المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطع] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطع]

‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ. . فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ. . فَافْعَلُوا (1) مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلِكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (2).

(عن أبي هريرة) جره هو الأصل، وصوَّبه جماعة؛ لأنه جزء العلم، واختار آخرون منعَ صرفه كما هو الشائع على ألسنة العلماء من المحدِّثين وغيرهم؛ لأن الكل صار كالكلمة الواحدة، واعترض بأنه يلزم عليه رعاية الحال والأصل معًا في كلمةٍ واحدةٍ، بل في لفظ (هريرة) إذا وقعت فاعلًا مثلًا؛ فإنها تعرب إعراب المضاف إليه نظرًا للأصل، وتمنع من الصرف نظرًا للحال، ونظيرُه خفيٌّ. اهـ

ويجاب بأن الممتنع رعايتهما من جهةٍ واحدةٍ لا من جهتين كما هنا، وكان الحامل عليه الخِفَّةُ، واشتهار هذه الكنية، حتى نُسي الاسم الأصلي بحيث اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا كما سيأتي.

وسبب تلقيبه بذلك: ما رواه ابن عبد البر عنه أنه قال: كنت أحمل يومًا هرةً في كمي، فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي:"ما هذه؟ " فقلت: هرة، فقال:"يا أبا هريرة"(3).

(1) انظر الهامش رقم (1) في الصفحة (273).

(2)

صحيح البخاري (7288)، وصحيح مسلم (1337) في كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم.

(3)

انظر "الإستيعاب"(4/ 204).

ص: 271

وفي رواية ابن إسحاق: وجدت هرةً فحملتها في كمي، فقيل لي: ما هذه؟ فقلت: هرة، فقيل لي: فأنت أبو هريرة (1)، ورجَّح بعضهم الأول.

وقيل: كان يلعب بها وهو صغير، وقيل: كان يحسن إليها، وقيل: المكني له بذلك والده.

واختُلف في اسمه واسم أبيه على خمسةٍ وثلاثين قولًا، أصحها -كما قاله المصنف-: ما ذكره هنا بقوله: (عبد الرحمن) روى ابن إسحاق عنه: أنه أُبدل به في الإسلام عن عبد شمس اسمه في الجاهلية (ابن صخر رضي الله عنه الدوسي.

أسلم عام خيبر، وشهدها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم لازمه الملازمة التامة رغبةً في العلم، راضيًا بشبع بطنه، وكان يدور معه حيثما دار، ومن ثَمَّ كان أحفظَ الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم، وقد شهد له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه حريصٌ على العلم والحديث، وقال: قلت: يا رسول اللَّه؛ إني سمعتُ منك حديثًا كثيرًا، وإني أخشى أن أنساه، فقال:"ابسط رداءك" فبسطته، فضرب بيده فيه ثم قال:"ضمه" فضممتُه، فما نسيتُ شيئًا بعده (2).

قال البخاري: روى عنه أكثرُ من ثمان مئة ما بين صحابيٍّ وتابعيٍّ.

استعمله عمر على البحرين، ثم عزله، ثم راوده على العمل فأبى، ولم يزل يسكن المدينة، وبها توفي سنة سبعٍ أو ثمانٍ أو تسع وخمسين عن ثمانٍ وسبعين سنة، ودُفن بالبقيع، وما اشتُهر أن قبره بقرب عسقلان لا أصل له، وإنما ذاك صحابيٌّ آخر اسمه جَنْدرة.

روي له خمسة آلافٍ وثلاثُ مئةِ حديثٍ وأربعةٌ وسبعون حديثًا، اتفقا منها على ثلاث مئةٍ وخمسةٍ وعشرين، وانفرد البخاريُّ بثلاثةٍ وتسعين، ومسلمٌ بمئةٍ وتسعين.

(قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ما نهيتكم) هذا الخطاب ونحوه يختص لغةً بالموجودين عند نزوله، وشموله لمن بعدهم؛ لما هو معلومٌ من الدين بالضرورة أن هذه الشريعة عامةٌ إلى يوم القيامة.

(1) انظر "الإستيعاب"(4/ 203).

(2)

أخرجه البخاري (119)، وهو عند مسلم (2492) بنحوه.

ص: 272

(عنه. . فاجتنبوه) دائمًا على كل تقديرٍ مما دام منهيًا عنه حتمًا في الحرام، وندبًا في المكروه؛ إذ لا يمتثل مقتضى النهي إلا بترك جمبع جزئياته، وإلَّا. . صدق عليه أنه عاصٍ، أو مخالفٌ.

وأيضًا: فترك المنهي عنه هو استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وليس في ذلك ما لا يستطاع حتى يسقط التكليف به، ونظر فيه بأن الداعي للمعصية قد يقوى حتى لا يستطاع الكف عنها، ويرد: بأن هذا نادرٌ، فلا يُعوَّل عليه وإن سُلِّم أنه يوجد كثيرًا مَنْ يجتهد في الطاعة ولا يقوى على ترك المعصية، فخرج نحو أكل الميتة للاضطرار، وشرب الخمر لإساغة اللقمة، أو لإكراهٍ، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه؛ لعدم النهي عن هذه حينئذٍ.

(وما أمرتكم به. . فأتوا)(1) وجوبًا في الواجب، وندبًا في المندوب (منه ما استطعتم) أي: أطقتم؛ لأن فعله هو إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك يتوقف على شرائط وأسباب؛ كالقدرة على الفعل ونحوها، وبعض ذلك يُستطاع وبعضه لا يُستطاع، فلا جرَمَ سقط التكليف بما لا يستطاع منه؛ لأن اللَّه تعالى أخبر أنه لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها (2).

وأيضًا: يصدق عليه أنه امتثل الأمر المطلق مع الإتيان بالمستطاع الصادق عليه اسمه؛ كيوم، وركعتين، وأقل مُتَمَوَّل في: صُمْ، وصَلِّ، وتصدَّقْ، فإن قيَّد أو وصف. . لم يصدق الامتثال إلا بالإتيان به بجميع قيوده أو أوصافه، وإن كان من أشق التكاليف.

وهذا من قواعد الإسلام المهمة، ومما أُوتيه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم؛ لأنه يدخل فيه ما لا يُحصى من الأحكام، وبه وبالآية الموافقة له يُخَصُّ عموم قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .

(1) قوله: (فأتوا) كذا في نسخ الشرح. وفي نسخ المتن و"صحيح مسلم": (فافعلوا) فليتنبه.

(2)

فإن قيل: ما الفرق بين المأمور به والمنهي عنه؛ حتى سقط التكليف بما لا يستطاع من الأول دون الثاني؟ قلنا: لأن الترك المنهي عنه عبارةٌ عن استصحاب حال عدمه أو الاستمرار على عدمه، وليس في ذلك ما لا يستطاع حتى يسقط التكليف به، بخلاف فعل المأمور به؛ فإنه عبارةٌ عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك يتوقف على شروط وأسباب كالقدرة ونحوها، وبعضه يستطاع وبعضه لا يستطاع، فلا جرم يسقط التكليف به؛ لأن اللَّه عز وجل أخبر أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها. اهـ "مدابغي"

ص: 273

فإذا عجز عن ركنٍ أو شرطٍ لنحو وضوءٍ أو صلاةٍ، أو قدر على غسلِ أو مسحِ بعضِ أعضاء الوضوء أو التيمم، أو على ستر بعض العورة، أو على بعض الفطرة -لا عن الرقبة في الكفارة؛ لأن لها بدلًا- أو بعض (الفاتحة) أو إزالة بعض المنكر. . أتى بالممكن، وصحَّت عبادته مع وجوب القضاء تارةً، وعدمِهِ أخرى، كما هو مقرَّرٌ في الفروع.

ويُؤخَذ من هذا القاعدةُ المشهورة: أن درء المفاسد أَولى من جلب المصالح، فإذا تعارضت مصلحةٌ ومفسدةٌ. . قدم دفعها؛ لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشدُّ منه بالمأمورات كما عُلِم مما تقرر، ومن ثمَّ سُومح في ترك الواجب بأدنى مشقة؛ كالقيام في فرض الصلاة، وفطر رمضان، والعدول إلى التيمم (1)، ولم يسامح في الإقدام على منهيٍّ، وخصوصًا الكبائر إلا إذا تحققت الضرورة (2).

وقد تُراعى المصلحة لغلبتها على المفسدة؛ ومنه الصلاة مع اختلال بعض شروطها، فإن فيها مفسدةً هي الإخلال بإجلال اللَّه تعالى عن أن يُناجى إلا على أكمل الأحوال، ومع ذلك يجب فعلها تقديمًا لمصلحتها، وكالكذب للإصلاح، فإنه جائزٌ؛ لأن مصلحته حينئذٍ تربو على مفسدته، وهذا النوع راجع في الحقيقة إلى ارتكاب أخفِّ المفسدتين.

ثم هذا الحديث موافقٌ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وأما:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} فقيل: منسوخ، والأصح، بل الصواب -وبه جزم المحققون-: أن تلك مُبيِّنةٌ لهذه، قاله المصنف (3).

وإنما يتمُّ هذا على تفسير: {حَقَّ تُقَاتِهِ} بامتثال أمره، واجتناب نهيه، أما على المشهور من تفسيره: بأن يذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى. . فالأوجه: النسخ؛

(1) الذي اعتمده الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة"(2/ 23): أن الذي يبيح الجلوس في الفرض: أن تلحقه به مشقةٌ ظاهرةٌ أو شديدةٌ؛ بأن تكون بحيث لا تحتمل عادة وإن لم تبح التيمم، قال:(واشتراط إباحتِه وجهٌ ضعيفٌ كما صرحوا به؛ كالاكتفاء بمجرد إذهاب الخشوع) واعتمد فيها (3/ 429): أن ضابط المرض الذي يبيح له الفطر: أن يجد به ضررًا شديدًا بحيث يبيح التيمم.

(2)

في بعض النسخ: (حُقَّت الضرورة).

(3)

شرح صحيح مسلم (9/ 102).

ص: 274

فإن هذه لمَّا نزلت. . تحرَّجت الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم منها، وقالوا: أيُّنا يطيق ذلك، فنزلت تلك، ولتوقف المأمور به على فعل، بخلاف المنهي عنه، فإنه كفٌّ محضٌ، قال في ذاك:"فأتوا منه ما استطعتم"، وفي هذا:"فاجتنبوه".

وعن أحمد رضي اللَّه تعالى عنه: أنه يؤخذ من الحديث أن النهي أشد من الأمر؛ لأنه لم يرخص في شي: منه، والأمر مقيدٌ بالاستطاعة، وقريبٌ من هذا قول بعضهم: أعمال البِرِّ يعملها البارُّ والفاجر، والمعاصي لا يتركها إلا صدِّيق.

قيل: وتفضيل ترك المنهي على فعل الطاعة إنما أُريد به على نوافلها، وإلَّا. . فجنس الواجب لكون العمل فيه مطلوبًا لذاته أفضلُ من ترك المحرَّم؛ لأن المطلوب عدمه، ومن ثَمَّ لم يحتج لنيةٍ، ولذلك كان ترك الواجب قد يكون كفرًا كترك التوحيد، بخلاف ارتكاب المنهي؛ فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه. انتهى، وفيه نظر (1).

(فإنما) وجه تفريع ما بعدها على ما قبلها: أن الأمر والنهي الصَّادرينِ منه صلى الله عليه وسلم لما كانا مظِنَّةً لكثرة السؤال عنهما: هل يقتضيان التكرار مثلًا؟ وكان في كثرته كثرة الجواب، فيضاهي ذلك قصة بقرة بني إسرائيل التي أُمروا فيها بذبح بقرةٍ، فتعنَّتوا ولم يُبادروا إلى مقتضى اللفظ من ذبح أي بقرةٍ كانت، بل شدَّدوا على أنفسهم بكثرة تكرار السؤال، فشدَّد اللَّه عليهم بزيادة الأوصاف حتى لم يجدوا متصفًا بها إلا بقرةً واحدةً، فشروها بملء جلدها ذهبًا، فندموا على ذلك. . فخاف صلى الله عليه وسلم على أمته من مثل ذلك، ومن ثم قال:(أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم) بالضم؛ لأنه أبلغ في ذم الاختلاف؛ إذ لا يتقيد حينئذ بـ (كثرة) بخلافه لو جُرَّ.

(على أنبيائهم) استُفيد منه تحريم الاختلاف، وكثرة المسائل من غير ضرورة؛ لأنه توعَّد عليه بالهلاك، والوعيدُ على الشيء دليلٌ لتحريمه، بل لكونه كبيرةً على الخلاف فيه.

(1) قوله: (وفيه نظر) قال شيخنا: لأن ارتكاب المنهي عنه قد يقتضي الكفر بنفسه كإلقاء المصحف في قاذورة، ولِمَا مر من أن المعاصي بريد الكفر. اهـ "مدابغي"

ص: 275

ووجهه فى الاختلاف: أنه سبب تفرُّقِ القلوب، ووهن الدين، كما جرى للخوارج حين تبرأ بعضهم من بعضٍ. . وهن أمرهم، وذلك حرامٌ، فسببه المؤدي إليه حرامٌ.

وفي كثرة السؤال: أنه من غير ضرورة مشعرٌ بالتعنُّت، ومفضٍ إليه، وهو حرامٌ أيضًا، وقد نهى الشارع عن: قيل وقال، وكثرة السؤال (1)، وروى أحمد: أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن الأغلوطات)(2) وهي صعاب المسائل.

وورد: "سيكون أقوامٌ من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل المسائل، أولئك شرار أمتي"(3).

وقال الحسن: (شرار عباد اللَّه الذين يتبعون شرار المسائل، يُعَمُّون بها عباد اللَّه)(4).

وقال الأوزاعي: (إن اللَّه إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم. . ألقى على لسانه المغاليط؛ فلقد رأيتهم أقل الناس علمًا)(5).

وكان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم كزيد بن ثابت وأُبيِّ بن كعب إذا سُئلوا عن شيءٍ. . قالوا: أَوَقَعَ؟ فإن قيل: نعم. . أفتوا فيها، أو ردوها إلى مَنْ يُفتي فيها، وإن قيل: لا. . قالوا: دعها حتى تقع (6)، وكانوا يكرهون السؤال عما لم يقع، بل لعن عمر رضي الله عنه سائلًا عما لم يكن، وهذا الحكم يرجع إلى قوله تعالى:

(1) أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (593) في كتاب الأقضية. وقوله:(وقد نهى الشارع. . . إلخ) قال المطرزي في "شرح مقامات الحريري": قيل: القال: السؤال، والقيل: الجواب، وأخبرني مولاي الصدر رحمه الله عن فخر خوارزم أنه قال في قولهم:(نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال): هو من قولهم: قيل كذا، وقال فلانٌ كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيينِ متضمنين للضمير والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خِلْوينِ عن الضمير، ومنه قولهم: إنما الدنيا قيل وقال، وإدخال حرف التعريف عليهما لذلك في قولهم: ما يعرف القال من القيل. اهـ "مدابغي"

(2)

مسند الإمام أحمد (5/ 435).

(3)

أخرج نحوه الطبراني في "الكبير"(2/ 98)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(637) عن سيدنا ثوبان رضي الله عنه.

(4)

أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(638).

(5)

انظر "فتح الباري"(13/ 263)، و"فيض القدير"(6/ 301).

(6)

انظر "الفقيه والمتفقه"(622 - 624)، و"فيض القدير"(6/ 301).

ص: 276

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الآيتينِ ونحوهما.

وبما تقرر: علم أنه لا يحتاج إلى قول من قال: إن كراهة المسائل وقتها مختصٌّ بزمنه صلى الله عليه وسلم؛ لما يُخشى حينئذٍ من تحريمٍ أو إيجابٍ يحصل به مشقة، وهذا أُمن بوفاته صلى الله عليه وسلم.

واعلم: أن الناس انقسموا في هذا الباب: فمنهم مَنْ سدَّ بابها حتى قلَّ فهمه وعلمه بحدود ما أنزل اللَّه، وصار حامل فقهٍ غير فقيه، وهم من أتباع أهل الحديث.

ومنهم من توسَّع في البحث عما لم يقع، واشتغلوا بتكلُّف الجواب عنه، وكثرة الخصومة فيه، والجدال عليه، حتى تفرقت قلوبهم، واستغرقها بسببه الأهواء والشحناء، والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيرًا بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس إليهم، وهذا مما ذمَّه العلماء، ودلَّتِ السُّنَّةُ على قبحه وتحريمه كما مر.

وأما فقهاء الحديث العاملون به. . فوجَّهوا همَّتهم إلى البحث عن معاني القرآن والسنة، وكلام الصحابة والتابعين، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السُّنة، والزهد والرقائق، ونحو ذلك مما فيه صفاء القلوب، والإخلاص لعلام الغيوب، جعلنا اللَّه تعالى منهم بمنه وكرمه (1).

(رواه البخاري ومسلم) وهو حديث عظيم من قواعد الدين وأركان الإسلام، فينبغي حفظه والاعتناء به، لكن مسلم ذكره في بعض طرقه مطولًا؛ ولفظه: عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس؛ قد فرض اللَّه تعالى عليكم الحج فحُجُّوا" فقال رجلٌ: أكل عامٍ يا رسول اللَّه؟ فسكت حتى قالها مرارًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لو قلتُ: نعم. . لوجبتْ، ولما استطعتم" ثم قال: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك

(1) وممن اهتم بهذا الموضوع العلامة المحقق عبد الفتاح أبو غدة رحمه اللَّه تعالى، فألف رسالة مفيدة في هذا الباب؛ سماها "منهج السلف في السؤال عن العلم في تعلم ما يقع وما لم يقع" فانظرها تغنم.

ص: 277

من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ. . فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ. . فدعوه" (1).

ولكون هذا كالشارح للحديث الأول تكلَّم عليه جمعٌ من الشُّرَّاح بما حاصله: أن السائل هو الأقرع بن حابس، قيل: وفيه دليلٌ للقول الضعيف: إنه يتوقف في الأمر فيما زاد على مرةٍ على البيان، فلا يحكم باقتضائه ولا منعه؛ إذ لو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه. . لم يسأل الأقرع عن ذلك، ولقيل له: لا حاجة للسؤال، بل مطلقه محمولٌ على كذا.

والأصح: أنه لا يقتضي التكرار (2)، ولا دلالة في الحديث للوقف؛ لاحتمال أن السؤال للاستظهار، أو للاحتياط؛ فإنه وإن لم يقتضِ التكرار قد يستعمل فيه، سيما والحج لغةً: قصدٌ فيه تكرارٌ يقوي احتمال التكرار عند السائل من هذه الحيثية أيضًا.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم. . لوجبت" دليلٌ لجواز الاجتهاد له، وهو الأصح (3)، و:"ذروني ما تركتكم" دليلٌ لعدم الحكم قبل ورود الشرع، وهو الأصح.

ومعناه: لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تفيد بوجهٍ ما ظاهر وإن صلحت لغيره (4)، كما في:"فحجوا" فإنه وإن أمكن أن يراد به التكرار ينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ، وهو المرة الواحدة؛ فإنها مفهومةٌ من اللفظ قطعًا، وما زاد. . مشكوكٌ فيه، فيعرض عنه، ولا يكثر السؤال؛ لئلا يكثر الجواب، فيحصل التعنُّت والمشقة، كما مر عن بني إسرائيل، ومن ثم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا

(1) مسلم (1337).

(2)

أي: والأصح: أن مطلق الأمر لا يقتضي التكرار.

(3)

قوله: (دليل لجواز الاجتهاد له) صلى الله عليه وسلم؛ أي: في الحروب وغيرها، وهو الصحيح؛ وجه الدلالة منه: أنه علَّق الوجوب على قوله: (نعم)، وعدمه على سكوته، وهو إنما يكون بالاجتهاد، والحاصل: أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد فأدَّاه اجتهاده إلى أولوية السكوت تخفيفًا على الأمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} اهـ هامش (غ)

(4)

في هامش (غ): ("بوجه ما" أي: شيئًا هو ظاهر، أو شيئًا ظاهره كذا، فعلى النسختين لفظة "ما" مفعول "تفيد").

ص: 278

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآيةَ، نزلت -كما في "البخاري"- لمَّا أكثروا عليه صلى الله عليه وسلم السؤال تعنتًا واستهزاءً، كقول بعضهم: مَنْ أبي؟ أين ضلَّت ناقتي؟ (1)

وجاء من غير وجهٍ أنها نزلت لمَّا سألوه عن الحج وقالوا: أفي كل عام؟ (2)

وفي روايةٍ: أنه صلى الله عليه وسلم خرج وهو غضبان محمَرٌّ وجهُه، حتى صعِد المنبر، فقام إليه رجلٌ فقال: أين أبي؟ قال: "في النار" فقام آخر فقال: من أبي؟ قال: "أبوك حذافة" وكان الناس يسبونه وينسبونه لغيره، فجثا عمر على ركبتيه واعتذر عنهم حتى سكن غضبه (3)، فنزلت نهيًا لهم أن يسألوا -كما سألت النصارى في (المائدة) فأصبحوا بها كافرين- ومعلمةً لهم بأنهم ينتظرون نزول القرآن، فإنهم لا يسألون عن شيءٍ إلا وجدوا تِبيانه، قاله ابن عباس (4).

ومعناه: أن جميع ما يحتاج إليه من الدين لا بد أن يبين في القرآن ابتداءً من غير مسألةٍ، وحينئذٍ فلا حاجة للسؤال، سيما عمَّا لم يقع، وإنما المحتاجُ إليه فهمُ ما أخبر اللَّه تعالى به ورسوله، ثم اتباعه والعمل به، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث مسلم السابق:"إذا نهيتكم عن شيءٍ. . . إلخ"(5) بخلاف من صرف همته عند سماع الأمر والنهي إلى فرض ما قد يقع وقد لا، فإنه مما يثبط عن الجد (6) في امتثال الأمر والنهي.

والحاصل: أنه لا مانع من تعدُّدِ سبب النزول، وأن منه ما يسوء السائل جوابه، مثل: هل هو في الجنة أو النار؟ وهل أبوه من ينسب إليه أو غيره؟ وما كان منه على وجه التعنت والعبث والاستهزاء، كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم، وما كان فيه سؤال آية واقتراحها على وجه التعنت، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب.

(1) صحيح البخاري (4622) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه الترمذي (814)، وابن ماجه (2884) عن سيدنا علي رضي الله عنه.

(3)

أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(12806) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(12812).

(5)

تقدم تخريجه قريبًا (ص 278).

(6)

في بعض النسخ: (مما شط عن الحد).

ص: 279

وما كان سؤالًا عما أخفاه اللَّه تعالى كأمر الساعة والروح، أو عن كثيرٍ من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببًا لنزول التشديد فيه، كهو عن الحج، هل يجب كل عام؟ ومن ثم صح:"إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا من سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته"(1).

ولما سُئل صلى الله عليه وسلم عن اللعان. . كره المسائل وعابها حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله (2)، ولم يرخص في السؤال إلا لوفود الأعراب؛ لتألُّفِهم، بخلاف المقيمين عنده؛ لرسوخ الإيمان في قلوبهم.

وصح عن النَّوَّاس بن سمعان: (أقمت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنةً ما يمنعني من المسألة إلا الهجرة، كان أحدُنا إذا هاجر. . لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم (3).

وعن أنس: (نُهينا أن نسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع)(4).

وروى أحمد: (أنهم رشوا أعرابيًا بُردًا (5) حتى يسأل لهم) (6).

نعم؛ ربما سألوا عما لم يقع، نحو:(إنا لاقو العدوِّ غدًا، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقصب؟)(7).

وسأل حذيفة عن الفتن وما يفعل فيها (8).

وآثرَ (تركتكم) على (وَذَرْتُكم) ماضي (ذروني) لأن العرب لم تستعمله إلا في

(1) أخرجه البخاري (7289) بلفظ: "إن أعظم المسلمين جرمًا" وهو في بعض النسخ، ومسلم (2358) عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492) عن سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم (2553/ 15).

(4)

أخرجه مسلم (12).

(5)

في بعض النسخ: (برداءٍ) وهي كذلك في "مسند الإمام أحمد" ولعل الصواب ما أثبت بدليل تتمة الحديث في "المسند"، وانظر "جامع العلوم والحكم"(1/ 242).

(6)

مسند الإمام أحمد (5/ 266) عن سيدنا أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.

(7)

أخرجه البخاري (2488)، ومسلم (1968) عن سيدنا رافع بن خديج رضي الله عنه.

(8)

انظر الحديث في "صحيح البخاري"(7084).

ص: 280

الشعر اغتناءً عنه بـ (تَرَكَ)، وكذا (ودع) ماضي (يدع).

ومعنى "فرض اللَّه عليكم الحج": أوجبه، ومن ثَمَّ أجمعوا على وجوبه، وأنه مرةً في العمر بأصل الشرع، والأصح: أنه على التراخي؛ لأن الأمر لا يقتضي الفور على الأصح، ولأنه صلى الله عليه وسلم أخَّره عن سَنَة إيجابه، ومن ثم قال القائلون بفوريته: يجوز تأخيره السنة والسنتين (1).

وشرط وجوبه: التكليف اتفاقًا، والاستطاعة، وكذا الحرية عند الجمهور، والإسلام شرطٌ قيل: للوجوب، وقيل: للأداء (2)، والاستطاعة فسرت في حديثٍ: بالزاد والراحلة، لكن مرَّ أن منهم من صحَّحه ومنهم من ضعفه (3).

ومن ثم اختلفوا فيهما، فقال مالك: من اعتاد السؤال ببلده. . لا يحتاج لوجود زاد، ومن قدر على المشي. . يلزمه وإن بعدت المسافة، واحتج بأنه يسمى مستطيعًا عرفًا، وخالفه الشافعي والأكثرون، فقالوا: لا يجب المشي على البعيد -وهو عندنا: مَنْ بينه وبين مكة مرحلتان وإن قدر- ولا السؤال مطلقًا، وقالوا: إنه لا يُسمَّى في العرف مستطيعًا إلا إن وجد الزادَ مطلقًا، والراحلةَ إن بَعُدَ عن مكة، فأصل اختلافهم في الحكم اختلافهم في العرف.

واختلفوا أيضًا فيمن لم يستطع الحج بنفسه لعجزه عن الثبوت على المركوب، هل يخاطب بالحج فيُحَجُّ عنه في حياته بإذنه، وبعد موته من تركته أو لا؟ قال بالأول الأكثرون ومنهم الشافعي، وبالثاني مالك.

ومآل اختلافهم هنا للعرف أيضًا؛ فإن الأولين يعدونه مستطيعًا بغيره ويقولون: الاستطاعة بالغير كهي بالنفس، ومالك يقول: غير مستطيع؛ لأن الاستطاعة حيث أُطلقت إنما تنصرف للاستطاعة بالنفس.

وحديثُ الخثعمية وقولها: يا رسول اللَّه؛ إن فريضة اللَّه على عباده أدركت

(1) بناءً على أنه فُرض في السنة الثامنة وأخَّره صلى الله عليه وسلم إلى العاشرة. اهـ "مدابغي"

(2)

فعلى الأول: لا قضاء على الكافر إذا أسلم وهو المعتمد، وعلى الثاني: يجب عليه القضاء كالمرتد. اهـ هامش (غ)

(3)

في هامش (1): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرفة).

ص: 281

أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال:"نعم"(1)، وفي روايةٍ: لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعير، وفي أُخرى: عليه فريضة اللَّه في الحج، وفي أخرى:"فحجي عنه"(2). . ظاهرٌ في الدلالة للأولين (3)، وتكلَّف المالكية للجواب عنه بما يأباه ظاهره، ومنه (4): أن ظاهر الاستطاعة في القرآن يخالفه، فقُدِّم لتواتره.

ويجاب عنه بأنه مبنيٌّ على ما مر لهم أن المفهوم من الاستطاعة عرفًا: الاستطاعة بالنفس، ومرَّ أنه محل النزاع، وأنه يحتمل أن معنى (أدركتْهُ) أنه فرض وهو مريضٌ، وترده الرواية الأخيرة، وأن هذا ظنٌّ منها وليس مطابقًا للواقع، ويرد: بأن هذا مجرد دعوى، وإلَّا. . فسكوته صلى الله عليه وسلم على سؤالها وإجابته عليه ظاهر في تقريره وصحته، وأنَّ أمرها بالحج إنما هو من باب التطوع وإيصال الخير للميت، بدليل قوله للأخرى لما قالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج، أفأحج عنها؟ قال:"حجي عنها، أرأيت لو كان على أمكِ دينٌ أكنت قاضيتَه عنها؟ " قالت: نعم (5).

ويرد بأن الأصل في الأمر: الوجوب، وهو عندنا واجبٌ على وارثٍ خلَّف ميِّتُه تركةً، وقد مات وعليه حجة إسلامٍ، أو نذرٍ، فالأمر على قواعدنا باقي على حقيقته في الحديثينِ، وعلى قواعدهم مخرجٌ عنها، وإخراجه عنها يحتاج لدليلٍ يخرجه عنها، ومجردُ دعوى أنه من ذلك الباب ليس دليلًا، ودعوى اختصاصه بها، أو أنه مضطربٌ غيرُ مقبولة؛ إذ الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والاضطرابُ على نحو ما في هذا الحديث غيرُ مؤثر.

وفي الحديث ردٌّ على مَنْ منع حجَّ المرأة عن الرجل، والحج عن الغير مطلقًا،

(1) أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (1334) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

عند مسلم (1335) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

قوله: (ظاهرٌ في الدلالة) خبر لقوله: (وحديث الخثعمية).

(4)

أي: وممَّا يأباه ظاهره.

(5)

أخرجه البخاري (7315)، والبيهقي في "الكبرى"(4/ 335)، والطبراني في "الكبير"(12/ 40) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 282

وحكي عن مالك، والذي عليه الشافعيُّ وجمهور الفقهاء جوازُه عمَّن عليه فرضٌ ولو قضاءً أو نذرًا وإن لم يوصِ به، وعمن أوصى به ولو تطوعًا، وعن حيٍّ معضوبٍ بإذنه (1)، ويدل له خبر:"إن اللَّه تعالى يدخل بالحجة الواحدة الجنة ثلاثةً: الميت، والحاج، والمنفذ لذلك"(2) ولا يضر أن في إسناده أبا معشر، لأنه يحتج به؛ لأنه مع تضعيف الأكثرين له يُكتَب حديثه.

وخبر: أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة، قال:"من شبرمة؟ " قال: أخٌ لي، فقال:"حججتَ عن نفسكَ؟ " قال: لا، قال:"حج عن نفسك، ثم عن شبرمة"(3).

والجمهور على كراهة إجارة الإنسان نفسه للحج، وينبغي حمله على مَنْ قصد الدنيا، أما مَنْ قصد الآخرة لاحتياجه للأجرة ليصرفها في واجبٍ أو مندوبٍ. . فلا كراهة في حقه.

* * *

(1) قوله: (عن معضوب) بضاد معجمة؛ أي: عاجز عن النسك بنفسه لكبرٍ أو غيره؛ كمشقةٍ شديدة بألَّا يستمسك على المركوب بلا مشقة شديدة. اهـ هامش (غ)

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 180) عن سيدنا جابر رضي الله عنه.

(3)

تقدم تخريجه (ص 129) في شرح الحديث الأول.

ص: 283