الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]
عَنْ أَبِي رُقَيَّةَ تَمِيم بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: "للَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
(عن أبي رقية) بضم الراء وفتح القاف وتشديد الياء، ابنةٌ له لم يولد له غيرها.
(تميم بن أوس) بن حارثة، وقيل: خارجة بن سُود، وقيل: سواد بن جذيمة بن دَرَّاع بن عدي بن الدار (الداري) -نسبةً إلى جدٍّ له كما ذكرناه- القحطانيِّ، ويقال له أيضًا: الديري، نسبةً إلى ديرٍ كان يتعبَّد فيه.
(رضي اللَّه) تعالى (عنه) كان نصرانيًا، وقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم قصة الجساسة والدجال؛ إذ وجده هو وأصحابه في البحر، فحدَّثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك على المنبر، وعُدَّ ذلك من مناقبه؛ إذ لم يقع نظيره لغيره (2).
قال ابن السكن: أسلم سنة تسع هو وأخوه نعيم، ولهما صحبة.
وقال ابن إسحاق: قدم المدينة وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو نعيم: كان راهب أهل عصره، وعابد أهل فِلَسْطين.
(1) صحيح مسلم (55).
(2)
أي: حدَّث النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقصة الجساسة التي حدثه بها سيدنا تميم رضي الله عنه، وتسمى في مصطلح الحديث: رواية الأكابر عن الأصاغر؛ وهي: أن يروي الكبير القدر أو السن أو هما عمَّن دونه في كلٍّ منهما أو فيهما، ويمثلون له بحديث الجساسة المروي في "صحيح مسلم"(2942)، وهذا المثال من أجلِّ ما يذكر في هذا الباب.
وهو أول من أسرج السراج في المسجد، وأول من قصَّ في زمن عمر بإذنه (1)، انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان، وسكن فلسطين، وكان صلى الله عليه وسلم أقطعه بها قريةً، ولبعض محققي المتأخرين من المحدثين فيها تأليف.
وكان كثير التهجد، يختم القرآن في ركعة، قام ليلة بـ:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} الآيةَ حتى أصبح.
مات سنة أربعين، ودفن ببيت جبرين أو جبريل من بلاد فلسطين، وهي قريةٌ من قرى الخليل.
روي له ثمانية عشر حديثًا، لمسلم منها واحدٌ وهو هذا، وهو صاحب الجام (2) الذي نزل فيه وفي صاحبه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية، كما في "الترمذي" وغيره عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما (3)، وقولُ الذهبي عن مقاتل بن حيان: إنه غيره. . مردودٌ (4).
ولقد قال عمر لبعض من قدم عليه: (اذهب فانزل على خير أهل المدينة) فنزل على تميم قال: فبينما نحن نتحدَّث إذ خرجت نارٌ بالحرَّة، فجاء عمر إلى تميم فقال:(يا تميم؛ اخرج) فصغَّر نفسه، ثم قام فحاشها حتى أدخلها الباب الذي خرجت منه (5)، ثم اقتحم في أثرها، ثم خرج فلم تضره (6).
(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين) مرت معانيه أول الخطبة، والمراد هنا: الملة، وهي دين الإسلام؛ أي: عماده وقوامه ومعظمه كـ "الحج عرفة"(7)،
(1) أي: أول من وعظ الناس بذكر قصص الماضين ومآثرهم وسيرهم رضي الله عنه.
(2)
وهو إناءٌ من فضةٍ، وكان وزنه ثلاث مئة درهم. اهـ "مدابغي".
(3)
سنن الترمذي (3059).
(4)
نقل الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الإصابة"(1/ 186) قول الحافظ الذهبي في "التجريد".
(5)
حاشها: جمعها وساقها؛ شبهها بالإبل عندما يجمعها سائقها فتنقاد له.
(6)
ذكره الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الإصابة"(3/ 473) وعزاه للبغوي، والقادم على سيدنا عمر هو سيدنا معاوية بن حرمل رضي الله عنهما.
(7)
أخرجه أبو داوود (1949)، والترمذي (889)، والنسائي (5/ 256) عن سيدنا عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه.
فالحصر مجازيٌّ، بل حقيقيٌّ؛ نظرًا لما سنقرره في معنى النصيحة؛ فإنها لم تُبقِ من الدِّين شيئًا.
(النصيحة) هي كالنُّصح بضم النون، مصدر (نصح) وقيل: الأول اسم مصدر، والثاني مصدر، هي لغة: الإخلاص والتصفية، من (نصحتُ له القول والعمل): أخلصته، ونصحت العسل: صفيته، شبهوا تخليص الناصح قولَهُ من الغشِّ بتخليص العسل من شمعه، أو من (النَّصح) بفتح النون؛ وهو: الخياطة، والمنصحة: الإبرة؛ والنِّصَاح: الخيط، والناصح: الخياط، شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح ولَمِّ شَعَثِه بما تسده الإبرة، وتضمه من خرق الثوب وخلله، و (نصحت له) أفصح من (نصحته).
وشرعًا: إخلاص الرأي من الغش للمنصوح وإيثارُ مصلحته، ومن ثَمَّ كانت هذه الكلمة مع وجازة لفظها كلمةً جامعةً، معناها: حيازة الخير للمنصوح له، بل ليس في كلام العرب أجمع منها ومن كلمة الفلاح لخيري الدنيا والآخرة.
ودلَّتْ هذه الجملة على أن النصيحة تُسمى دينًا وإسلامًا، وعلى أن الدين يقع على العمل كما يقع على القول.
(قلنا) معشرَ السامعين: النصيحة (لمن؟) فيه إشارة إلى أن للعالم أن يَكِلَ فهم ما يُلقيه إلى السامع، فلا يزيد له في البيان حتى يسأله؛ لتَشَوُّف نفسه حينئذٍ إليه، فيكون أوقع في نفسه ممَّا إذا هجمه من أول وهلة.
(قال) صلى الله عليه وسلم: (للَّه) بالإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بجميع صفات الكمال والجلال، وتنزيهه عن جميع النقائص وما لا كمال فيه من الأوصاف، والقيام بطاعته، وتجنُّب معصيته، والحب والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، والرغبة في محابِّه، والبُعد عن مساخطه، والاعتراف بنعمته، وشكره عليها، والدعاء إلى جميع ذلك وتعليمه، والإخلاص فيه للَّه عز وجل عن كل نقصٍ ووصفٍ ليس ببالغ في الكمال المطلق أقصاه وغايَتَهُ، وحفيقة هذه الأوصاف راجعةٌ إلى العبد في نصحه نفسه، وإلَّا. . فهو
تعالى غنيٌّ عن نصح الناصحين، ثم النصيحة الواجبة من ذلك هي شدة عناية الناصح بإيثاره محبة اللَّه تعالى، بفعله جميعَ ما افترض، واجتنابه جميعَ ما حرَّم، والنافلة ما عدا ذلك.
(ولكتابه) مفرد مضاف، فيعم سائر كتبه المنزلة؛ بأن يؤمن بأنها من عنده وتنزيله، ويُميِّز القرآنَ بأنه لا يشبهه شيءٌ من كلام الخلق، ولا يقدر أحدٌ منهم على الإتيان بمثل أقصر سورةٍ منه، وبأن يتلوه حق تلاوته: خشوعًا، وتدبُّرًا، ورعايةً لما يجب له مما اتفق عليه القرَّاء، ويذبَّ عنه تأويل المحرفين، وطعن الطاعنين، ويُصدِّق بجميع ما فيه، ويقف مع أحكامه، ويتفهم أمثاله وعلومه، وينشرها، ويبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ومطلقه ومقيده، وظاهره ومجمله، ونحو ذلك، ويعتني بمواعظه، ويتفكَّر في عجائبه، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه مع التنزيه عمَّا يوهمه ظاهره مما لا يليق بعظيم جلال اللَّه وعليِّ كماله، تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، ويمسك عن الخوض في تفسيره ما دام لم تجتمع فيه آلاته، ويدعو إلى جميع ذلك ويحض عليه، ويُرغِّب الناس في مسابقتهم إليه.
(ولرسوله) صلى الله عليه وسلم بتصديق رسالته، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرة دينه حيًا وميتًا، ومعاداة مَنْ عاداه، وموالاة مَنْ والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء سنته بنشرها وتصحيحها، ونفي التُّهَم عنها، وانتشار علومها، والتفقه في معانيها، والإمساك عن الخوض فيها بغير علم، والدعاء إليها، والتلطُّف في تعليمها، وإظهار إعظامها وإجلالها، وإجلال أهلها من حيث انتسابُهم إليها، والتأدب بآدابه عند قراءتها، ومحبة آله وأصحابه، ومجانبة من ابتاع في سنته، أو انتقص أحدًا من صحابته، والدعاء إلى جميع ذلك سرًا وعلنًا، ظاهرًا وباطنًا.
(ولأئمة المسلمين) وهم الخلفاءُ ونوابُهم، بطاعتهم فيما يوافق الحق؛ كالصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم إن طلبوها، أو كانوا عادلين، وترك الخروج عليهم وإن جاروا، والدعاء بالصلاح لهم، ومعاونتهم عليه، وتنبيههم له،
وتذكيرهم باللَّه وأحكامه وحكمه ومواعظه، لكن برفقٍ ولطفٍ، وإعلامهم بما غفلوا عنه، أو لم يبلغهم من حقوق المسلمين، وتألُّف قلوب الناس لطاعتهم، وعدم إغرائهم بالثناء الكاذب عليهم.
والعلماءُ بقبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم، وإجلالهم وتوقيرهم، والوفاءِ بما يجب لهم على الكافَّة من الحقوق التي لا تخفى على الموفقين.
(وعامتهم) بإرشادهم لمصالحهم في أمر آخرتهم ودنياهم، وإعانتهم عليها بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسدِّ خلاتهم (1)، ودفع المضارِّ عنهم، وجلب المنافع إليهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بشروطه المقررة في محلِّها (2)، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتعهدهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحبَّ لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشر، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وحثهم على التخلق بجميع ما مر في تفسير النصيحة، اقتداءً بما كان عليه السلف الصالح رضي اللَّه تعالى عنهم، بل منهم من بلغت به النصيحة إلى أن أضرت بدنياه ولم يبالِ بذلك.
وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحدٍ. . وعظوه سرًّا، حتى قال بعضهم: مَنْ وعظ أخاه سرًا. . فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس. . فإنما وبَّخه، ومن ثم قال الفضيل:(المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير)(3).
ثم هي قد تجب عينًا، وقد تجب على الكفاية كما يعلم من أقسامها التي ذكرناها.
نعم؛ شرط وجوبها بقسميه: أن يأمن من لحوق ضررٍ له في نفسه، أو نحو ماله، لا العلم بقبول نصحه؛ لِمَا صرحوا به من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن علم أنه لا يسمع له، ومن ثَمَّ يندب له السلام ولو على من علم منه أنه لا يرد.
(1) أي: حاجاتهم وفقرهم.
(2)
قوله: (وأمرهم بالمعروف. . . إلخ) أي: أمرهم بواجبات الشرع، ونهيهم عن محرماته إذا لم يخف على نفسه أو ماله أو غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع، ولا ينكر إلا ما يرى الفاعل تحريمه. اهـ "مدابغي"، وانظر عبارة الشارح في شرح الحديث الخامس والعشرين (ص 437).
(3)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 195) بأتمَّ مما هنا.
(رواه مسلم) منفردًا به عن تميم، وليس له في "صحيحه" عنه سواه، وأخرجه البخاري تعليقًا (1)، لأن في رواته مَنْ ليس على شرطه، وورد عن غير تميم، كابن عمر من طرقٍ لا بأس بها (2)، وكأبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنهم (3).
ثم هذا الحديث وإن أوجز لفظًا لكنه أطنبُ فائدةً ومعنًى؛ لأن سائر السُّنَن وأحكام الشريعة أصولًا وفروعًا داخلةٌ تحته، بل تحت كلمةٍ منه؛ وهي:(ولكتابه) لأنه اشتمل على أمور الدين جميعها أصلًا وفرعًا، وعملًا واعتقادًا، فإذا آمن به وعمل بما تضمنه على ما ينبغي مما أشرنا إليه في النُّصح له. . فقد جمع الشريعة بأسرها {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وبهذا يُردُّ على من قال: إنه ربع الإسلام.
* * *
(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة للَّه. . . ".
(2)
أخرجه الدارمي في "سننه"(2796)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(19).
(3)
أخرجه الترمذي (1926)، والنسائي (7/ 157).