المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاِتلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيموا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ. . عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (1).

(عن) عبد اللَّه (بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أُمرت)(2) أي: أمرني اللَّه تعالى؛ إذ ليس فوق رتبته صلى الله عليه وسلم من يأمره إلا اللَّه تعالى، ومن ثَمَّ لم يأت فيه الاحتمال في قول الصحابي: أمرنا، أو: نهينا؛ لأن فوقه من يمكن إضافة الأمر إليه غير النبي صلى الله عليه وسلم من نحو خليفةٍ، ومعلمٍ، ووالدٍ، ورئيسٍ، لكن لما بَعُدَ هذا وكان الظاهر من حال الصحابي أنه لا يطلق ذلك إلا إذا كان الآمر أو الناهي هو النبي صلى الله عليه وسلم. . كان الأصح: أن له حكم المرفوع، وكأنه قال: أمرنا، أو: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم.

وحذف الفاعل هنا تعظيمًا، من قولهم: أمر بكذا، ولا يذكرون الآمر تعظيمًا له وتفخيمًا.

(أن) أي: بأن؛ لأن الأصل في (أمر) أن يتعدَّى لمفعولينِ، ثانيهما بحرف الجر، فـ (أمرتُك الخيرَ) قليلٌ (3).

(1) صحيح البخاري (25)، ومسلم (22).

(2)

في نسخ متن "الأربعين": (أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(3)

ومنه قول الإمام البوصيري رحمه اللَّه تعالى من قصيدته "البردة"(ص 11): (من البسيط)

أمرتُكَ الخيرَ لكن ما ائتمرتُ به

وما استقمتُ فما قولي لك: استقمِ

ص: 259

(أقاتل الناس) أي: عبدة الأوثان منهم دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا اللَّه، ثم يقاتِلون، ولا يُرفع عنهم السيف حتى يقروا بالشهادتين، قاله الخطابي (1).

لكنه إنما يجيء في رواية أبي هريرة؛ لاقتصارها على: (لا إله إلا اللَّه)، أما على رواية ابن عمر. . فالمراد بهم: جميع الكفار، وتارك الصلاة، أو الزكاة وإن كانوا مسلمين كما دل عليه الحديث، ويأتي موضَّحًا في شرحه، فتخصيص جمع من الشُّراح الناسَ هنا بما قاله الخطابي وَهَمٌ؛ لِمَا عرفت.

وإنما لم تدخل الجن، مع أن لفظ (الناس) قد يشملهم، كما قاله الجوهري، ورسالته صلى الله عليه وسلم عامة لهم إجماعًا؛ لأنه لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم قاتل نوعًا منهم داعيًا لهم للتوحيد، كما فعل ذلك بالإنس، وإنما الذي جاء: أن جماعاتٍ منهم كجن نصيبين وغيرهم أسلموا على يديه صلى الله عليه وسلم من غير قتال.

(حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه) مرَّ في بحث الإسلام الكلام على الشهادتين وما يشترط فيهما، فراجعه (2)، وصريح هذا أن الآتي بهما مؤمنٌ حقًا، وإن كان مقلدًا بالمعنى الذي قررناه ثَمَّ في مبحث الإيمان مع دليله، قال المصنف:(وهو مذهب المحققين، والجماهير من السلف والخلف، واشتراط تعلُّمِ أدلة المتكلمين ومعرفة اللَّه تعالى بها، وإلَّا. . لم يكن من أهل القبلة. . خطأٌ ظاهرٌ؛ فإن المراد: التصديق الجازم، وقد حصل، ولأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به، ولم يشترط المعرفة بالدليل، وقد تظاهرت بهذا أحاديث في "الصحيح" يحصل بمجموعها التواتر والعلم القطعي) اهـ (3)

(و) حتى (يقيموا الصلاة) أي: يأتوا بها على الوجه المأمور به، أو يداوموا

(1) انظر "معالم السنن"(2/ 141).

(2)

انظر ما تقدم (ص 145) من شرح الحديث الثاني.

(3)

انظر "شرح صحيح مسلم"(1/ 210 - 211).

ص: 260

عليها، كما مر بسطه، وفيه دليلٌ لقتل تاركها غير الجاحد لوجوبها (1)، وهو ما عليه أكثر العلماء؛ لأنه غيَّا الأمر بالقتال بفعلها، فما لم يفعلها. . فهو مقاتَل وجوبًا (2)، ويلزم من قتاله قتله غالبًا أو احتمالًا، فدلَّ على جوازِ بل وجوبِ قتله، وسياقُ الحديثِ وإن كان في الكافر، لكن المسلم أَولى منه بذلك؛ لأنه تركها مع اعتقاده وجوبها، بخلاف الكافر، ومن ثم قضى المرتد بعد إسلامه ما فاته زمن ردته، بخلاف الكافر الأصلي، وأيضًا: الغاية هنا في معنى الشرط، وحينئذٍ فكفُّ القتال مشروطٌ بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والمشروط ينتفي بانتفاء أحد شروطه، فإذا انتفى فعل الصلاة. . وجد القتال المقتضي لجواز، بل وجوب القتل كما مر.

(و) حتى (يؤتوا الزكاة) إلى مستحقيها، ومثلها في قتال الممتنعين منها بقيةُ شرائع الإسلام، وإنما لم نقل بأن تاركها يقتل وإن قال به جماعة؛ لأنه إن امتنع. . أمكن تخليصها منه بالقتال، وإلَّا. . أمكن تخليصها بلا قتال، فلم يجز القتل هنا حينئذ؛ إذ لا ضرورة إليه، بخلافه في تارك الصلاة؛ لأنه إذا امتنع. . لم يمكن استيفاؤها منه، فغلظت عقوبته بالقتل ما لم يتب بأن يصلي.

(فإذا) آثرها على (إنْ) مع أن المقام لها (3)؛ لأن فعلهم متوقعٌ؛ لأنه علم إجابة بعضهم فغلَّبهم لشرفهم، أو تفاؤلًا، نحو: غفر اللَّه لك.

(فعلوا ذلك) جميعه؛ أي: أتوا به: قولًا كان وهو الشهادتان، أو: فعلًا وقولًا وهو الصلاة، أو: فعلًا محضًا وهو الزكاة، (عصموا) منعوا وحفظوا، ومنه: اعتصمت باللَّه؛ أي: امتنعت بلطفه من معصيته، والعصام: ما يربط به فم القِربة لمنعه سيلان مائها.

(منِّي دماءهم وأموالهم) وهي: كل ما صح إيراد نحو البيع عليه، وأُريد بها هنا

(1) قوله: (لقتل تاركها) أي: على قتل، فاللام بمعنى (على) أو المراد: فيه دليل لقول من قال بقتل تاركها. اهـ هامش (غ)

(2)

قوله: (فما لم يفعلها) ما: مصدرية ظرفية؛ أي: فمدة عدم الفعل فهو مقاتَلٌ.

(3)

أي: آثر (إذا) بن الاستعمال على (إنْ).

ص: 261

ما هو أعم من ذلك حتى يشمل الاختصاصات، ولا ينافي ما تقرر من توقف العصمة على هؤلاء الثلاثة ما هو معلومٌ بالضرورة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يعصم الدم بالشهادتين، ومن ثم اشتد نكيره على أسامة؛ لقتله مَنْ قالهما (1)، ولم يشترط على مريد الإسلام التزام صلاةٍ ولا زكاة، بل روى أحمد: أنه قَبِلَ إسلامَ مَنِ اشترط أن لا زكاة ولا جهاد (2)، ومن اشترط ألَّا يصلي إلا صلاتين (3)، ومن اشترط أن يسجد من غير ركوع (4)، ومن ثم قال أحمد: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يُؤمَر بشرائع الإسلام كلها.

وخبر: (لم يكن صلى الله عليه وسلم يقبل من أجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. . .) الحديث. . ضعيفٌ جدًا (5).

ووجه عدم المنافاة: أنه وإن كان يقبل مجرد النطق بالشهادتين، لكنه لا يقر مَنْ نطق بهما على ترك صلاةٍ ولا زكاةٍ، ومن ثَمَّ أمر معاذًا لمَّا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أن يدعوهم أولًا إلى الشهادتين، وأن مَنْ أطاعه بهما. . أعلمه بالصلاة، ثم بالزكاة (6).

وبهذا عُلِم الجمع بين هذه الرواية ورواية أبي هريرة الآتيةِ المفيدةِ العصمةَ بمجرد النطق بالشهادتين؛ لأن معناها كما عُرف أنه بهما يعصم، ويحكم بإسلامه، ثم إن أتى بشرائع الإسلام. . فظاهر، وإلَّا. . قُوتل ذو المنعة.

وزعْمُ أنه يقاتل حتى يأتي بالثلاثة ابتداءً التزامًا وفعلًا (7)، فيكون حجة على خطاب الكفار بالفروع. . منظرٌ فيه بما في خبر مسلم يوم خيبر حين أعطى الراية لعليٍّ رضي الله عنه ثم قال: على ماذا أقاتلهم؟ قال: "على أن يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن

(1) أخرجه مسلم (97) عن سيدنا جندب بن عبد اللَّه البجلي رضي الله عنه.

(2)

انظر "مسند الإمام أحمد"(3/ 341) عن سيدنا جابر رضي الله عنه، والتي اشرطت ذلك قبيلة ثقيف.

(3)

مسند الإمام أحمد (5/ 25) عن رجل.

(4)

مسند الإمام أحمد (3/ 402) عن سيدنا حكيم بن حزام رضي الله عنه.

(5)

أخرجه محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(12) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

(6)

أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.

(7)

أي: لا نكف عن قتاله حتى يفحل الثلاثة ملتزمًا لوجوبها عليه. اهـ هامش (غ).

ص: 262

محمدًا رسول اللَّه، فإذا فعلوا ذلك. . عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها" (1)، فجعل مجرد الإجابة إليهما عاصمةً للنفوس والأموال إلا بحقِّها، ومنه الامتناع من الصلاة أو الزكاة بعد الإسلام كما فهمتِ الصحابةُ في القصة الآتية، فعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعصم بمجرد الشهادتين.

ثم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة؟ وإلَّا. . لم يمتنع من قتالهم (إلا بحق الإسلام) فلا يعصم حينئذٍ دمه ولا ماله، وفسر هذا الحق في حديثٍ بأنه:(زنًا بعد إحصان، أو كفرٌ بعد إيمان، أو قتل النفس التي حرم اللَّه تعالى)(2).

وقضيته: أن الزاني والقاتل تباح أموالهما، وليس مرادًا، فكأنه غلَّب الكافر عليهما، وبه يردُّ على من قال: فيه دليلٌ على كفر تارك الصلاة؛ لأن مفهومه أنهم إذا لم يفعلوا ذلك. . لم يعصموا مني دماءهم وأموالهم بحق الكفر؛ لأن حق الإسلام ذكر بعد (إلا) وما بعدها يخالف ما قبلها. اهـ

على أنه يلزم عليه كفر تارك الصلاة (3)، وهو ضعيفٌ جدًا؛ وأيضًا فلا يُحتاج لهذا التكلف لو سُلِّمت صحته؛ لما في حديث مسلمٍ من التصريح بكفر تارك الصلاة (4)، لكن حمله الجمهور على المستحل.

ثم الحكم عليهم بما ذكر إنما هو باعتبار الظاهر (و) أما باعتبار البواطن والسِّرِّ. . فأمرهم ليس إلى الخلق؛ إذ (حسابهم) أي: حساب بواطنهم وسرائرهم (على اللَّه)(5) إذ هو المطلع وحده على ما فيها من إيمانٍ وكفرٍ ونفاقٍ وغير ذلك.

فمن أخلص في إيمانه. . جازاه جزاء المخلصين، ومن لا. . أجرى عليه في الدنيا

(1) صحيح مسلم (2405) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الضياء في "المختارة"(1917) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

(3)

الصواب: تارك الزكاة. اهـ هامش (ج).

(4)

صحيح مسلم (82) عن سيدنا جابر رضي الله عنه.

(5)

قوله: (وحسابهم على اللَّه): (على) بمعنى اللام، أو بمعنى (إلى) فما أفهمه لفظ العلاوة من الوجوب. . غير مراد، ولئن سلم. . فهو للتشبيه؛ أي: هو كالواجب على اللَّه في تحقُّق الوقوع، أو بحسب وعده، هذا ما عليه أهل السنة، وأما عند المعتزلة. . فهو على ظاهره؛ لأن الحساب عندهم واجب عقلًا. اهـ "مدابغي"

ص: 263

أحكام المسلمين، وكان في الآخرة من أسوأ الكافرين، فرب عاصٍ في الظاهر يصادف عند اللَّه خيرًا، وبالعكس.

ومن ثَمَّ صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم لتختصمون إليَّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض. . . " الحديث (1)، وقال:"نحن نحكم بالظاهر، واللَّه يتولى السرائر"(2)، وقال:"ما أُمرت أن أشق عن قلوب الناس ولا بطونهم"(3)، وقال:"فهلَّا شققت عن قلبه. . . " الحديث (4)، وقال تعالى:{فَإِن تَابُوا} أي: أسلموا {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، وفي الآية الأخرى:{فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} .

وما فهم منهما من أن من ترك واحدة من الثلاثة لا يُخلَّى سبيله وليس بأخٍ لنا. . موافقٌ للحديث الذي نحن فيه، وبهما يظهر قول الشافعي ومالك: يقتل تارك الصلاة وإن اعتقد وجوبها كما مر، ويُرَدُّ قول المرجئة: إنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

وفي تلك الأحاديث والآيتين دليلٌ أيضًا على أن من أظهر الإسلام وأسرَّ الكفر. . قُبِلَ إسلامه ظاهرًا، وهو ما ذهب إليه الجمهور، وقال مالك وأحمد: لا تقبل توبة الزنديق، ولأصحابنا فيه خمسة أوجه؛ أصحها: قبول توبته مطلقًا وإن تكررت أو كانت تحت السيف، أو كان داعية إلى الضلال.

(رواه البخاري) بلفظه المذكور جميعه (ومسلم) ما عدا قوله: "إلا بحق الإسلام" وعجيبٌ من المصنف رحمه اللَّه تعالى مع شدة تحقيقه وحفظه كيف أوهم أن كلًّا من الشيخينِ خرجه جميعه (5).

(1) أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713) عن أم المؤمنين سيدتنا أم سلمة رضي الله عنها.

(2)

ذكره الملا علي القاري رحمه اللَّه تعالى في "المصنوع"(38)، وانظر تعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله.

(3)

أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064/ 144) بنحوه عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم (96)، وأبو داوود (2643) عن سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

(5)

رواه البخاري ومسلم في (كتاب الإيمان) إلا أن مسلمًا لم يذكر في حديثه عن ابن عمر رضي الله عنه: "إلا بحق الإسلام"، لكنه قال في رواية له عن أبي هريرة رضي الله عنه:"إلا بحقها"، وفي رواية أخرى:"إلا بحقه"، فنسبه المؤلف إلى تخريجه بالنظر إلى مجموع رواياته، وذلك يقع للمحدثين كثيرًا، ولا ينكره إلا من لم =

ص: 264

وهو حديثٌ عظيمٌ مشتملٌ من قواعد الدين على مهماتها كما ظهر بما قررناه في شرحه وما يأتي أيضًا، وفيه بيانٌ واضحٌ أن للإيمان أجزاءً وشُعَبًا: منها ما هو فرضٌ على كل مكَّلفٍ في كل حالٍ وهو الأُولى (1)، أو في بعضها وهو الثانية (2)، وما هو فرضٌ على بعض الآدميين ولو غير مكلف وهو الثالثة.

والمراد بوجوبها على غير المكلف: وجوبها في ماله، والمخاطب بإخراجها منه وليُّه، فيلزمه -إن لم يكن حنفيًا- إخراجُها فورًا وإن منعه الإمام.

واستفيد من تلك الثلاثة: أنه يلحق بكل واحدةٍ منها في كونه جزءًا وشعبةً من الإيمان ما هو في معناه.

وفيه زيادة على حديث أبي هريرة الذي روياه أيضًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك. . عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"(3)، وفي رواية:"حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فمن قال لا إله إلا اللَّه. . عصم مني. . . إلخ"(4)، وخرجه مسلم عن جابر بهذا اللفظ، وزاد: ثم قرأ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (5) على حديث أنسٍ الذي رواه مسلم، وإن كان الآخر فيه زيادة أيضًا وهو:"أُمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك. . حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين"(6).

= يمارس فنَّهم، وبذلك زال العجب وبطل الشغب الذي طول به الشارح الهيتمي على المؤلف رحمهما اللَّه تعالى. اهـ "الفتوحات الوهبية" للشبرخبتي (ص 130)

وفي هامش (خ): (ويمكن أن يجاب عن المصنف بأن مراده: أنهما اتفقا على أصل هذا الحديث وإن لم يتفقا على توابعه التي من جملتها الاستثناء).

(1)

أي: حتى حال الحيضِ والنفاسِ، فمتى بلغته الدعوة. . وجب النطق بالشهادتين.

(2)

أي: الصلاة؛ لأنها لا تجب في حال الحيض والنفاس.

(3)

أخرجه مسلم (21/ 34) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري (2946) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

صحيح مسلم (21/ 35).

(6)

أخرجه الضياء في "المختارة"(1916)، وأبو داوود (2641)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 92) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

ص: 265

وليس في الأحاديث الثلاثة ذكر الصوم والحج، مع ذكرهما في حديث جبريل السابق والذي بعده، فيحتمل أن هذه الثلاثة كانت قبل فرضهما، وحينئذٍ فيُستفاد من ذَينِك الحديثين ضم الصوم والحج إلى ما في هذه الأحاديث، فيُعْطَيان حكمه من المقاتلة عليهما، والعصمة بفعلهما (1)، على أن لك أن تقول: إنهما داخلان في قوله في حديث أبي هريرة: "وبما جئت به" فإنه شاملٌ لذَيْنِك وغيرهما من جميع ما عُلِم من دينه صلى الله عليه وسلم بالضرورة، وبهذا يزول ذلك التكلُّف، ويتضح الأمر.

ثم رأيت المصنف رحمه اللَّه تعالى صرَّح بذلك فقال بعد الثلاثة المذكورة في حديث ابن عمر: (لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم كما في رواية أبي هريرة: "ويؤمنوا بما جئت به") اهـ (2)

ويحمل تعميمه على ما ذكرته من المعلوم من الدين بالضرورة (3)؛ لما مر في بحث الإيمان في حديث جبريل (4).

وما حكي عن سفيان بن عيينة: أن حديث أبي هريرة كان أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة. . يرده أن رواته إنما صحبوه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، بل لم يصحبه أبو هريرة إلا في فتح خيبر سنة سبع، على أن قوله:"عصموا مني. . . إلخ" صريحٌ في أنه كان مأمورًا بالقتال، وهو لم يؤمر به إلا بعد وصوله للمدينة وإقامته فيها نحو السنة.

هذا ومن العجب أن حديث ابن عمر هذا الذي ساقه المصنف نصٌّ في قتال مانعي الزكاة ولم يبلِّغه أبا بكر وعمر رضي اللَّه تعالى عنهما مع تشاجرهما في قتالهم واختلاف رأيهما فيه، فاستدل أبو بكر بالحديث الثاني فقال: الزكاة من حقها، وبقياسها على

(1) والمعتمد: أنه لا يُقاتَل على الصوم، وإنما هو يحبس ويمنع المأكل والمشرب، والحج لا يُقاتل عليه؛ لأنه على التراخي. اهـ "مدابغي"

(2)

شرح صحيح مسلم (1/ 207).

(3)

قوله: (ويحمل تعميمه) أي: قول الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى: (لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم، وقوله: (على ما ذكرته) متعلق بـ (يحمل) والمعنى: أن قول النووي رحمه اللَّه تعالى: (بجميع ما جاء به) يخص بالمعلوم بالدين بالضرورة وإن كان شاملًا له ولغيره، فتأمل! واحذر تحريف بعض النسخ:(يحمل) بـ (يحتمل) اهـ "مدابغي"

(4)

انظر (ص 157 - 159) من شرح الحديث الثاني.

ص: 266

الصلاة، وعمر بأنه اقتصر على قول: لا إله إلا اللَّه، وهم يقولونها؛ أي: مع الشهادة الأخرى؛ للقطع بأن تلك لا تكفي وحدها، أو أنهما لتلازمهما عبَّر بإحداهما عن الجميع، ولعل ابن عمر لم يعلم بما وقع بينهما لمرضٍ أو سفرٍ، أو كان ناسيًا إذ ذاك لمروِيِّه.

ورواية ابن خزيمة في "صحيحه" وغيره: أن أبا بكر استدل بحديث ابن عمر (1)، قال أئمة الحفاظ: إنها خطأ، ولم يكن حديث ابن عمر عنده منه شيء؛ وإلَّا. . لم يحتج للاستنباط والقياس السابقَينِ.

وبهذا يعلم جلالة علم أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه، ودقيق استنباطه وقياسه الصريح في أن قتال تارك الصلاة كان مجمعًا عليه بين الصحابة، وفي أن العموم الذي احتج به عمر يُخَصُّ بالقياس؛ فإنه فيهما وافق هذا النص دون عمر، مع ما علم من موافقاته الكثيرة للنصوص، ليمتاز عليه أبو بكر في أخص الأوصاف وأجلها، وهو العلم، وقد بسطت الكلام على علمه وموافقات عمر في كتابي "الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين والابتداع والضلال والزندقة"(2).

هذا ولا بأس ببسط قضيتهما في ذلك؛ فإنه وقع فيها خبط، وحاصلها -كما قال الخطابي وغيره-: أنه صلى الله عليه وسلم لما توفي واستُخْلِف أبو بكر بعده. . ارتد بعض العرب، ومنع الزكاة بعضهم، فعزم أبو بكر على قتال الجميع، فنازعه عمر في المانعين، واستدل كلٌّ منهما بما مر، وكان الحق مع أبي بكر كما تقرر.

ثم المرتدون منهم من عاد إلى ما كان عليه من عبادة الأوثان، ومنهم من تابع مسيلمة في دعواه النبوة؛ كبني حنيفة وقبائل غيرهم، ومنهم من تابع الأسود العنسي في دعواه إياها باليمن، ولم يبقَ مسجدٌ يعبد اللَّه تعالى فيه في بسيط الأرض إلا مسجدا مكة والمدينة، ومسجدٌ بجُواثا من أرض البحرين به جمعٌ من الأزد محصورون إلى أن فتح اللَّه تعالى اليمامة بقتل مسيلمة اللعين.

ومانعو الزكاة منهم من أنكر فرضها ووجوب أدائها إلى الإمام، وهم في الحقيقة

(1) انظر "صحيح ابن خزيمة"(2247) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

انظر (ص 35 و 99) منه وما بعدهما.

ص: 267

أهل بغيٍ ولم يُدْعَوا به حينئذٍ؛ لدخولهم في غمار أهل الردة، فأطلقت عليهم، ومن ثم لما انفرد البغاة في زمن علي كرم اللَّه وجهه. . سُمُّوا بغاة، ومنهم من سمح بها لأبي بكر إلا أن رؤساءهم منعوهم، وهؤلاء هم الذين وقعت فيهم المناظرة السابقة، ثم بان لعمر صواب رأي أبي بكر، فوافقه على قتالهم لا تقليدًا (1) -لأن المجتهد لا يقلد مجتهدًا- بل لِما اتضح عنده من الدليل الذي ذكره أبو بكر.

وقد زعم من لا خلاق له ولا دين من الرافضة -وإنما رأس مالهم البهت والكذب- أن قتاله إياهم كان عسفًا وظلمًا، وأنه أول من سبى المسلمين مع وجود شُبَه قامت عندهم يعذرون بها، وترفع السيف عنهم، وهي قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية، فالخطاب خاصٌّ به صلى الله عليه وسلم، وليس لأحدٍ من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما له صلى الله عليه وسلم.

وهذا الزعم واضح البطلان؛ لما مر أن منهم من ارتد بدعائه إلى نبوة من مر، ومنهم من أنكر الشرائع كلها، فهؤلاء هم الذين رأى أبو بكر سبيهم، ووافقه أكثر الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم، ومنهم علي كرم اللَّه وجهه الواجبُ العصمةِ عندهم؛ فإنه استولد جاريةً من سبي بني حنيفة وأولدها محمدَ ابن الحنفية الذي يزعم بعض الرافضة ألوهيته.

قال الخطابي: (ثم لم ينقضِ عصرُ الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يُسبى)(2) أي: ومن ثم لما استخلف عمر. . ردَّ عليهم سبيهم، لكن أصبغَ -من أصحاب مالك- قائلٌ برأي أبي بكر من سبي أولاد المرتدين، وهو قياس قولِ مَنْ قال من أصحابنا: إنهم كالكفار الأصليين، فحكاية الخطابي الإجماع لم تتم له.

وإنما أُضيفت الردة لمانعي الزكاة مع بقاء إيمانهم؛ إرادةً لمعناها اللغوي، أو لمشاركتهم أهلها في منع بعض حقوق الدين، وما ذكروه في الآية جهلٌ منهم؛ فإن خطاب القرآن إما عامٌّ نحو:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، وإما خاصٌّ به صلى اللَّه عليه

(1) في (غ): (فوافقه على قتالهم اجتهادًا لا تقليدًا).

(2)

عالم السنن (2/ 138)، وانظر (2/ 136 - 137) منه.

ص: 268

وسلم، وهو ما صرح له فيه بذلك نحو:{فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} ، {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .

فإن لم يصرح له فيه بذلك. . عَمَّ أمته نحو: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الآية، ومنه:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية، فالإمام بعده مثله فيه.

وفائدة خطابه: تعليم الأمة سلوك طريقته صلى الله عليه وسلم، ومن هذا قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآيةَ، فخُوطب بالنبوة خصوصًا، وبالحكم عمومًا، بل قد يُخاطَب ويُراد غيره نحو:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} الآيةَ (1).

وما ذكروه من التطهير وغيره. . يُنال بطاعة اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كل ثوابٍ مقيدٌ لعمل برٍّ كان في زمنه صلى الله عليه وسلم. . باقٍ غيرُ منقطع.

ويسن لآخذ الصدقة الدعاءُ لمؤدِّيها باليُمْنِ والبركة في ماله، ويرجى أن يستجيب اللَّه سبحانه وتعالى له.

لا يقال: إنكار فرض الزكاة كفرٌ، فكيف مر أنهم بغاة؟! لأنا نقول هذا بالنسبة لزماننا؛ فإنها فيه صارت معلومةً من الدين بالضرورة، وكل ما هو كذلك. . إنكاره كفر، بخلافها ذلك الزمن؛ لقرب عهدهم بالإسلام مع جهلهم بالأحكام واحتمال النسخ، على أن إنكار المعلوم من الدين بالضرورة في زمننا من قريب العهد بالإسلام وممن لم يخالط المسلمين. . لا يكون كفرًا (2).

وهذا أوجه من قول القاضي عياض: (إن منكري وجوبها من قسم المرتدين، إلا أن يريد ما قررناه في معنى ذلك، لكنه بعيدٌ من قوله: إن أبا بكر قاتلهم لكفرهم)(3).

(1) انظر "تفسير الإمام القرطبي" رحمه اللَّه تعالى (8/ 385).

(2)

انظر "معالم السنن"(2/ 138 - 140).

(3)

انظر "إكمال المعلم"(1/ 243 - 244).

ص: 269