الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِي؛ قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ:"لَا تَغْضَبْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1).
(عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا) يحتمل أنه أبو الدرداء؛ فقد أخرج الطبراني عنه: قلت: يا رسول اللَّه؛ دُلَّني على عملٍ يدخلني الجنة، قال:"لا تغضب ولك الجنة"(2)، أو جاريةُ بنُ قدامةَ عم الأحنف بن قيس؛ فقد أخرج أحمد عنه أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه؛ قل لي قولًا وأَقْلِلْ عليَّ لعلِّي أعقله، قال:"لا تغضب" فأعدت عليه مرارًا كلَّ ذلك يقول: "لا تغضب"(3) لكن نازع في هذا يحيى القطان بأنهم يقولون: إن جارية تابعيٌّ لا صحابي.
(قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب) يحتمل أنه أراد أمره بالأسباب التي توجب حُسْن الخلق: من الكرم، والسخاء، والحلم، والحياء، والتواضع، والاحتمال، وكف الأذى، والصفح، والعفو، وكظم الغيظ، والطلاقة، والبشر، وسائر الأخلاق الحسنة الجميلة؛ فإن النفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة. . اندفع عنها الغضب عند حصول أسبابه.
(1) صحيح البخاري (6116).
(2)
المعجم الأوسط (2374) عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه.
(3)
انظر "مسند الإمام أحمد"(3/ 484)، و"طبقات ابن سعد"(7/ 56)، وفيه:"أن رجلًا قال له: يا رسول اللَّه؛ قل لي قولًا. . . ".
أو أنه أراد: لا يعمل بمقتضى الغضب إذا حصل، بل يجاهد نفسه على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به؛ فإنه إذا ملك الإنسان. . كان في أسره وتحت أمره، ومن ثَمَّ قال تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} فمن لم يمتثل ما يأمره به غضبه وجاهد نفسه على ذلك. . اندفع عنه شر غضبه، وربما سكن وذهب عاجلًا، فكأنه لم يغضب، وإلى هذا الإشارةُ بقوله تعالى:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} الآيةَ.
وأخرج الشيخان: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(1)، ومسلم:"ما تعدون الصُّرَعة فيكم؟ " قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال:"ليس ذاك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"(2).
(فردَّد) السائل عليه (مرارًا) يقول: أوصني يا رسول اللَّه؛ وكأنه لم يقنع بقوله: "لا تغضب" فطلب وصيةً أبلغ منها وأنفع، فلم يزده صلى الله عليه وسلم عليها، وأعادها له حيث (قال) له ثانيًا وثالثًا:(لا تغضب) تنبيهًا له بتكرارها على عظيم نفعها وعمومه، فهو كما قال له العباس رضي اللَّه تعالى عنه: علِّمني دعاءً أدعو به يا رسول اللَّه، فقال:"سل اللَّه العافية" فعاوده مرارًا، فقال له:"يا عباس، يا عم رسول اللَّه؛ سل العافية في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أُعطيت العافية. . أُعطيت كل خير"(3).
قيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم من هذا الرجل كثرة الغضب فخصَّه بهذه الوصية، وفي بعض طرق الحديث: ما يبعدني من غضب اللَّه؟ قال: "لا
(1) صحيح البخاري (6114)، وصحيح مسلم (2609) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: (ليس الشديد بالصُّرَعة) بضم الصاد المهملة وفتح الراء: الذي يصرع الناس كثيرًا بقوَّته -كما في الحديث الثاني- والهاء للمبالغة في الصفة؛ والصُّرْعة -بضم الصاد المهملة وسكون الراء- بالعكس وهو من يصرعه غيره كثيرًا. اهـ "مدابغي"
(2)
صحيح مسلم (2608) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
أخرج نحوه الترمذي (3514)، والإمام أحمد (1/ 209) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، وليس عندهما هنا قوله:"فإنك إذا أعطيت العافية. . . "، وهي عند الترمذي (3512) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الدعاء أفضل. . . إلخ.
تغضب" (1)، وفي طريق أخرى: أن رجلًا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أوصني ولا تكثر عليَّ، أو قال: مُرْني بأمرٍ وأقلله عليَّ كي أعقله، قال: "لا تغضب" (2)، وفي أخرى: علِّمْني شيئًا أعيش به في الناس ولا تكثر عليَّ، قال: "لا تغضب"، وفي أخرى: قلت: يا رسول اللَّه؛ أوصني، قال: "لا تغضب" ففكرتُ حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشرَّ كله (3).
ومن ثَمَّ قال جعفر بن محمد رضي اللَّه تعالى عنهما: (الغضب مفتاح كل شر).
وقيل لابن المبارك: (اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب)(4).
وأخرج محمد بن نصر المروزي: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَل وجهه، فقال: يا رسول اللَّه؛ أيُّ العمل أفضل؟ قال: "حسن الخلق" ثم أتاه عن يمينه وقال له ذلك، فقال كذلك، ثم عن شماله كذلك، ثم عن خلفه، فالتفت إليه فقال:"ما لك لا تفقه؟! حُسْنُ الخلق هو ألَّا تغضب إن استطعت"(5) وهو مرسل.
(رواه البخاري) وهذا من بدائع جوامع كلمه التي خُصَّ بها صلى الله عليه وسلم، وأما ما روي: أن رجلًا قال لسليمان صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم: أوصني، قال:(لا تغضب) قال: لا أقدر، قال:(فإن غضبت. . فأمسك لسانك ويدك)، وأنَّ يحيى قال لعيسى عليهما الصلاة والسلام:(أوصني، قال: لا تغضب، قال: لا أستطيع، قال: لا تقتني مالًا، قال: حسبي). . فلم يصح.
فثبت أنه لا مشارك لنبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الكلمة المتضمنة لمجامع الخير، والمانعة عن قبائح الشر؛ فإن الغضبَ -وهو غليان دم القلب طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو للانتقام ممن حصل منه الأذى بعد وقوعه- لا يحصى ما يترتب عليه من المفاسد الدنيوية والأخروية؛ لأن اللَّه تعالى خلقه من نار، وعجنه
(1) أخرجه البيهقي في "الشعب"(7929) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 362) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 105)، والإمام أحمد (5/ 373)، ومعمر بن راشد في "الجامع"(20286) عن حميد بن عبد الرحمن رحمه الله عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم.
(4)
ذكر الأثرين الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(1/ 363).
(5)
انظر "تعظيم قدر الصلاة"(878) عن أبي العلاء بن الشخير رحمه اللَّه تعالى.
بطينة الإنسان، فمهما نوزع في غرضٍ من أغراضه. . اشتعلت نار الغضب فيه، وفارت فورانًا يغلي منه دم القلب، وينتشر في العروق، فيرتفع إلى أعالي البدن ارتفاع الماء في القِدْر، ثم ينصبُّ في الوجه والعينين حتى يحمرَّا منه؛ إذ البشرة لصفائها كالزجاجة تحكي ما وراءها.
هذا إذا غضب على مَنْ دونه، واستشعر القدرة عليه، فإن كان ممن فوقه، وأيس من الانتقام منه. . انقبض الدم إلى جوف القلب، وكمن فيه، وصار حزنًا، فاصفرَّ اللون، أو من مساويه، الذي يشك في القدرة عليه؛ يتردَّد الدم بين انبساطٍ وانقباض، فيصير لونه بين حمرةٍ وصفرةٍ، فالغضب فوران الدم وغليانه كما مر.
وقيل: عَرَض يتبعه غليان دم القلب لإرادة الانتقام، ويؤيد الأول حديث أحمد والترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: " أَلَا إنَّ الغضب جمرةٌ تتوقَّدُ في قلب ابن آدم، أما ترون إلى انتفاخ أوداجه، واحمرار عينيه، فمن أحسَّ من ذلك شيئًا. . فليلزق بالأرض"(1).
وفي رواية: "فإذا أحسَّ أحدكم من ذلك شيئًا. . فليجلس ولا يعدو به الغضب"(2) أي: فليحبسه في نفسه ولا يُعَدِّيه إلى غيره بإيذائه (3)، والانتقام منه، ولاستحالة هذا المعنى في حقه تعالى كان المراد بالغضب في حقه تعالى إرادة الانتقام، فيكون صفة ذات، أو الانتقام نفسه، فيكون صفة فعل.
ومما يترتب على الغضب في حقنا من المفاسد تغيرُ ظاهر البدن بتغير لونه كما قررناه (4)، وشدة رِعْدة أطرافه، وخروج أفعاله عن حيز الاعتدال، واضطراب حركته وكلامه حتى تزبد أشداقه، وتنقلب مناخره، وتحمر أحداقه، وتستحيل خِلقته، حتى
(1) مسند الإمام أحمد (3/ 19)، وسنن الترمذي (2191) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
والأوداج: جمع ودج، وهو: عِرق العنق.
(2)
انظر "جامع العلوم والحكم"(1/ 365).
(3)
في بعض النسخ: (ولا يعدو به)، وفي أخرى:(ولا يعدُ به).
(4)
قوله: (تغير ظاهر البدن. . . إلخ) حاصل ما ذكره أربعة أشاء: تغير ظاهر البدن، وتغير اللسان، وتغير الجوارح، وتغير القلب، فقوله الآتي:(واللسانِ، والجوارحِ، والقلبِ) عطف على قوله: (ظاهر البدن) اهـ "مدابغي".
لو رأى نفسه. . لسكن غضبه حياءً من قبح صورته، ولو كُشِف له عن باطنه. . لرآه أقبح من ظاهره؛ فإنه عنوانه الناشئ عنه.
واللسانِ بانطلاقه الناشئ عنه مع تخبط النظم، واضطراب اللفظ بالشتم والفحش وقبائح الكلمات التي يستحيي منها ذوو العقول والمروءات، حتى الغضبان إذا فتر غضبه.
والجوارحِ بالبطش بها ضربًا وغيره إن تمكَّن من المغضوب عليه، وإلَّا. . رجع غضبه عليه، فيمزق ثوبه، ويلطم وجهه، وقد يضرب يده بالأرض، وما عنده من الصغار والدواب، ويعدو عَدْوَ الواله السكران، أو المجنون الحيران، وربما قويت عليه نار الغضب، فأطفأت بعض حرارته الغريزية، فيغشى عليه، أو أعدمتها، فيموت لوقته.
والقلبِ بإكمان الحسد والحقد، وإضمار السوء والشماتة، وإفشاء السر، وهتك الستر، والاستهزاء، وغير ذلك من القبائح، وذلك كله حرامٌ يستوجب عليه عظيم العقوبة، وأليم العذاب.
فانظر كم تحت هذه اللفظة النبوية وهي: "لا تغضب" من بدائع الحكم، وفوائد استجلاب المصالح، ودرء المفاسد مما لا يمكن عدُّه، ولا ينتهي حدُّه، واللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته.
كيف وقد تضمن أيضًا دفع أكثر الشرور عن الإنسان؛ لأنه في مدة حياته بين لذةٍ وألم، فاللذة سببها ثوران الشهوة لنحو أكلٍ أو جماعٍ، والألم سببه ثوران الغضب، ثم كلٌّ من اللذة والألم قد يباح تناوله أو دفعه كنكاح الزوجة، ودفع قاطع الطريق، وقد يحرم كالزنا، والقتل المحرم، فالشر إما عن شهوةٍ كالزنا، وإما عن غضبٍ كالقتل، فهما أصل الشرور ومبدؤها، فباجتناب الغضب يندفع نصف الشر بهذا الاعتبار، وأكثره في الحقيقة؛ فإن الغضب يتولَّد عنه القتل، والقذف، والطلاق، وهجر المسلم، والحقد عليه، والحسد له، وهتك ستره، والاستهزاء به، والحلف الموجب للحنث أو الندم؛ كما جاء في الحديث:"اليمين حنث أو ندم"(1) بل
(1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(5587)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1181) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
والكفر كما كفر جبلة بن الأيهم حين غضب من لطمةٍ أُخذت منه قصاصًا (1).
وبهذا التقرير يصح أن يقال في هذا الحديث: إنه ربع الإسلام؛ لأن أعمال الإنسان إما خيرٌ وإما شرٌّ، والشر إما أن ينشأ عن شهوة، أو عن غضب، وهذا الحديث متضمنٌ لنفي الغضب، فيتضمن نفي نصف الشر، وهو ربع المجموع، فكان هذا الحديث ربعًا من هذه الجهة، وهذا ظاهرٌ وإن لم أر من عرج عليه.
ويدل على انحصار سبب الشر في الشهوة والغضب: أن الملائكة لما تجردوا عنهما. . تجردوا عن سائر الشرور جملةً وتفصيلًا.
ثم الغضب له دواءٌ دافع، ودواءٌ رافع: فالدافع يحصل بذكر فضيلة الحلم وكظم الغيظ؛ نحو قوله تعالى: {وَالكَاظِمِيْنَ الْغَيْظَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "أشدكم من غلب على نفسه عند الغضب، وأحلمكم من عفا بعد القدرة"(2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفذه. . دعاه اللَّه عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أيِّ الحور شاء" رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، وقال الترمذي: حسن غريب (3)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، والصُّرَعة: الذي يصرع الناس ويكثر منه ذلك.
ومن ثَمَّ لما غضب عمر على مَنْ قال له: ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل، واحمرَّ وجهه. . قيل له: يا أمير المؤمنين؛ ألم تسمع أن اللَّه تعالى يقول: {خُذِ الْعَفوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَهِلِينِ} وهذا من الجاهلين؟! قال: (صدقت) فكأنما كان نارًا فأُطفئت (4).
(1) آخر ملوك غسان بالشام، وهو الذي أسلم في خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه، ثم عاد إلى الروم وتنصَّر. اهـ هامش (غ)
(2)
ذكره الديلمي في "الفردوس"(850) عن سيدنا علي رضي الله عنه بنحوه.
(3)
مسند الإمام أحمد (3/ 440)، وسنن أبي داوود (4777)، وسنن الترمذي (2021) عن سيدنا معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (4642)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 161) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
وباستحضار خوف اللَّه تعالى (1)، كما حكي أن مَلِكًا كتب في ورقةٍ: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء -أي: أمره وسلطانه وملائكته- ويلٌ لسلطان الأرض من سلطان السماء، ويلٌ لحاكم الأرض من حاكم السماء، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب. ثم دفعها إلى وزيره وقال: إذا غضبتُ. . فادفعها إليَّ، فكان كلما غضب. . دفعها إليه، فينظر فيها فيسكن غضبه.
وبأن يستعيذ باللَّه من الشيطان الرجيم؛ كما جاء في الحديث الصحيح: إنه يذهبه، وسره: أنه جاء في الحديث: "إن الغضب من الشيطان"(2) لأنه الذي يحمل الإنسان عليه ليرديه ويغويه ويباعده من نِعَم اللَّه عز وجل؛ فالاستعاذة باللَّه تعالى من أقوى سلاح المؤمن على دفع كيد الشيطان ومكره، أعاذنا اللَّه تعالى منه بمنِّهِ وكرمه.
وروى الشيخان: استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وأحدهما يسبُّ صاحبه مغضَبًا قد احمرَّ وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني لأعلم كلمةً لو قالها. . لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم" فقالوا للرجل: أما تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال: إني لستُ بمجنون (3).
والرافع يحصل بذلك أيضًا، وبتغيير الحالة التي هو عليها؛ كما ورد في حديث:"إذا غضب أحدكم وهو قائمٌ. . فليقعد، وإذا غضب وهو قاعد. . فليضطجع"(4).
وروى أحمد وأبو داوود: "إذا غضب أحدكم وهو قائم. . فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب؛ وإلَّا. . فليضطجع"(5)، وسرُّه: أن القائم متهيئٌ للانتقام، والجالس دونه، والمضطجع دونهما، ويؤيده الرواية السابقة:"فإذا أحسَّ أحدكم" والتي قبلها.
وأخرج أحمد: "إذا غضب أحدكم. . فليسكت"(6) قالها ثلاثًا، وهذا أيضًا دواءٌ
(1) عطف على قوله قبل قليل: (فالدافع يحمل بذكر فضيلة الحلم).
(2)
أخرجه أبو داوود (4784)، والإمام أحمد (4/ 226) عن سيدنا عطية السعدي رضي الله عنه.
(3)
صجح البخاري (6115)، وصحيح مسلم (2610) عن سيدنا سليمان بن صرد رضي الله عنه.
(4)
ذكر نحوه الحافظ السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 320) وعزاه للبيهقي.
(5)
مسند الإمام أحمد (5/ 152)، وسنن أبي داوود (4782) عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه.
(6)
مسند الإمام أحمد (1/ 239) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.
عظيم؛ لأن الغضب يصدر عنه من قبائح الأقوال ما يوجب الندم عليه عند زوال الغضب، فإذا سكت. . زال هذا المعنى، فإن لم يَزُل بما ذكر. . توضأ أو اغتسل بالماء البارد؛ فإن النار لا يطفئها إلا الماء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا غضب أحدكم. . فليتوضأ بالماء، فإنما الغضب من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء"، وفي رواية:"إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلق من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم. . فليتوضأ"(1).
وروى أبو نعيم بإسناده عن أبي موسى الخولاني أنه كلَّم معاوية بشيءٍ وهو على المنبر، فغضب، ثم نزل فاغتسل، ثم عاد إلى المنبر، وقال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، والنار تطفأ بالماء، فإذا غضب أحدكم. . فليغتسل"(2) والغرض أن يبعد عن هيئة الوثوب والمسارعة للانتقام ما أمكن؛ حسمًا لمادة المبادرة.
وكان معاوية رضي اللَّه تعالى عنه من أحلم العرب، ومن ثم كان يقول:(ما غضبي على من أقدر عليه ومن لا أقدر عليه) أي: إن الغضب تعبٌ محضٌ لا فائدة فيه؛ لأن المؤذي لي إن قدرت عليه. . عاقبته إن شئت بلا غضب، وإلا. . كان مجرد الغضب محضَ تعبٍ؛ لأنه وحده لا يشفي، فلا فائدة فيه على كل تقدير.
ثم المرادُ برفعه أو دفعه -مع أنه اضطراريٌّ كالخجل؛ لما مر أنه فوران دم القلب باطنًا، فهو كالرعاف ظاهرًا-: اندفاعُ آثاره، وما يترتب عليه من القبائح؛ فإن الإنسان بحسن الرياضة وتهذيب النفس عن ذميم الأخلاق ومعايب الأوصاف يأمن شرَّ غضبه وقبائحه المترتبة عليه، فهو وإن كان ضروريًا لا يمكن دفعه، إلا أن آثاره المترتبة عليه يمكن دفعها، فاندفع ما لبعضهم هنا من الإشكال، ثم رأيت بعضهم ذكر نحو هذا الذي ذكرته حيث قال: والتحقيق أن الغضبان إما مغلوبٌ للطبع الحيواني،
(1) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. قال ابن رسلان: ورُوي في غير هذا الحديث الأمر بالاغتسال مكان الوضوء، فيحمل أمر الاغتسال على الحالة الشديدة التي يكون الغضب فيها أقوى وأغلب من الحالة التي أمر فيها بالوضوء. (علقمي) اهـ هامش (غ).
(2)
حلية الأولياء (2/ 130).
وهذا لا يمكنه دفعه وهو الغالب في الناس، وإما غالبٌ للطبع بالرياضة، فيمكنه دفعه، ولولا ذلك. . لكان قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تغضب" تكليفًا بما لا يطاق.
والحاصل: أن أقوى أسباب رفعه ودفعه التوحيد الحقيقي، وهو اعتقاد أنْ لا فاعل حقيقةً في الوجود إلا اللَّه تعالى، وأن الخلق آلاتٌ ووسائط:
- كبرى وهي: مَنْ له عقلٌ واختيارٌ كالإنسان.
- وصغرى وهي: مَنِ انتفيا عنه كالعصا المضروب بها.
- ووسطى وهي: مَنْ فيها الثاني فقط كالدواب (1)، فمن توجَّه إليه مكروهٌ من غيره وشهد ذلك التوحيد الحقيقي بقلبه. . اندفع عنه غضبه؛ لأنه إما على الخالق وهو جراءةٌ تُنافي العبودية، أو على المخلوق وهو إشراكٌ ينافي التوحيد، ومن ثَمَّ خدم أنس رضي اللَّه تعالى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيءٍ فعله: لِمَ فعلته، ولا لشيءٍ تركه: لِمَ لمْ تفعله (2)، ولكن يقول:"قدَّر اللَّه ما شاء، وما شاء فعل"، أو:"لو قدر اللَّه. . لكان"(3)، وما ذاك إلا لكمال معرفته صلى الله عليه وسلم بأَنْ لا فاعل ولا معطي ولا مانع إلا اللَّه تعالى، ولا ينافي ذلك (4) ما صح: أن موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضلُ الصلاة والسلام اغتسل عريانًا في خلوةٍ، ووضع ثيابه على حجرٍ، ففرَّ بها، فعدا وراءه يقول:(ثوبي حجر، ثوبي حجر)(5)، ويضربه بعصاه حتى أثَّرت فيه، فرآه بنو إسرائيل، وبطل كذبهم عليه بأنه إنما يختلي عنهم في الغسل لأُدْرَةٍ به (6)؛ لأنه لم يغضب عليه غضب انتقام، بل غضب تأديبٍ وزجر؛ لأن اللَّه تعالى خلق فيه حياة فصار كدابةٍ نفرت من راكبها.
(1) الثاني: هو الاختيار؛ أي: أن الدواب لها اختيارٌ دون عقل.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 197)، وعبد الرزاق في "المصنف"(17946).
(3)
أخرج ابن حبان (7179)، والضياء في "المختارة"(1834) نحوه.
(4)
أي: كون التوحيد الحقيقي أقوى أسباب دفع الغضب أو رفعه.
(5)
قوله: (ثوبي حجر ثوبي حجر): (ثوبي) منصوب بفعل مضمر، التقدير: أعطني ثوبي أو اترك ثوبي، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه، و (حجر) منادى مفرد محذوف منه حرف النداء؛ أي: يا حجر، فإن قيل: كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء مَن يعقل؟ قلت: لأنه صدر منه فعل مَن يعقل. اهـ "الفتوحات الوهبية"(ص 165)
(6)
أخرجه البخاري (3404)، ومسلم (339) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. والأُدْرة: انتفاخ في الخصية.