الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]
عَنِ النَّوَّاس بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:"اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَيْنَاهُ فِي "مُسْنَدَي" الإِمَامَيْنِ أَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ وَالدَّارِميِّ بِإسْنَادٍ جَيِّدٍ (2).
وهو في الحقيقة حديثان، لكنهما لما تواردا على معنًى واحدٍ. . كانا كالحديث الواحد، فجعل الثاني كالشاهد للأول.
(عن النواس) بفتح النون وتشديد الواو (ابن سمعان) بكسر المهملة وفتحها (3)، الكلابي (رضي اللَّه) تعالى (عنه) كان ينبغي (عنهما) لأن لأبيه وفادة، تزوَّج صلى الله عليه وسلم أخت النواس، وهي المتعوذة.
روي له سبعة عشر حديثًا، اقتصر مسلم منها على ثلاثة، وروى له أصحاب
(1) صحيح مسلم (2553).
(2)
مسند الإمام أحمد (4/ 228)، ومسند الدارمي (2575) وقد أشار الشارح (ص 465 و 467) أنه في نسخ:(حديث حسن)، (والدارمي بإسناد حسن) وهي كذلك في نسخ المتن، فليتنبه.
(3)
قال العلامة الشبرخيتي رحمه الله تعالي في "الفتوحات الوهبية"(ص 227): (واقتصار ابن الأثير على الكسر يدل على أنه أرجح).
"السنن الأربعة" ووقع في "مسلم" أنه أنصاري، وحمل على أنه حليفٌ لهم، قال:(أقمت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة -أي: العود إلى الوطن- إلا المسألة)(1) أي: التي كانت تَرِد عليه صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه، فإقامته تلك السنة كانت مع عزمه على العود إلى وطنه، لكنه أحب أن يتفقَّه في الدين تلك المدة بسماع تلك الأسئلة التي ترد عليه صلى الله عليه وسلم وأجوبتها؛ لما مر أن المهاجرين والقاطنين بالمدينة لما أكثروا الأسئلة عليه صلى الله عليه وسلم ونُهوا عن ذلك. . كانوا يحبون أن يأتي أهل البادية ويسألوا حتى يسمعوا فيتعلموا.
قيل: وفيما ذكره دلالةٌ على أن الهجرة لم تكن واجبةً على غير أهل مكة. انتهى، وفيه نظر؛ لأنه إن أُريد نفي الوجوب عن غير أهل مكة قبل الفتح. . لم يكن في عزمه على الرجوع لوطنه دلالة على ذلك؛ لاحتمال أنه بعد الفتح، وعلى التنزل وأنه قبله فيحتمل أنه إنما مُكِّن من العود لوطنه؛ لأن له ثَمَّ عشيرة تحميه، ومَنْ له عشيرة كذلك. . لا تلزمه الهجرة، أو بعده لم يكن في ذلك خصوصية لغير أهل مكة، بل أهلها ارتفع الوجوب عنهم بعد الفتح.
(عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البِرُّ) أي: معظمه، فالحصر فيه مجازيٌّ نظير ما مر في:"الدين النصيحة"(2) وضده الفجور والإثم، ولذلك قابله به، وهو بهذا المعنى: عبارةٌ عمَّا اقتضاه الشرع وجوبًا أو ندبًا، كما أن الإثم: عبارةٌ عمَّا نهى الشرع عنه، وتارة يقابَل البرُّ بالعقوق، فيكون عبارة عن الإحسان، كما أن العقوق عبارة عن الإساءة، من بَرِرْت فلانًا بالكسر أَبَرُّه بِرًا فأنا بَرٌّ بفتح أوله وبارٌّ به، وجمع الأول: أبرار، والثاني: بررة.
(حسن الخلق) أي: التخلُّق (3)، والمراد به هنا: المعروف، وهو كما مر:
(1) تقدم تخريجه (ص 280) في شرح الحديث التاسع.
(2)
انظر ما تقدم (ص 253) وهو الحديث السابع من أحاديث المتن.
(3)
قال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية"(ص 228): (وقد روى الحسن عن أبي الحسن عن جد الحسن بسندٍ حسن: "إن أحسن الحسن الخلق الحسن" رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وقال اين عباسٍ رضي اللَّه تعالى عنهما: الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، والخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل. وقال معاذ بن جبل: آخر ما أوصاني به رسول اللَّه صلى اللَّه =
طلاقة الوجه، وكفُّ الأذى، وبذل الندى، وأن يحب للناس ما يحب لنفسه، وهذا يرجع إلى تفسير بعضهم له: بأنه الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والبذل والإحسان في اليسر، والإيثار في العسر، وغير ذلك من الصفات الحميدة.
ومن ثم قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة، وبمعنى الصدق، وبمعنى اللطف، والمبرَّة، وحسن العشرة، والصحبة، ولين الجانب، واحتمال الأذى، وبمعنى الطاعة بسائر أنواعها، ومنه قوله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . . . إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وهذه الأمور كلها هي مجامع حسن الخلق.
وقد أشار تعالى إليها في آياتٍ من كتابه العزيز؛ نحو: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} . . . إلى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} ، {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ}. . . إلى:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. . . إلى:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} ، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} . . . إلى آخر السورة.
فمن أشكل عليه حاله. . فليَعرضْ نفسه على هذه الآيات، فوجودُ جميع ما فيها من الأوصاف علامةٌ على حسن الخلق، وفقده علامةٌ على سوء الخلق، ووجود بعضه علامة على أن فيه من الحسن بحسب ما عنده، ومن السوء بحسب ما فقده، فليعتنِ بتحصيله؛ ليفوز بسعادة الدارين.
وإذا قرن البر بالتقوى كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . . فسَّر البِرَّ بمعاملة الخلق بالإحسان، والتقوى بمعاملة الحق، أو البر بفعل الواجبات، والتقوى باجتناب المحرمات.
= عليه وسلم حين جعلت رجلي في الغرز -يعني الركاب- أن قال: "حسِّن خلقك مع الناس يا معاذ". وعن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أنها قالت: إن حسن الخلق، وحسن الجوار، وصلة الرحم تعمر الديار، وتزيد في الأعمار ولو كان القوم فجارًا. . .) إلا أن الحديث ليس عند الترمذي بل رواه القضاعي في "مسند الشهاب"(986) عن الحسن عن الحسن عن الحسن بن أبي الحسن عن الحسن، الأول: ابن سهل، والثاني: ابن دينار، والثالث: البصري، والرابع: ابن سيدنا علي رضي الله عنهم.
(والإثم)(1) أي: (الذنب حرَّاز القلوب) كما في رواية (2)، وهو بتشديد الزاي بمعنى قوله في هذه الرواية:(ما حاك) أي: رسخ وأثَّر (في النفس)(3) اضطرابًا وقلقًا ونفورًا وكراهة؛ لعدم طمأنينتها إليه، ومن ثم لم ترض بالاطلاع عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم:(وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي: وجوههم وأماثلهم الذين يستحيى منهم، وقولُ بعضهم: هذا ليس بشيءٍ وحملُه على العموم أولى. . هو الذي ليس بشيء.
والمراد بالكراهة هنا: الدينية الخارمة (4)، فخرجت العادية؛ كمن يكره أن يُرى آكلًا لحياءٍ أو بخلٍ، وغير الخارمة؛ كمن يكره أن يركب بين مشاةٍ لتواضعٍ أو نحوه؛ فإنه لو رئي كذلك. . لم يبال.
وقد استفيد من هذا السياق أن للإثم علامتين، وسببهما: أن النفس لها -كما يأتي التصريح به في رواية- شعور من أصل الفطرة بما تحمد عاقبته وما لا تحمد عاقبته، ولكن غلبت عليها الشهوة حتى أوجبت لها الإقدام على ما يضرها، كما غلبت على السارق والزاني مثلًا فأوجبت لهما الحد، إذا عرفت ذلك. . اتضح لك وجه كون التأثير في النفس علامة للإثم؛ لأنه لا يصدر إلا لشعورها بسوء عاقبته.
ووجه كون كراهة اطلاع الناس على الشيء يدل على أنه إثمٌ: لأن النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها وبرها، وتكره ضد ذلك، ومن ثم أهلك الرياء أكثر الناس، فبكراهتها اطلاع الناس على فعلها يعلم أنه شرٌّ وإثمٌ.
ثم هل هاتان العلامتان كلٌّ منهما مستقلٌّ بكونه علامة على الإثم من غير احتياجٍ إلى الأخرى، أو غير مستقلٍّ بذلك، بل هو جزء علامة، والعلامة الحقيقية مركبةٌ منهما؟
(1) في هامش (غ): والإثم: يطلق ويراد به الذنب بسائر أنواعه، وهو المراد هنا، ويطلق ويراد به خصوص الخمر، ومنه قوله:[من الوافر]
شربت الخمر حتى ضلَّ عقلي
…
كذاك الإثم تذهب بالعقول
(2)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(9/ 149) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه. وقوله: (حزاز القلوب) أي: مؤثر فيها كما يؤثر الحز في الشيء؛ فهو بمعنى قوله هنا: (ما حاك في النفس) وفي نسخ أخرى -وهي رواية الطبراني-: (حوَّاز) بتشديد الواو من (حاز، يحوز) أي: غلَّاب على القلوب. اهـ "مدابغي" بتصرف
(3)
كذا في النسخ، واللفظ في نسخ المتن وفي "صحيح مسلم":(في نفسك).
(4)
في بعض النسخ: (الجازمة) بدل (الخارمة) في الموضعين.
كلٌّ محتملٌ، لكن قضية الرواية الآتية المقتصرة على الأولى: الأول، ومقتضى العطف بواو الجمع هنا: الثاني، وعليه فالفعل إن وجد فيه الأمران كالزنا والربا. . فهو إثمٌ قطعًا، وإن انتفيا عنه فبِرٌّ قطعًا؛ كالعبادة، ونحو الأكل (1).
وإن وجد فيه أحدهما. . احتمل البر والإثم فيكون من المشتبه، على حد ما مر في خبر:"الحلال بينٌ، والحرام بينٌ، وبينهما مشتبهات. . . " الحديث (2)، والذي يتجه: أنهما متلازمان؛ لأن تردد النفس (3) يستلزم كراهة اطلاع الناس وعكسه.
وقضية عموم الحديث: أن مجرد خطورِ المعصيةِ والهمِّ بها إثمٌ؛ لوجود العلامتين فيه، لكنه مخصوصٌ بغير ذلك؛ لخبر:"إن اللَّه تجاوز لأمتي عمَّا وسوست به نفوسها ما لم تعمل به أو تَكَلَّم"(4).
بل ربما يثاب نظير ما قيل له صلى الله عليه وسلم: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن ينطق به، فقال:"ذاك صريح الإيمان"(5) فكذلك من همَّ بزنًا مثلًا وحاك في نفسه، فنفرت منه لضربٍ من التقوى. . أُثيب على ذلك؛ لأنه حينئذٍ يصير من باب قوله تعالى في الحديث القدسي:"اكتبوها له حسنة؛ إنما تركها من أجلي"(6).
أما العزم. . فهو إثمٌ؛ لوجود العلامتين فيه ولا مخصص يخرجه من عموم الحديث، بل خبر:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما. . فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول اللَّه؛ هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال:"إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"(7). . ظاهرٌ في ذلك؛ إذ ذلك الحرص المعلل الدخول به وحده مع قطع النظر عن الفعل المقترن به عزمٌ مجرَّد.
(رواه مسلم) وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، بل من أوجزها؛ إذ
(1) في (ز) و (غ) زيادة: (ونحو الأكل بنية الإعانة على الطاعة).
(2)
انظر ما تقدم (ص 231) وهو الحديث السادس من أحاديث المتن.
(3)
في بعض النسخ: (لأن كراهة النفس).
(4)
أخرجه البخاري (6664)، ومسلم (127) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه مسلم (132) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
أخرجه البخاري (7501)، ومسلم (128) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
أخرجه البخاري (31)، ومسلم (2888) عن سيدنا أبي بكرة رضي الله عنه.
البر: كلمةٌ جامعةٌ لجميع أفعال الخير وخصال المعروف، والإثم: كلمةٌ جامعةٌ لجميع أفعال الشر والقبائح كبيرها وصغيرها، كما علم مما قررته فيهما، ولهذا السبب قابل صلى الله عليه وسلم بينهما وجعلهما ضدين.
(وعن وابصة) بموحدة مكسورة فمهملة (ابن معبد رضي اللَّه) تعالى (عنه) قَدِم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في عشرة رَهْطٍ من قومه بني أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا، ورجع إلى بلاده، ثم نزل الجزيرة، وسكن الرقة ودمشق، ومات بالرقة، ودفن عند منارة جامعها.
(قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم) ففيه معجزةٌ كبرى له صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبره بما في نفسه قبل أن يتكلَّم به، وأبرزه في حيز الاستفهام التقريري مبالغةً في إيضاح اطلاعه عليه وإحاطته به.
وفي روايةٍ لأحمد: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا لا أريد أن أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال لي:"ادنُ يا وابصة" فدنوت حتى مسَّت ركبتي ركبته، فقال:"يا وابصة؛ أخبرك بما جئت تسأل عنه أو تسألني؟! " قلت: يا رسول اللَّه؛ أخبرني، قال:"جئت تسأل عن البر والإثم؟ " قلت: نعم، قال: فجمع أصابعه الثلاث، فجعل ينكتُ بها في صدري ويقول:"يا وابصة؛ استفتِ نفسك. . . " الحديث (1).
(قال: استفت قلبك) وفي رواية: "نفسك" أي: عوِّل على ما فيه؛ لما مر أن للنفس شعورًا بما تُحمد عاقبته فيه أو تُذم.
ثم ذكر له ضابطًا يميز به الجائز عن غيره بقوله: (البر ما اطمأنت)(2) أي: سكنت (عليه) وفي رواية: "إليه"(النفس واطمأن إليه القلب) لأنه تعالى فطر عباده
(1) مسند الإمام أحمد (4/ 228) عن سيدنا وابصة بن معبد رضي الله عنه.
(2)
قال العلامة المدابغي نقلًا عن العلامة المناوي رحمهما اللَّه تعالي: (قوله: "ما" أي: شيء، أو الذي "اطمأنت" كذا في نسخ هذه الأربعين، وسلَّمه شراحها وأقروه، والذي وقفت عليه في أصولها الصحيحة: "سكنت").
على معرفة الحق، والسكون إليه وقبوله، وركز في الطباع محبته، ومن ثم جاء "كل مولودٍ يولد على الفطرة. . . " الحديث، قال أبو هريرة:(اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا})(1).
وأخبر تعالى أن قلب المؤمن يطمئن بذكره، ويسكن إليه؛ لما أنه انشرح وانفسح بنور الإيمان؛ فلذا رُجِع إليه عند الاشتباه، فما سكن إليه. . فهو البر، وما لا. . فهو الإثم، والجمع بينه وبين النفس للتأكيد؛ لِمَا أن طمأنينة القلب من طمأنينة النفس، وهذا مطابقٌ لقوله أولًا:"البر حسن الخلق" لأن حسنه تطمئن إليه النفس والقلب؛ ولأنه قد يُراد به التخلُّق بأخلاق الشريعة، والتأدُّب بآدابها.
ومن ثم قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: (كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن)(2) يعني: أنه يتأدَّب بآدابه، فيفعل أوامره، ويجتنب نواهيه، فصار له العمل به خلقًا كالجِبِلَّة والطبيعة، وهذا أكمل الأخلاق، وقد قيل: إن الدين كله خُلُقٌ.
(والإثم ما حاك في النفس وتردَّد في الصدر) أي: القلب، كما مر، والجمع بين هذينِ تأكيدٌ أيضًا، وبه عُلم ضابط الإثم والبر، وأن القلب يطمئن للعمل الصالح طمأنينةً تبشِّره بأمن العاقبة، ولا يطمئن للإثم، بل يورثه تندمًا ونفرةً وحزازةً؛ لأن الشرع لا يقرُّ عليه، وإنما يكون على وجهٍ يشذ، أو تأويل محتمل، لكن يظهر معياره بما مر من أنه الذي يكره اطلاع الناس عليه، ولم يزل هذا ظاهرًا معروفًا، ومن ثم قال زهير:[من الكامل]
أَلسِّتر دونَ الفاحشات ولا
…
يلقاك دون الخير من سِتْرِ
(وإنْ) غايةٌ لِمُقَدَّر دلَّ عليه ما قبله؛ أي: فالتزم العمل بما في قلبك وإن (أفتاك الناس) أي: علماؤهم، كما في رواية:"وإن أفتاك المفتون"(3)(وأفتوك)(4)
(1) أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).
(2)
أخرجه مسلم (746).
(3)
عند الطبراني في "الكبير"(22/ 78) عن سيدنا واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
(4)
قوله: (وإن أفتاك الناس وأفتوك) الجمع للتأكيد؛ يعني أن الفعل الثاني عين الأول لفظًا ومعنًى، والفرق بينهما: إنما هو أن فاعل الأول ظاهر، وفاعل الثاني ضميرٌ، فالجمع بينهما للتأكيد على حدِّ:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ} ، فالفعل الثاني تأكيدٌ للأول، فهو من التأكيد اللفظي لزبادة تقرير الكلام. اهـ هامش (غ)
بخلافه؛ لأنهم إنما يعولون على ظواهر الأمور دون بواطنها.
أو المراد: قد أعطيتك علامة الإثم فاعتبرها في اجتنابه، ولا تُقلِّد من أفتاك بمقارفته، ومحل ذلك: إن كان المستنكر ممن شرح اللَّه صدره وأفتاه غيره بمجرد ظنٍّ أو ميلٍ إلى هوًى من غير دليلٍ شرعيٍّ، وإلَّا. . لزمه اتباعه وإن لم ينشرح له صدره، ومن ثم كره صلى الله عليه وسلم امتناع قومٍ أمرهم بالفطر في السفر؛ إذ ما ورد به النص. . ليس للمؤمن فيه إلا طاعة اللَّه تعالى ورسوله، فليقبله بانشراح صدرٍ؛ قال تعالى:{ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
وأما ما لا نص فيه منه صلى الله عليه وسلم ولا ممن يُقتدى بقوله؛ فإذا وقع منه شيءٌ في قلبٍ منشرحٍ بنور المعرفة واليقين مع تردُّدٍ، ولم يجد من يفتي فيه إلا من يخبر عن رأيه وهو غير أهلٍ لذلك. . رجع لما أفتاه به قلبه وإن أفتاه هذا وأمثاله بخلافه.
والظاهر: أن هذا ليس من الإلهام المختلف في حجيَّته؛ لأنه شيءٌ يقع في القلب من غير قرينةٍ ولا استعدادٍ، فيثلُج له الصدر، وأما ما هنا. . فهو ترددٌ منشؤه قرائن خفيةٌ أو ظاهرةٌ؛ لأن الفرض أن الأمر مشتبهٌ، وأن القلب مال إلى أنه إثمٌ، فليرجع إليه فيه؛ كما دلَّت عليه النصوص النبوية، وفتاوى الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم.
وإنما وحَّد الفعل الأول لإسناده إلى ظاهر، وجمع الثاني لإسناده إلى ضمير، والأصل فيه: أن الفعل إنما يكون له فاعل واحد، فإن كان ظاهرًا. . امتنع اتصال ضميره بالفعل، وأما:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} . . فمن باب البدل من الضمير، لا من باب تعدُّد الفاعل؛ لامتناعه إلا في لغةٍ ضعيفةٍ، وإن لم يكن ظاهرًا. . وجب إضماره؛ لئلا يتجرَّدَ الفعل عن الفاعل وهو غير جائز.
قيل: بين هذا وبين ما مر من حديث: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن" تعارضٌ؛ لاقتضاء هذا أن المشتبه إثمٌ؛ لأنه يتردَّد في النفس، ومرَّ أن ذلك يقتضي أنه غيرُ إثمٍ.
وجوابه: حمل هذا على ما تردد في الصدر لقوة الشبهة (1)، ويكون من باب ترك
(1) قوله: (وجوابه. . . إلخ) حاصله: أن يحمل هذا الحديث الدال على أن ما تردد في القلب إثمٌ على ما قويت فيه الشبهة، ويحمل الحديث السابق الدال على أن ما تردد ليس إثمًا على ما ضعفت يه الشبهة، تأمل. اهـ "مدابغي"
أصل الحِل لظاهرٍ قويٍّ، ومرَّ مثله في شرح ذلك الحديث، وذاك على ما ضعفت فيه الشبهة، فيبنى على أصل الحل، ويجتنب محل الشبهة ورعًا، وأُجيب بغير ذلك مما لا يصح، فاجتنبه.
وفي جوابه صلى الله عليه وسلم لوابصة بهذا إشارةٌ إلى متانة فهمه، وقوة ذكائه، وتنوير قلبه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أحاله على الإدراك القلبي، وعلم أنه يدرك ذلك من نفسه؛ إذ لا يدرك ذلك إلا مَنْ هو كذلك، وأما الغليظ الطبع، الضعيف الإدراك. . فلا يجاب بذلك؛ لأنه لا يتحصَّل منه على شيء، وإنما يُفصِّل له ما يحتاج إليه من الأوامر والنواهي الشرعية، وهذا من جميل عادته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاطبهم على قدر عقولهم، ومن ثم قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها:(أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم)(1).
هذا (حديث صحيح) وفي نسخةٍ (حسن)(رويناه) بسندنا المتصل حال كونه (في مسندي الإمامين) الجليلين حديثًا وفقهًا وغيرَهما أبي عبد اللَّه (أحمد ابن حنبل) أحد الفقهاء المجتهدين، والأئمة المتبوعين، روى عن أممٍ، وعنه أممٌ؛ كالبخاري ومسلم وأبي داوود وابنيه (2).
مات في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومئتين عن سبعٍ وسبعين سنة.
و"مسنده" فيه أربعون الف حديث، وقيل: ثلاثون تكرر منها عشرة (3)، جمعه من سبع مئة ألف وخمسين ألف حديث، وقال: جعلته حجةً بيني وبين اللَّه تعالى، وقال: ما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . فارجعوا إليه؛ فإن وجدتموه فيه؛ وإلَّا. . فليس بحجةٍ، وهذا يدل على إحاطته بالسُّنة، واطلاعه عليها، ومن ثم قال في المحنة: كيف أقول ما لم يُقَلْ؟! فلم يجزم بأن ذلك لم يُقَلْ إلا بعد اطلاعه على السنة وأقوال الأئمة.
(1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(4826).
(2)
أي: ابني الإمام أحمد ابن حنبل؛ وهما عبد اللَّه وصالح رحمهم الله أجمعين. اهـ هامش (غ)
(3)
أي: عشرة آلاف، فمن قال: أربعون. . عد المكرر، ومن قال: ثلاثون. . لم يعده. اهـ "مدابغي"
نعم؛ لم يلتزم رضي اللَّه تعالى عنه الصحة في "مسنده" وإنما أخرج فيه ما لم يُجْمِع الناس على تركه، وأما قول بعضهم: إن كل ما فيه صحيحٌ. . فمردودٌ، بل الحق أن فيه أحاديثَ كثيرةً ضعيفةً، وبعضها أشد في الضعف من بعض، حتى إن ابن الجوزي أدخل كثيرًا منها في "موضوعاته" ولكن قد تعقَّبه في بعضها -بل في سائرها- شيخُ الإسلام العسقلاني، وحقَّق نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسنُ انتقاءً وتحريرًا من الكتب التي لم تلتزم الصحة في جمعها، قال: وليست الأحاديث الزائدة فيه على ما في "الصحيحين" بأكثر ضعفًا من الأحاديث الزائدة في "سنن أبي داوود" والترمذي عليهما. اهـ (1)
ويقاربه شهرةً وكثرةً "مسند إسحاق"، و"ابن أبي شيبة" و"مصنفه"، و"مسند البزار" و"أبي يعلى" متقاربان في التوسط، و"مسند الحُمَيْدي" و"الدارمي" متقاربان في الاختصار.
ومصنفو الأحاديث منهم من رتَّبها على مسانيد الصحابة كهؤلاء، ومنهم من رتبها على أبواب الأحكام كـ "الصحيحين" و"السنن" وفي كلِّ فائدةٌ وحكمةٌ، فجزاهم اللَّه تعالى خيرًا.
(و) أبي محمد عبد اللَّه بن عبد الرحمن (الدارمي) التميمي السمرقندي الحافظ، من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، روى عنه أئمةٌ؛ كمسلم، وأبي داوود، والترمذي، وأبي زرعة، قال أبو حاتم: هو إمام أهل زمنه.
ولد سنة إحدى وثمانين ومئة، ومات يوم التروية سنة خمسٍ وخمسين ومئتين، والغالب على "مسنده" الصحة، ولمَّا بلغ البخاري نعيه. . بكى وأنشد:[من الكامل]
إن تبقَ تُفْجَعْ في الأحبةِ كلِّهم
…
وفناءُ نفسِك لا أبا لك أفْجَعُ (2)
(1) قال الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "تدريب الراوي"(1/ 188): (وقد الف شيخ الإسلام كتابًا في رد ذلك سماه: "القول المسدد في الذب عن المسند". . . سرد الأحاديث التي جمعها العراقي وهي تسعة، وأضاف إليها خمسة عشر حديثًا، أوردها ابن الجوزي في "الموضوعات"، وهي فيه، وأجاب عنها حديثًا حديثًا. قلت: وقد فاته أحاديث أخر أوردها ابن الجوزي، وهي فيه، وجمعتها في جزءٍ سميته "الذيل الممهد" مع الذب عنها، وعدتها أربعة عشر حديثًا. . .).
(2)
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(29/ 318).
وذكر الترمذي: أنه سمع البخاري يحدث عنه بحديث: "من شيع جنازة"، وابن عدي: أن النسائي حدث عنه.
(بإسناد جيد) وفي نسخة (حسن)، فإن قلت: ما حكمة قول المصنف أولًا: (حديث صحيح) وقوله هنا: (بإسناد جيد)؟
قلت: حكمته: أنه لا يلزم من كون الحديث في "المسندين" المذكورين أن يكون صحيحًا كما يأتي، فبيَّن أولًا أنه صحيحٌ، وثانيًا أن سبب صحته أن إسناد هذين الإمامين اللذين أخرجاه له صحيحٌ أيضًا.
وله حكمةٌ أخرى حديثيةٌ: وهي ما صرحوا به أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن؛ فقد يصح السند أو يحسن؛ لاستجماع شروطه: من الاتصال والعدالة والضبط دون المتن؛ لشذوذٍ فيه، أو علَّةٍ، فنص المصنف أولًا على صحة المتن بقوله:(هذا حديث صحيح) وثانيًا على صحة السند بقوله: (بإسناد جيد).
فإن قلت: صرحوا بأن قولهم: (هذا حديث صحيح) مرادهم به اتصال سنده مع سائر الأوصاف في الظاهر لا قطعًا. اهـ، فعليه: لِمَ لَمْ يكتفِ المصنف أولًا بقوله: (هذا حديث صحيح) عن قوله هنا: (بإسناد جيد)؟
قلت: هم وإن أرادوا ذلك إلا أنه لا يلزم منه الحكم على كل فردٍ من أسانيد ذلك الحديث بالصحة، ومع ذلك هو أقوى من تقييد الصحة بالإسناد (1)؛ كما في قول المصنف:(بإسناد جيد) لأنه حينئذٍ لا يبقى صريحًا في صحة المتن ولا ضعفه.
فعلم أن الحكم بالصحة أو الحسن للإسناد أحطُّ رتبةً عن الحكم بأحدهما للحديث، ومع ذلك لو أَطلقَ الحكم بأحدهما للإسناد مَنْ عُرفَ منه باطِّراد أنه لا يفرق بين الحكم بأحدهما له وللمتن. . كان ذلك حكمًا للمتن بأحدهما أيضًا.
واعترض تصحيح المصنف أو تحسينه لحديث أحمد بأنه أخرجه من طريقين، إحداهما فيها علتان: ضعف، وانقطاع، وأخرى فيها مجهول.
وجوابه: أن أحمد خرجه من طريقٍ أخرى عن أبي أمامة قال: قال رجلٌ:
(1) أي: قولهم: (هذا حديث صحيح) أقوى من اقتصارهم على (بإسناد صحيح) اهـ هامش (غ)