كلام شريك رحمه اللَّه تعالى. انظر "المقاصد الحسنة"(1169)، و"الكامل" لابن عدي (2/ 99)، و"تنزيه الشريعة"(2/ 106)
(4)
قوله: (وقلبه) بالنصب عطفًا على: (وجه صاحبها). اهـ "مدابغي"
(5)
مسند الإمام أحمد (3/ 128)، وسنن النسائي (7/ 61) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(6)
دكره الديلمي في "مسند الفردوس"(2622) عن سيدنا أنس رضي الله عنه بنحوه.
(7)
مسند الإمام أحمد (1/ 245).
وتريحه وتزيح همومه وغمومه (1)، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"يا بلال؛ أقم الصلاة وأرحنا بها" أخرجه أبو داوود (2).
وتكون بين يديه يوم القيامة في تلك الظُّلَم وعلى الصراط؛ ففي "صحيح ابن حبان": أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة فقال: "من حافظ عليها. . كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها. . لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاةٌ"(3).
وأخرج الطبراني بإسنادٍ فيه نظر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى الصلوات الخمس في جماعةٍ. . جاز على الصراط كالبرق اللامع في أول زمرة السابقين، وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر"(4).
واستُفيد من الحديث الأول: أن الصلاة تُسمَّى برهانًا أيضًا، ومنه خبر أحمد والترمذي:"الصلاة برهان"(5) وسيأتي معناه قريبا.
وغرَّةَ وجهه يومئذ (6)؛ لخبر: "أمتي يوم القيامة غُرٌّ من السجود"(7).
وتمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتَهدي إلى الصواب، كما أن النور يستضاء به، ويكون أجرها نورًا، وتشفع لصاحبها يوم القيامة؛ لما أخرجه الطبراني مرفوعًا:"إذا حافظ العبد على صلاته فأقام وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها. . قالت له: حفظك اللَّه كما حفظتني، فيُصْعَد بها إلى السماء ولها نورٌ حتى تنتهي إلى اللَّه عز وجل -أي: إلى محل قربه ورضاه- فتشفع لصاحبها"(8).
(1) أي: تريح القلب وتزيح همومه وغمومه.
(2)
سنن أبي داوود (4985) عن سالم بن أبي الجعد رحمه اللَّه تعالى عن رجل من خزاعة.
(3)
صحيح ابن حبان (1467) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.
(4)
المعجم الأوسط (6637) عن سيدنا أبي هريرة وسيدنا ابن عباس رضي الله عنهم.
(5)
مسند الإمام أحمد (5/ 344) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، وسنن الترمذي (614) عن سيدنا كعب بن عجرة رضي الله عنه.
(6)
أي: وتكون الصلاة غرة وجهه.
(7)
أخرجه الترمذي (607)، والإمام أحمد (4/ 189) عن سيدنا عبد اللَّه بن بُسْر رضي الله عنه.
(8)
المعجم الأوسط (3119) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(والصدقة) أي: الزكاة كما في رواية ابن حبان (1)، ويصح بقاؤها على عمومها حتى تشمل سائر القُرَب المالية واجبها ومندوبها.
(برهانٌ) هو لغةً: الشعاع الذي يلي وجه الشمس، ومنه خبر:"إن روح المؤمن تخرج من جسده ولها برهانٌ كبرهان الشمس"(2) ومنه سُميت الحجَّةُ القاطعة برهانًا؛ لوضوح دلالتها.
واصطلاحًا: الدليل والمرشد، فهي يُفزَع إليها كما يُفزَع إلى البراهين؛ لأنه إذا سُئل يوم القيامة عن مصرف ماله فأجاب بـ (تصدقتُ). . كانت صدقاته براهين على صدق جوابه.
ويجوز أن يوسم المتصدق بسيما يُعرف بها، فتكون برهانًا له على حاله، ولا يسأل عن مصرف ماله، أو هي حجةٌ ودليل على إيمان المتصدِّق؛ لأن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدَّق. . استُدِل بصدقته على صدق إيمانه، وعلى صحَّة محبته لمولاه، ولِمَا لديه من الثواب لبذله محبوبَهُ بالجِبلَّة والطبع رجاءَ ثوابه، فلولا صحة إيمانه. . لما بذل عاجلًا لآجلٍ، ومن ثَمَّ مدحه اللَّه تعالى بقوله:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} ، وقيل: الضمير للَّه.
والأحاديث في فضل الصدقة أكثر من أن تحصر، وقد استوفيتُ منها جملةً مستكثرةً في كتابي الذي قدمت ذكره في (الخامس عشر)(3) وفيها أيضًا آياتٌ كثيرةٌ، نحو آية:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ، {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} ، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} .
(1) صحيح ابن حبان (844) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الحافظ أبو طاهر السلفي رحمه اللَّه تعالى في "معجم السفر"(333) عن سيدنا أنس رضي الله عنه؛ لكن بلفظ: "إن ذاكر اللَّه يجيء يوم القيامة وله نور كنور الشمس، أو برهان كبرهان الشمس"، وذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(2/ 23) من حديث سيدنا أبي موسى رضي الله عنه بلفظه.
(3)
هو كتاب "حقائق الإنافة في الصدقة والضيافة"، انظر فيه (ص 72 - 98).
(والصبر) وهو لغة: الحبس، ومنه: قَتْلُ الصبرِ، وشرعًا: حبس النفس على العبادات ومشاقِّها والمصائب وحرارتها، وعن المنهيات والشهوات ولذاتها، وأفضل أنواعه الأخير (1)، فالأول؛ لخبر ابن أبي الدنيا وابن جرير، لكن بإسنادٍ ضعيفٍ:"إن الصبر على المصيبة يكتب به للعبد ثلاث مئة درجة، وإن الصبر على الطاعة يكتب به للعبد ست مئة درجة، وإن الصبر عن المعاصي يكتب له به تسع مئة درجة"(2).
(ضياء) فيه ما في (نور)(3) ومنه: أن معنى كونه ضياء: أن صاحبه لا يزال مستضيئًا بنور الحق على سلوك سبيل الهداية والتوفيق، مستمرًا في مضايق اضطراب الآراء على تحري الصواب؛ لما عنده من ضياء المعارف والتحقيق، أو أنه يضيء طرق الأعمال، وعواقب ما يترتَّب عليها من الأحوال، فيكون على غايةٍ من الاستقامة والسداد، ونهايةٍ من الخلوص من الشوائب والاستعداد، فيظفر بمطلوبه، ويحصل من محبة اللَّه وقربه وجوده ولطفه على مرغوبه؛ كما قيل:[من البسيط]
وقلَّ مَنْ جدَّ في أمرٍ يطالبه
…
واستعمل الصبرَ إلا فاز بالظَّفرِ
وللعارفين فيه عباراتٌ مآلها إلى معنًى واحد؛ نحو: الثبات على الكتاب والسنة، والوقوف مع البلاء بحسن الأدب، ألَّا يعترض على المقدور، فلا ينافيه إظهار البلاء لا على وجه الشكوى؛ قال اللَّه تعالى في أيوب صلَّى اللَّه على نبينا وعليه وسلَّم:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} مع أنه قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} .
فإن قلتَ: ما حكمة جعل الصلاةِ نورًا، والصبرِ ضياءً؟ وهلَّا انعكس الأمر؛ فإن الضياء أعلى من النور كما يدل عليه قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} مع ما هو مقررٌ: أن نوره مستمدٌّ من نورها، فلكونها أنورَ منه كما هو مشاهدٌ جُعلت ضياءً، ولكونه دونها جُعل نورًا، ولا شك أن الصلاة أفضل من الصبر؟
قلت: حكمة ذلك -واللَّه أعلم-: أن الصبر هو الأساس المبني عليه سائر
(1) وهو الصبر عن المنهيات.
(2)
أخرج نحوه ابن أبي الدنيا في "الصبر"(24) عن سيدنا علي رضي الله عنه.
(3)
أي: الأوجه الثلاثة في نحو: زيد عدل.
الأعمال؛ إذ لولا وجوده. . لم يكن صلاة ولا غيرها، فلكونه أصلها كغيرها ناسب أن يجعل ضياء، وهي نورًا نظيرَ ما تقرر في الشمس والقمر.
وبهذا يُعلم أن كونها أفضلَ منه قابلٌ للمنع، ولا ينافيه قولهم: أفضل عبادات البدن الصلاة؛ لأن الصبر ليس من العبادات البدنية، وإنما هو من العبادات القلبية، وهي بأسرها أفضل من العبادات البدنية، كما هو ظاهر؛ لأنها بالنسبة إليها كالأصل بالنسبة للفرع.
وبما قررته سؤالًا وجوابًا يندفع القول بأنه لا فرق بين الضياء والنور.
وأيضًا (1): فالضوء فيه إحراقٌ، بخلاف النور؛ فإنه محض إشراق، كما هو مشاهَدٌ من ضوء الشمس، ونور القمر، ومن هنا وصف تعالى شريعة موسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء وسلم بأنها ضياءٌ بقوله عزَّ قائلًا:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} وإن كان قد وصف التوراة بأنها نورٌ في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} لكن الغالب على شريعتهم الضياء؛ لما فيها من عظيم الآصار والأغلال والأثقال، ووصف شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بأنها نورٌ فقط بقوله عزَّ قائلًا:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} لخلوها عن تلك المشاق، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} .
فلِمَا كان في الصبر من المشاقِّ العظيمة المحرقة للنفوس وشهواتها ومراداتها كما علم مما قدمته فيه (2). . اختصَّ بكونه ضياءً، ولِمَا كان في الصلاة من مزيد الراحة وتوالي أنواع المعارف التي لا لذَّة وراءها، بل هي اللذة بالحقيقة كما آنفًا في تقرير
(1) أي: وحكمة أخرى اقتضت تخصيص الصبر بالضياء، والصلاة بالنور هي. . . إلخ. اهـ هامش (ج)
(2)
قوله: (فلما كان في الصبر) الظاهر: قراءة (فلما) بكسر اللام وتخفيف الميم على أنه جارٌّ ومجرور، و (ما) اسم موصول، صلته: جملة (كان) والعائد فاعل (كان) وهي تامة بمعنى (وجد) و (في الصبر) متعلق بها، وقوله:(من المشاق) بيان لـ (ما) وهو علةٌ قُدِّمت على المعلول؛ الذي هو قوله: (اختص. . . إلخ) والمعنى: فاختص الصبر بكونه ضياءً للشيء الذي وجد فيه؛ وهو المشاق العظيمة المحرقة للنفوس، ومئله قوله:(ولما كان في الصلاة. . . إلخ). وأما قراءة (لما) بفتح اللام وتشديد الميم فيلزم عليه دعوى زيادة (من) في قوله: (من المشاق) وقوله: (من مزيد. . . إلخ) وهو بعيد، فتأمل. اهـ "مدابغي"
كونها نورًا. . اختصت باسم النور الذي هو محض إشراقٍ ولذةٍ، وبهذا يسقط الإشكال من أصله، ويندفع القول بأن المراد بالصبر الصوم، على أنه لا يحتاج لادِّعاء أن المراد ذلك؛ لأنه مصرحٌ به في رواية، بل وقع في بعض نسخ "صحيح مسلم" التعبير به بدل "الصبر" لكن عليها يشكل التعبير فيه بالضياء، وفي الصلاة بالنور.
وقد يجاب بأن الصوم فيه نحو ما مر في الصبر من محق الشهوات وإحراقها؛ إذ هو مشتملٌ على أنواع الصبر الثلاثة السابقة؛ لأنه صبرٌ على طاعة اللَّه تعالى وعن معاصيه؛ إذ العبد يترك شهوته للَّه تعالى، ونفسه تنازعه عليها، ومن ثم جاء في الحديث الصحيح القدسي:"كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به؛ إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"(1) وصبرٌ على ألم الجوع والعطش؛ ولذلك (كان صلى الله عليه وسلم يسمي شهر الصيام شهر الصبر)(2).
وفي رواية أحمد والترمذي في هذا الحديث: "والصوم نصف الصبر"(3) أي: معظمه، وقيل: يأتي فيه ما في: "الطهور نصف الإيمان" فلذلك كلِّه ناسبه التعبير عنه بـ (الضياء) الذي هو محرقٌ؛ بخلاف الصلاة كما تقرر، وبأنه لمَّا امتاز عليها بإضافته إلى اللَّه تعالى دون غيره من العبادات، وبتوليه تعالى الجزاء عليه المشعر ببلوغه من العظمة والكمال نهايتهما (4). . فلا بدع أن يتميز عليها بكونه أضوأ منها وأنور.
وأيضًا: ففيه من تصفية النفس وتطهيرها من الكدورات المانعة لها عن مطالعة الغيوب ما ليس في الصلاة؛ فبهذا الاعتبار كان أضوأ منها وأنور، فاتضحت حكمة التغاير بينهما، وإيثاره عليها بكونه ضياء.
ثم رأيت بعض الشارحين صرح بكثيرٍ مما ذكر وزيادة، مع أنه فاته محاسن ممَّا مر، فقال ما حاصله: (فإن قلت: لِمَ جعل الصبر ضياء والصلاة نورًا؟ وهل بينهما
(1) أخرج البخاري (7492)، ومسلم (1151) نحوه عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
كما في حديث النسائي (4/ 218) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
مسند الإمام أحمد (4/ 260)، وسنن الترمذي (3519) عن رجل من بني سليم.
(4)
الظاهر: أن جواب (لما) محذوف، تقديره: كان أحق بهذا الوصف، وحينئذٍ يكون قوله:(فلا بدع) تفريعًا على الجواب، فتامل. اهـ هامش (ج)
فرق؟ قلت: الفرق: ما قيل: إن الضياء أعظم وأبلغ من النور؛ بدليل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} وهي أعم وأعظم نورًا منه، ولذلك قال اللَّه تعالى:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: بضيائهم؛ لأن نفي الأعم أبلغ، وأورد عليه:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولم يقل: ضوؤها ولا ضياؤها، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ولم يقل: بضيائه.
وأجيب عن الأول بأن المعنى: اللَّه منوِّر السماوات والأرض، ولم يقل: مضيء؛ لأن النور أعم؛ لأنه ليلًا ونهارًا، والضوء ليس إلا نهارًا بالشمس، وأيضًا: المراد بنورهما: هداية أهلهما، والعادة لغةً وعرفًا أن يقال: نور الهداية لا ضوؤها، ومنه:{وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، {ومَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
وعن الثاني بأن الضوء كالوصف الزائد على النور، والمحتاج إليه هو النور الناقص المخلوق، وأما نور اللَّه سبحانه وتعالى. . فهو قديمٌ كاملٌ لذاته، منزَّهٌ عن الجسمية والعَرَضية، لا يحتاج إلى معنًى زائدٍ يضيء به.
ويحتمل أن المعنى: وأشرقت بنور ملائكته، أو عَدْلِ ربها؛ إذ لو أشرق عليها ما أشرق على جبل الطور لمَّا تجلى له. . لتصدَّعت وتشقَّقت واندكَّت كما اندكَّ الجبل، ولا يلزم من نور الملائكة والعَدْل الضوءُ.
وإنما جعل الصبر ضياءً، وهي نورًا؛ لأنه أخص منها لاشتماله عليها وعلى غيرها من الطاعات، أو تعلقه بذلك؛ إذ هو حبس النفس على الطاعة وعن المعصية، فكان الضياء الأخص من النور أَولى به؛ ولأنه تعالى قال:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} والتقديم للأهم فالأهم، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} ولم يقل: لما صلوا، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما أُعطي أحدٌ خيرًا من الصبر، وأوسع عطاء من الصبر"(1)، وقال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ولم يرد ذلك لغيره) اهـ
(1) أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(والقرآن) مر الكلام على اشتقاقه في الخطبة (1)؛ وهو هنا: اللفظ المنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم للإعجاز بأقصر سورةٍ منه.
(حجةٌ لك) في تلك المواقف التي تُسأَل فيها عنه، كالقبر، وعند الميزان، وفي عقبات الصراط، إن امتثلت جميع أوامره، واهتديت بأنواره، وتحلَّيتَ بما فيه من معالي الأخلاق، وشرائف الأحوال.
(أو) حجةٌ (عليك) في تلك المواقف، إن خضت غمرة شيءٍ من نواهيه، أو أعرضت عن القيام بما لَهُ من واجب الحقوق، كما أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث:"القرآن شافعٌ مُشفَّعٌ، وماحِلٌ مصدَّق (2)، من قدَّمه أمامه. . قادَهُ إلى الجنة، ومن جعله وراءه. . دفع في قفاه إلى النار"(3).
وقيل: لك أو عليك في المباحث الشرعية، والوقائع الحكمية؛ لأنه المرجع عند التنازع وهذا مقتبسٌ من قوله تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ومن ثم قال بعض السلف: ما جالس أحدٌ القرآنَ فقام عنه سالمًا، بل إما أن يربح، وإما أن يخسر، ثم تلا هذه الآية.
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يمثل القرآن يوم القيامة رجلًا، فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيمثل له خصمًا، فيقول: يا رب؛ قد حمَّلته إياي، فبئس حاملٌ تعدَّى حدودي، وضيَّع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحُجَج حتى يقال له: شأنك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، قال: ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله، فيمثل له خصمًا دونه، فيقول: يا رب؛ حمَّلته إياي، فخير حاملٍ، حفظ حدودي، وعمل فرائضي، واجتنب معصيتي، واتبع طاعتي، فما
(1) انظر ذلك (ص 89).
(2)
الماحل: الخصم والمجادل، وكان القرآن يكيد من اتخذه وراء ظهره.
(3)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(1855) عن سيدنا جابر رضي الله عنه، والطبراني في "الكبير" (10/ 198) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه. وفي هامش (1):(بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرفة، ثم بلغ كذلك).
يزال يقذف له بالحُجج حتى يقال له: شأنك به فيأخذ بيده، فما يرسله حتى يلبسه حُلَّة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر" (1).
(كل الناس يغدو) أي: يصبح ويبكر ساعيًا في تحصيل أغراضه، مسرعًا في طلب نيل مقاصده.
(فبائع نفسه)(2) من اللَّه عز وجل، ببذلها فيما يُخَلِّصها من سخطه وأليم عقابه، متوجهًا بقلبه وقالبه إلى الآخرة وأعمالها، مع الإعراض عن زخارف الدنيا وزينتها، ومتقيدًا بآداب الشرع قولًا وفعلًا، وامتثالًا واجتنابًا.
(فمعتقها)(3) من رِقِّ الخطايا والمخالفات، ومن سخط اللَّه وأليم عقابه، كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} . . . إلى أن قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} ، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
وفي حديث "الصحيحين" المشهور: لما نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: "يا معشر قريش؛ اشتروا أنفسكم من اللَّه، لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا" ثم قال مثل ذلك لبني عبد المطلب، وبني عبد مناف، ولعمته، وبنته، وغيرهم (4).
وأخرج الطبراني والخرائطي: "من قال إذا أصبح: سبحان اللَّه وبحمده ألف مرة. . فقد اشترى نفسه من اللَّه، وكان من آخر يومه عتيقًا من النار"(5)، فاعجب من بيعٍ آيلٍ إلى عتقٍ وسيادة، ومتكفلٍ بالفوز بالحسنى وزيادة!!
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(30667).
(2)
قوله: (فبائع نفسه) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو باثع نفسه، والمبتدأ يكثر حذفه بعد فاء الجزاء. اهـ "الفتوحات الوهبية على الأربعين"(ص 208)
(3)
خبر آخر، أو بدل من قوله:(فبائع نفسه).
(4)
صحيح البخاري (2753)، وصحيح مسلم (206) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
ذكره الهيثمي في "المجمع"(10/ 116) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما وعزاه للطبراني في "الأوسط".
(أو) بائع نفسه من الشيطان، ببذلها فيما يرديها ويغويها، من مذموم أغراضه، وإيثار شهواته، فييو حينئذٍ (موبقها) أي: مهلكها بما أوقعها فيه من أليم العذاب، وكشف الحجاب (1).
(رواه مسلم) وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام؛ لاشتماله على مهماتٍ من قواعد الدين، بل على نصف الدين باعتبار ما قررناه في شطر الإيمان، بل على الدين جميعه باعتبار ما قررناه في الصبر، وفي (معتقها) و (موبقها).
وفي رواية للترمذي: "التسبيح نصف الميزان، والحمد للَّه تملؤه، والتكبير بملأ ما بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر"(2)، وفي رواية للبيهقي:"وسبحان اللَّه واللَّه أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جُنَّة، والصلاة نور"(3) ولا تعارض بين رواية مسلم السابقة ورواية الترمذي هذه؛ لأن كون التسبيح نصفَ الميزان و (الحمد للَّه) تملؤه باعتبار انفراد كل لا ينافي أنهما إذا اجتمعا. . ملآ ما بين السماوات والأرض زيادةً على ذلك.
ولا بينها وبين رواية البيهقي؛ لأنها أفادت أن (اللَّه اكبر) يقوم مقام الحمد في أنها إذا اجتمعت مع التسبيح. . ملآ ما بين السماوات والأرض، لكن بين رواية الترمذي والبيهقي نوعُ تنافٍ؛ لأن الأُولى أفادت أن التكبير وحده يملأ ما بين السماوات والأرض، والثانية أفادت أنه لا يملأ ذلك إلا مع ضمِّ التسبيح إليه.
وقد يجاب بأن ذلك يختلف باختلاف العاملين، أو أُخبر صلى الله عليه وسلم بالثاني، فأَخبر به، ثم أُخبر بزيادة تفضُّلٍ من اللَّه تعالى في ثواب التكبير، فأَخبر به نظيرَ ما قالوه في خبر:"صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذِّ بخمس وعشرين درجة"(4)، وخبر:"بسبع وعشرين درجة"(5) وقس بهذا ما يرد عليك من نظائره.
* * *
(1) في بعض النسخ: (وكثيف الحجاب).
(2)
تقدم تخريجه قريبًا (ص 407).
(3)
سنن البيهقي الكبرى (1/ 42) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (646) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومسلم (649/ 247) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. وفي النسخ كلها إلا (ب)؛ (تعدل) والمثبت منها ومن "صحيح البخاري".
(5)
أخرجه البخاري (643)، ومسلم (650) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.